الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
رجل قتل عمدا وله ابنان فصالح أحدهما [ ص: 11 ] من حصته على مائة درهم فهو جائز ، ولا شركة لأخيه فيها ; لأنه أسقط نصيبه من القود بعوض ، ولو أسقط بغير عوض جاز والمال عوض عن القصاص استحقه بالعقد ، وهو المباشرة للعقد ، فلا شركة لأخيه فيها باعتبار العقد ، ولا باعتبار الشركة في أصل القود ; لأن ذلك ليس بمال ، ثم كل ما يصلح أن يكون صداقا في النكاح يصلح أن يكون عوضا في الصلح عن القصاص ; لأنه مال يستحق عوضا عما ليس بمال بالعقد وعلى هذا يجوز التصرف في بدل الصلح قبل القبض ، وإن كان عينا كما يجوز التصرف في الصداق ; لأنه لم يبق في الملك المطلق للتصرف عذر حتى لا يبطل بالهلاك ولكن تجب قيمته ، وكذلك لو استحق العبد كان على القاتل قيمته ; لأن بالاستحقاق لا يبطل الصلح ولكن تعذر استيفاء العبد مع قيام السبب الموجب له فتجب قيمته كما في الصداق ، وهذا لأن الصلح عن القود لا يحتمل الفسخ بالتراضي كالنكاح بخلاف الصلح عن المال .

وكذلك إن وجد به عيبا فاحشا فرده رجع بقيمته ، ولا يرده بالعيب اليسير كما في الصداق ، ولو كان العبد حرا كان على القاتل الدية لأولياء القتيل في ماله وعلى قياس قول أبي يوسف رحمه الله : عليه قيمته أن لو كان عبدا . وأصل الخلاف في الصداق ، وقد بيناه في النكاح .

ولو اختلفا في العبد الذي وقع الصلح عليه كان القول فيه قول القاتل مع يمينه ; لأن القابل للقود سقط باتفاقهما ، وإنما تنازعا في المال المستحق على القاتل بمقابلته فالقول فيه قوله مع يمينه كما في الخلع بخلاف الصداق عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله ، فإن هناك يصار إلى تحكيم مهر المثل ; لأن صحة النكاح موجبة مالا ، وهو مهر المثل ، فعند الاختلاف في المسمى يصار إلى موجبه الأصلي وهنا ليس لسقوط القود بالعفو موجب من حيث المال فيكون هذا نظير الخلع ، وإن كان القتل خطأ فصالحه أحدهما على مال كان لشريكه أن يشركه في ذلك ; لأن الواجب في الخطأ الدية ، وهو مال وجب مشتركا ، وصلح أحد الشريكين من الدين المشترك على شيء - صحيح ، ولشريكه أن يشركه في ذلك ، ولو صالح أحدهما من نصيبه على عبد بعينه كان لشريكه أن يشركه في ذلك إلا أن يشاء المصالح أن يعطيه ربع الأرش ويمسك العبد كما في سائر الديون المشتركة إذا صالح أحدهما من نصيبه على عين ، وهذا لأنه يملك العبد بالعقد ، وهو في العقد عامل لنفسه فله أن يختص به ويعطي صاحبه ربع الأرش ; لأن ذلك أصل حقه فيما وقع الصلح عنه ، وهو نصف الأرش ، وإن شاء أبى ذلك وأعطاه نصف العبد ; لأن مبنى الصلح على التجوز بدون الحق ، وهو يقول إنما توصلت إلى حقي ; لأني رضيت [ ص: 12 ] بدون حقي فعليك أن ترضى به أيضا وتأخذ نصف ما وقع عليه الصلح إن شئت ، وإلا فاتبع القاتل بحقك .

ولو صالحه من ذلك على عرض بغير عينه لم يجز ; لأن هذا العرض بمقابلة الدية يكون بيعا وبيع ما ليس عند الإنسان لا يجوز ، وكذلك لو صالحه على موصوف من المكيل أو الموزون مؤجلا والمكيل والموزون إذا قوبل بالنقد يكون مبيعا ، ولو صالحه منه على عبد بعينه فاستحق أو مات قبل أن يقبضه رجع بنصف الأرش ; لأن هذا صلح عن مال على مال ، وهو محتمل للفسخ فبالاستحقاق أو الهلاك قبل التسليم يبطل الصلح ، وكذلك لو وجد به عيبا صغيرا أو كبيرا رده ; لأن المصالح عليه بمنزلة المبيع في الصلح عن المال فيرد بالعيب اليسير والفاحش وليس له أن يتصرف فيه قبل أن يقبضه كما في المبيع ، وكذلك لو صالح عن الجاني غيره بإقرار أو إنكار كما في الصلح عن سائر الديون ، ولو صالحه من دم العمد على سكنى دار أو خدمة عبد سنة جاز ; لأن المنفعة المعلومة يجوز استحقاقها عوضا في الصلح عن المال ففي الصلح عما ليس بمال أولى ، وقد بينا أن هنا العوض بمنزلة الصداق والسكنى

والخدمة إذا كانت معلومة ببيان المدة تثبت صداقا في النكاح ، وإن صالحه عليه أبدا أو على ما في بطن أمته أو على غلة نخله سنين معلومة أو أبدا لم يجز ; لأن هذا كله لا يثبت صداقا بالتسمية في النكاح فكذلك لا يستحق عوضا عن دم العمد في الصلح ، وهذا بخلاف الخلع ، وإنها لو اختلعت نفسها على ما في بطن أمتها صحت التسمية والفرق من وجهين : أحدهما : أن بالخلع المرأة لا تستحق شيئا هو متقوم ولكن يبطل ملك الزوج عنها والبضع عند خروجه من ملك الزوج غير متقوم فكان التزامها بالوصية والإقرار - وذلك صحيح - مضافا إلى ما في البطن ولهذا لو اختلعت بمال في مرضها اعتبر من ثلثها كالوصية ، وأما الصلح عن القود فالقاتل يستفيد العصمة والمتقوم في نفسه ولهذا لو صالح في مرضه على قدر الدية اعتبر من جميع المال فكان المال عوضا عما هو متقوم في حق من التزمه فيكون نظير الصداق ; لأن البضع عند دخوله في ملك الزوج متقوم فيكون الصداق عوضا عما هو متقوم في حق من التزمه والجنين لا يصلح عوضا في مثله .

يوضح الفرق أن أحد البدلين في الخلع ، وهو الطلاق يحتمل الإضافة فكذلك البدل الآخر ، والإيجاب في الجنين بمعنى المضاف إلى حال بعضها إذا جني ، وهو وحده حقيقة لا يصير معلوما إلا عند ذلك ، فأما في الصلح فأحد البدلين ، وهو إسقاط القود لا يحتمل التعليق والإضافة بالشرط فكذلك البدل الآخر ، فلا يمكن تصحيحه في الجنس مضافا ، ولا يمكن [ ص: 13 ] تصحيحه في الحال ; لأنه غير معلوم الوجود والتقوم فكان كالصداق من هذا الوجه ، ثم على القاتل الدية ; لأن فساد التسمية لا يمنع سقوط القود كما أن فساد التسمية لا يمنع صحة النكاح ، وإذا سقط القود وجبت الدية ; لأن الولي ما رضي بسقوط حقه مجانا ، وقد صار مغرورا من جهة القاتل بما سمي له فيرجع عليه ببدل ما سلم له ، وهو العصمة والتقوم في نفسه وبدل النفس الدية .

ولو صالحه على ما في نخله من ثمرة جاز ; لأن الثمرة الموجودة تستحق صداقا وتستحق مبيعا فيجوز الصلح عليها أيضا بخلاف ما إذا صالح على ما يحمل نخله العام ، ولو صالحه على أن عفا الآخر عن قصاص له قبل رجل آخر كان جائزا ; لأن كل واحد منهما أسقط حقه عما له من القود وكل واحد منهما متقوم صالح للاعتياض عنه فيجوز أن يجعل أحدهما عوضا عن الآخر ، وهذا بخلافه ، فإن القصاص لا يصلح أن يكون صداقا ; لأن الشرط في الصداق أن يكون مالا قال : الله تعالى : { أن تبتغوا بأموالكم } والقصاص ليس بمال وهنا الشرط أن يكون ما يستحق بالصلح متقوما وذلك موجود في القصاص كما قررنا .

( ألا ترى ) أنه لو صالح عن القود على أقل من عشرة دراهم يجوز ، وإن كان ما دون العشرة لا يستحق صداقا .

التالي السابق


الخدمات العلمية