الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
قال : وإذا ارتهن أمة فوضعها على يدي عدل ليبيعها عند حل المال فولدت الأمة فللعدل أن يبيع الولد معها ; لأن العدل إنما يبيعها بحكم الرهن ، وقد ثبت حكم الرهن في الولد ، وبه جاز للوكيل بيع الجارية ، ولو ولدت في يده ، فإنه لا يملك أن [ ص: 75 ] يبيع ، ولدها ; لأنه مبيع بحكم الوكالة ، وإنما وكله في بيع شخص فلا يملك بيع شخصين ، وهنا إنما يبيع العدل بحكم الرهن ، وحكم الرهن ثبت في الولد حتى كان للمرتهن أن يحبس الولد مع الأصل إلى أن يستوفي دينه فلهذا ملك بيع الولد معها إلا أن المرهون لو قتلها عبده فدفع بها كان للعدل أن يبيع المدفوع ، ولو أن الجارية التي وكل الوكيل ببيعها قتلها عبده ، فدفع بها لم يكن للوكيل أن يبيع العبد المدفوع ، فكذلك الولد ; لأن حكم الولد حكم البدل في سريان حكم العقد إليه ، وهذه المسألة تنبني على أن الزوائد المتولدة منه حين الرهن تكون مرهونة عند المرتهن على معنى أن له أن يحبسها بالدين ، وإن لم يكن مضمونا حتى لا يسقط شيء من الدين بهلاكها كالزيادة على قدر الدين من الرهن ، وعند الشافعي ( رحمه الله ) لا يثبت حكم الرهن في الزيادة ، والراهن أحق بها لقوله : صلى الله عليه وسلم { له غنمه ، وعليه غرمه } فإطلاق إضافة الغنم إليه دليل على أنه محض حق له .

وقال : صلى الله عليه وسلم { الرهن مركوب ، ومحلوب } ، والمراد أنه محلوب للراهن بدليل قوله : { وعلى الذي يركبه ويحلبه نفقته } ، والمعنى : أن هذه زيادة تملك بملك الأصل فلا يثبت فيها حكم الرهن كالكسب ، والغلة ، وهذا ; لأن الثابت بالرهن حق البيع في الدين عنده ، وذلك ليس بحق متأكد في القيمة فلا يسري إلى الولد كحق الوكالة بالبيع ، وحق الدفع في الجارية الحامل ، وحق الزكاة في النصاب بعد كمال الحول بخلاف ملك الراهن فهو متأكد في العين ; لأن العين هي المملوك .

والدليل على هذا : أن حكم الضمان عندكم لا يثبت في الولد لهذا المعنى فكذلك حكم الرهن ، ولأن الرهن وثيقة بالدين فلا يسري إلى الولد كالكفالة ، وهذا عقد لا يزيل الملك في الحال ، ولا في المآل فلا يسري إلى الولد كالإجارة ، والوصية بالخدمة ، وبتفصيل الوصية يظهر الفرق بين البدل ، والولد فإن حق الموصى له بالخدمة يسري إلى البدل لقيامه مقام الأصل ، ولا يسري إلى الولد ، وحق الجارية كذلك ، فكذلك حق المرتهن ، وحجتنا في ذلك قول معاذ ( رضي الله عنه ) فيمن ارتهن نخيلا فأثمرت أن الثمار رهن معها .

وقال ابن عمر ( رضي الله عنهما ) في الجارية المرهونة إذا ولدت فولدها رهن معها ، والمعنى فيه : أن حق المرتهن متأكد في العين فيسري إلى الولد كذلك الراهن ، وبيان ثبوت الحق في العين أن توصف العين به يقال : مرهون محبوس بحق المرتهن ، كما يقال : مملوك للراهن ، ولهذا يسري إلى بدل العين ، ودليل التأكيد أن من هو عليه ، لا يملك إبطاله .

( وفقه هذا الكلام ) ما قررنا أن موجب عقد الرهن يد الاستيفاء ، ويد الاستيفاء إنما تثبت في العين ، وهي معتبرة بحقيقة [ ص: 76 ] الاستيفاء ، وإذا كانت حقيقة الاستيفاء تظهر في موجبه من الزوائد التي تحدث بعده ، فكذلك يد الاستيفاء ، وهذا ; لأن المتولد منه الأصل ثبت فيه ما كان في الأصل ، والأصل كان مملوكا للراهن مشغولا بحق المرتهن فيثبت ذلك الملك في الزيادة لا ملك آخر ; لأنه يحتاج لملك آخر ، وإلى سبب آخر بخلاف الكسب ، والغلة فهو غير متولد منه الأصل ، ولا يثبت في الكسب لهذا المعنى ، وبخلاف حق المستأجر فهو في المنفعة لا في العين ، ولهذا لا يسري إلى بدل العين فكذلك لا يسري إلى الولد .

( توضيحه ) : أن الحق إنما يسري إلى الولد إذا كان محلا صالحا ، والولد محدث غير منتفع به فلم يكن محلا صالحا لحق المستأجر ، فأما الولد المنفصل فيكون مالا متقوما فيكون محلا صالحا لحق المرتهن ، ورد أن هذا من الإجارة إن ، ولدت المرهونة ولدا حرا باعتبار الغرور فالرهن لا يسري على هذا الولد ; لأنه ليس بمحل له ، وهذا هو العذر عن ولد المنكوحة فإن حق النكاح لا يسري إليه ; لأنه ليس بمحل للحل في حق الزوج ، وهذا هو العذر عن ولد الجارية الموصى بخدمتها ; لأنه لا يكون محلا صالحا للخدمة حتى ينفصل ، ثم حق الموصى في المنفعة ، والولد غير متولد منه المنفعة ، والسراية إلى الولد باعتبار خروج العين من الثلث لا ; لأن حقه في العين ، وحق ولي الجناية ليس بمتأكد في العين فإن ما عليه تقرر بإبطال حق العين عن العين باعتبار اليد ، وحق الزكاة في الذمة لا في العين فإن المستحق فعل أشياء في الذمة ثم من عليه ملك الأداء من محل آخر ، فعرفنا أنه غير متأكد في العين ، وحق الكفالة عندنا يسري إلى الولد إذا كفلت أمه بإذن مولاه بمال ثم ولدت فأما إذا كانت حرة فالحق بالكفالة ثبت في ذمتها ، والولد لا يتولد من الذمة ، وإنما لا يثبت حكم الضمان في الولد عندنا ; لانعدام السبب الذي يجعل العين مضمونة عليه ، وهذا القبض مقصود .

( ألا ترى ) أن ، ولد المعتق قبل القبض يسري إليه حكم البيع ، ولا يكون مضمونا إن هلك لهذا المعنى .

وقوله : صلى الله عليه وسلم له غنمه ، وعليه غرمه يقتضي أن تكون الزيادة ملكا للراهن ، وذلك لا يبقى حقا للمرتهن ، فإنه كما أضاف الزيادة إليه أضاف الأصل إليه بقوله : الرهن من راهنه الذي رهنه ، ونحن نقول : إنه محلوب للراهن على معنى : أن اللبن يكون مملوكا له ، وأنه ينتفع به بإذن المرتهن أيضا ، وليس في هذا الحديث أيضا ما يمنع ثبوت حق المرتهن فيه فإن باعها العدل ، وسلمها ثم استحقها رجل ، ولا يعلم مكانها ، للمستحق أن يضمن العدل قيمة الأمة ، والولد ; لأنه في حق المستحق غاصب ، والزيادة - في عين المغصوب - تضمن بالبيع ، والتسليم ، كالأصل لم يرجع العدل [ ص: 77 ] بذلك في الثمن الذي عنده إن كان فيه وفاء ; لأن الثمن بدل العين ، وكما أن الضامن للعين يكون أحق الناس بالعين ، فكذلك يكون أحق ببدل العين ، وإن لم يكن فيه وفاء رجع بتمام ما ضمن على الراهن ; لأنه بالبيع كان عاملا للراهن بأمره ، ولأنه باعهما ليقتضي الدين بالثمن ، ويفرغ ذمة الراهن ، ومنه لحقته العهدة في عمل باشره لغيره كان له أن يرجع به عليه ، وإنما يرجع في الثمن ; لأن جنس حقه من مال الراهن ، وهو بدل العين الذي كان وجب عليه ضمانه .

ولما كان مراد الضمان على الراهن كان الملك في المضمون له ، والعدل وكيله بالبيع ، فيرجع عليه بما يلحقه من العهدة فإن كان قد قضاه المرتهن فالعدل بالخيار ، وإن شاء باع الرهن بذلك ، وسلم للمرتهن ما اقتضاه ; لأنه في قضاء الدين كان عاملا للراهن بأمره فكان الراهن فعل ذلك لنفسه فله أن يرجع على الراهن بجميع ما ضمن من القيمة ، وإذا فعل ذلك سلم المقبوض للمرتهن ; لأنه بدل ملك الراهن قضى به دينه وإن شاء ضمنه المرتهن ; لأن حقه ثابت في ذلك الثمن بدليل أنه لو لم يكن سلمه إلى المرتهن كان له أن يأخذه بحقه بعد التسليم ، وله أن يسترده منه أيضا ، ولا يضمنه المرتهن إلا بقدر ما قبضه ; لأن وجوب الضمان عليه باعتبار القبض ، وإن كان في القيمة فضل رجع بالفضل على الراهن كما لو كان الراهن هو الذي قضى بالثمن .

توضيحه : أن العدل عامل للراهن بأمره ، ولكن في عمله منفعة للمرتهن من حيث إنه يصل إليه بحق إلا أن منفعته بقدر دينه ، فيثبت له بالخيار ، وإن شاء ضمن الراهن جميع القيمة ; لأنه كان عاملا له ، وإن شاء ضمن المرتهن بقدر ما قبض ; لحصول المنفعة في ذلك القدر له ، وإذا فعل ذلك رجع المرتهن على الراهن بدينه ; لأن المقبوض لم يسلم إليه ، وليس له أن يأخذهما جميعا ; لأن المخير بين الشيئين إذا اختار أحدهما تعين ذلك عليه ، وهذا ; لأن اختياره تضمين الراهن بتسليم المقبوض للمرتهن فليس له أن يرجع عليه فإذا اختار أحدهما فأفلس أو مات لم يكن له أن يتبع الآخر بذلك بمنزلة الغاصب مع غاصب ، ولو لم يبعها العدل ، وماتا عنده كان للمستحق أن يضمن العدل حق الأم دون الولد ; لأن الولد هلك من غير صنع أحد ، ويرجع بها العدل على الراهن ; لأنه عامل له قائم مقامه في إمساك الرهن .

وقد بينا أن الرهن لو هلك في يد المرتهن ثم ضمن حصته للمستحق لرجع بها على الراهن فإذا هلك في يد العدل أولى .

التالي السابق


الخدمات العلمية