الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
وإذا كان لرجلين على رجل ألف درهم من ثمن مبيع حال فأخر أحدهما حصته لم يجز ذلك في قول أبي حنيفة رحمه الله : وجاز في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله ويأخذ الآخر حصته ، ولا يشاركه المؤخر في المقبوض حتى يمضي الأجل فحينئذ يكون له أن يشارك القابض في المقبوض .

وجه قولهما أن المؤخر تصرف في خالص نصيبه ، ولا ضرر على شريكه [ ص: 38 ] في تصرفه فينفذ تصرفه كالشريكين في العبد إذا باع أحدهما نصيبه أو وهبه ، وهذا لأن التأجيل في إسقاط المطالبة إلى مدة ، ولو أسقط حقه في المطالبة بنصيبه لا إلى غاية بأن أبرأ عن نصيبه كان صحيحا ، فإذا أسقط مطالبته إلى غاية كان أولى بالصحة ، ولو اشترى أحدهما نصيبه على عين أو قبل الحوالة بنصيبه على إنسان كان صحيحا لما أنه متصرف في خالص نصيبه فكذلك إذا أجل نصيبه ، ولو أقر أحد الشريكين بأن الدين مؤجل إلى سنة وأنكر صح إقرار المقر في نصيبه فكذلك إذا أنشأ التأجيل ; لأن الإقرار لا يصح فيما هو حق للغير مع تمكن التهمة فيه وذلك لأنه لا يملك تحصيل مقصوده بالإنشاء ولما صح إقراره هنا عرفنا أنه يصح تأجيله ولأبي حنيفة رحمه الله : في المسألة روايتان : إحداهما : أن تأجيله يلاقي بعض نصيب شريكه ، وهو لا يملكه بالاتفاق وبيان هذا أن أصل الدين يبقى مشتركا بعد التأجيل ، ولا يمكن أن يجعل تأجيله مضافا لنصيبه خاصة إلا بعد قسمة الدين وقبل القبض لا يجوز ; لأن القسمة تمييز وما في الذمة لا يتصور فيه التمييز ، وفي العين القسمة بدون التمييز لا تحصل ، فإنه لو كان بين رجلين صبرة حنطة فقال : اقتسمنا على أن هذا الجانب لي والجانب الآخر لك لا يجوز ، وهذا لأن في القسمة تمليك كل واحد منهما نصف نصيب شريكه عوضا عما يتملكه عليه وتمليك الدين من غير من عليه الدين لا يجوز ، وإنما قلنا إن هذا قسمة ; لأن نصيب أحدهما يصير مخالفا لنصيب الآخر في الوصف والحكم في القسمة ليس إلا هذا .

والدليل على أن تأجيله يصادف بعض نصيب شريكه أن الآخر إذا قبض نصيبه ، ثم حل الأجل كان للمؤخر أن يشاركه في المقبوض ويكون ما بقي مشتركا بينهما والباقي هو ما كان مؤجلا ، ولو سلم للقابض ما قبض واختار اتباع المديون ، ثم نوى ما عليه كان له أن يرجع على القابض فيشاركه في المقبوض باعتبار أن نصف المقبوض حقه ، وإنما يسلمه له بشرط أن يسلم له ما في ذمة المديون ، فإذا لم يسلم رجع عليه وبهذا الفصل تبين فساد مذهبهما ، فإنه بعد التأجيل إذا لم يكن للمؤخر أن يطالب بنصيبه فكيف يكون للآخر أن يقبض شيئا من نصيبه ، وإن جعل الآخر قابضا لنصيب نفسه كان ذلك قسمة فينبغي أن لا يكون للمؤخر أن يشاركه بعد حلول الأجل ، وإن جعل قابضا لبعض نصيب المؤخر ، فإذا لم يكن للمؤخر أن يطالب بنصيبه قبل حلول الأجل لا يكون ذلك لغيره بطريق الأولى ، وهذا بخلاف ما لو أبرأه عن نصيبه ; لأنه لا يبقى نصيبه بعد الإبراء ، وإنما القسمة مع بقاء نصيب كل واحد منهما بخلاف البيع في نصيب أحدهما [ ص: 39 ] من العين ، فإنه لا يلاقي شيئا من نصيب شريكه بدليل أنه لا يشاركه في الثمن وبخلاف ما إذا استوفى أحدهما ; لأن القسمة هناك باعتبار اختلاف المحل فنصيب المستوفي لم يبق في ذمة المديون .

وكذلك إذا اشترى بنصيبه أو صالح أو قبل الحوالة فيه فقد وجد اختلاف المحل ، وإذا أقر أحدهما أن المال كله مؤجل فإقرار المقر حجة في حقه ، وهو يزعم أن الدين كله مؤجل ، فلا يتحقق معنى القسمة باعتبار زعمه ، وإنما لا يظهر حكم الأجل في حق الآخر لقصور الحجة عنه لا لأن نصيبه غير مؤجل في حق المقر ، ولا يكون في إعمال إقراره في نصيبه معنى قسمة الدين بخلاف النسأ والأجل حتى لو أقر أحدهما أن نصيبه مؤجل فهو على الخلاف أيضا والطريق الآخر أن في تصرف الآخر إضرارا لشريكه وأحد الشريكين إذا تصرف في نصيبه على وجه يلحق الضرر بصاحبه لم ينفذ تصرفه في حق شريكه كما لو كاتب أحد الشريكين العبد كان للآخر أن يبطل المكاتبة . وبيان ذلك أن مؤنة المطالبة بجميع الدين على شريكه ; لأنه يؤخر نصيبه حتى يستوفي الآخر نصيبه ، فإذا أجل الأجل شاركه في المقبوض ، ثم يؤخر نصيبه مما بقي حتى يستوفي الآخر نصيبه ، فإذا أجل شاركه في المقبوض ، فلا يزال يفعل هكذا حتى تكون مؤنة المطالبة في جميع الدين على شريكه ، وفيه من الضرر ما لا يخفى وبه فارق الإبراء ; لأنه ليس في تصرفه هناك إضرار لشريكه ; لأنه لا يشاركه فيما يقبض بعد ذلك .

وكذلك استيفاء نصيبه أو الشراء بنصيبه أو الصلح أو قبول الحوالة ليس فيه إضرار بالشريك ، وإذا أقر أن الدين مؤجل فهو غير ملحق الضرر بشريكه ولكن في زعمه أن الشريك ظالم في المطالبة ، ولا يستقل له على المطلوب حتى يحل الأجل فيكون هو في المطالبة ظالما ملتزما مؤنة المطالبة باختياره فلهذا يصح إقراره في نصيبه ، ولو صالح أحد الشريكين المديون على مائة درهم على أن أخر عنه ما بقي من حصته لم يجز التأخير في قول أبي حنيفة رحمه الله : وما قبض فهو بينهما نصفان ; لأن المقبوض جزء من دين مشترك حقهما فيه سواء وعندهما تأخيره فيما بقي صحيح والمقبوض بينهما نصفان أيضا ; لأنه حين قبضه كان حقهما في الدين سواء فصار المقبوض بينهما نصفين فتأخير أحدهما ما بقي من حقه لا يغير حكم الشركة بينهما في المقبوض ; لأن التأخير لا يمس المقبوض .

وكذلك لو كانا شريكين شركة عنان وكل واحد منهما لا يملك التصرف في نصيب صاحبه من الدين بمنزلة الشريكين في الملك ، فأما المتفاوضان فتأخير أحدهما جائز على الآخر ; لأن التأخير من صنع التجار وكل واحد منهما قائم مقام صاحبه فيما هو من صنع التجار .

[ ص: 40 ] ولو أقر أحد الشريكين في الدين ، وهو ألف درهم أنه كان للمطلوب عليه خمسمائة درهم قبل دينهما فقد برئ المطلوب من حصته بطريق المقاصة بمنزلة ما لو أبرأه ، ولا يكون لشريكه عليه شيء ; لأن المقر صار قابضا بنصيبه من الدين ما كان عليه لا مقضيا ، فإن آخر الدينين قضاء عن أولهما ; لأن القضاء لا يسبق الوجوب ، وإنما يشاركه الآخر فيما يقبض ، فإذا لم يصر بهذا الطريق قابضا شيئا لا يكون للآخر أن يشاركه فيه كما لو أبرأه من نصيبه أو وهبه له ، وكذلك لو جنى عليه عمدا دون النفس جناية يكون أرشها خمسمائة أو صالح من جناية عمد فيها قصاص على ذلك ; لأنه ما صار مستوفيا شيئا مضمونا أو شيئا قابلا للشركة ، وإنما صار متلفا لنصيبه ، فلا يكون للآخر أن يرجع عليه بشيء .

ولو غصب أحد الشريكين من المديون ما يساوي خمسمائة فهلك في يده فللآخر أن يرجع عليه بمائة وخمسين ; لأنه صار قابضا بنصيبه مالا مضمونا وضمان الغصب يوجب الملك في المضمون فكأنه استوفى نصيبه ولأن المديون يكون قابضا لنصيبه بطريق المقاصة ; لأن دينه يكون آخر الدينين .

ولو حرق أحدهما ثوبا للمديون يساوي خمسمائة فكذلك الجواب في قول محمد رحمه الله : لأنه بالإحراق صار قابضا متلفا للمال ويكون ذلك مضمونا فيكون كالغصب ، والمديون صار قابضا لنصيبه بطريق المقاصة فيجعل المحرق مقضيا وقال أبو يوسف رحمه الله : لا يرجع عليه بشيء ; لأنه متلف لنصيبه بما صنع لا قابض ، والإحراق إتلاف ويكون هذا نظير الجناية ، وقد بينا أنه لو جنى أحدهما على المديون حتى يسقط نصيبه من الدين لم يكن للآخر أن يرجع عليه بشيء فكذلك إذا جنى على ماله بالإحراق .

ولو صالحه على مائة درهم على أن أبرأه مما بقي من حصته بعد قبض المائة أو قبل قبضها كان لشريكه أن يرجع عليه بخمسة أسداس المائة ; لأن الباقي من دينه على المديون مائة ونصيب شريكه خمسمائة فالمقبوض يكون مقسوما بينهما على مقدار حقهما بخلاف ما إذا أجل فيما بقي على قولهما ; لأن التأجيل لا يسقط نصيبه من الدين ، وإن تأخر حق المقبوض فلهذا بقي المقبوض بينهما نصفين ، ولو كان قبض المائة وقاسمهما شريكه نصفين ، ثم أبرأه مما بقي له كانت القسمة جائزة لا تعاد ; لأن عند تمام القسمة كان حقهما في ذمة المديون سواء فسقوط ما بقي من نصيب أحدهما بالإبراء لا يبطل تلك القسمة بعد تمامها .

التالي السابق


الخدمات العلمية