ثم دخلت سنة ثلاثين ومائتين 
[توجيه  الواثق  بغا الكبير التركي   - إلى الأعراب ]  
فمن الحوادث فيها : 
توجيه  الواثق  بغا الكبير التركي   - ويكنى أبا موسى   - إلى الأعراب وكانوا قد عاثوا بالمدينة  وما حولها ، وكان بدو ذلك أن بني سليم  كانت تتطول على الناس حول المدينة  بالشر ، وأوقعوا بالقوم وقتلوا ، فوجه إليهم محمد بن صالح بن العباس الهاشمي  ، وهو يومئذ ] عامل المدينة  حماد بن جرير الطبري  ، وكان  الواثق  ، قد وجه حمادا  مسلحة للمدينة  لئلا يتطرقها الأعراب في مائتي فارس ، فتوجه إليهم حماد  في جماعة فقاتلهم فغلبوه ، وقوي أمر بني سليم  ، فاستباحت القرى والمناهل ، فيما بينها وبين مكة  والمدينة  ، فوجه إليهم  الواثق  بغا  ، فشخص إلى حرة بني سليم  في شعبان ، فواقعهم وراء السوارقية  ، وهي قريتهم التي كانوا يأوون إليها ، وبالسوارقية  حصون - فقتل منهم نحو خمسين [وانهزم الباقون ] ودعاهم إلى الأمان على حكم  [ ص: 151 ]  الواثق  ، وهربت خفاف بني سليم  ، وحبس عنده من أهل الشر منهم جماعة نحو ألف رجل ، وقدم بأساراهم ، ثم شخص إلى مكة  حاجا ، ثم انصرف إلى بني هلال  ، فعرض عليهم مثل الذي عرض على بني سليم  ، وأخذ من مردتهم نحوا من ثلاثمائة رجل . 
وفي هذه السنة : مات  عبد الله بن طاهر  ، فولى  الواثق  مكانه ابنه طاهرا   ، وكان  الواثق  قد فكر فيمن يولي ، فقال له ابن أبي دؤاد   : ول طاهرا  ، واربح إنفاق المال ، وإنفار الجيوش يتحدث الناس بوفائك [فعقد ] . 
وظهر في هذه السنة في بعض قرى خوارزم  عجب من امرأة رأت مناما ، فكانت لا تأكل ولا تشرب ، وقد ذكر قصتها  أبو عبد الله الحاكم  في "تاريخ نيسابور"   . 
أخبرنا  زاهر بن طاهر  قال : أخبرنا  أبو بكر البيهقي  ، أخبرنا  الحاكم أبو عبد الله محمد بن عبد الله النيسابوري  قال : سمعت أبا زكريا يحيى بن محمد العنبري  يقول : 
سمعت أبا العباس عيسى بن محمد المروزي  يقول : وردت في سنة ثمان وثلاثين مدينة من مدائن خوارزم  تدعى هزارسف  ، فأخبرت أن بها امرأة من نساء الشهداء رأت رؤيا : كأنها أطعمت في منامها شيئا ، فهي لا تأكل ولا تشرب منذ عهد  عبد الله بن طاهر  والي خراسان  ، وكان [قد ] توفي قبل ذلك بثماني سنين ، فمررت بها وحدثتني حديثها ، فلم أستعص عليها لحداثة سني ، ثم إني عدت إلى خوارزم  في آخر سنة اثنين وخمسين ومائتين ، فرأيتها باقية ، ووجدت حديثها شائعا مستفيضا ، فطلبتها فوجدتها  [ ص: 152 ] غائبة على عدة فراسخ ، فمضيت في أثرها ، فأدركتها بين قريتين تمشي مشية [قوية ] وإذا هي امرأة نصف جيدة القامة ، حسنة البنية ، ظاهرة الدم ، متوردة الخدين ، فسايرتني وأنا راكب ، وعرضت عليها الركوب فلم تركب ، وحضر مجلسي أقوام ، فسألتهم عنها ، فأحسنوا القول فيها وقالوا : أمرها عندنا ظاهر ، فليس فينا من يختلف فيها ، وذكر لي بعضهم أنهم لم يعثروا منها على كذب ولا حيلة في التلبيس ، وأنه قد كان من يلي خوارزم  من العمال يحضرونها ويوكلون بها من يراعيها ، فلا يرونها تأكل شيئا ولا تشرب ، ولا يجدون لها أثر غائط ولا بول ، فيبرونها ويكسونها ، فلما تواطأ أهل الناحية على تصديقها ، سألتها عن اسمها ، فقالت : رحمة بنت إبراهيم  ، وذكرت أنه كان لها زوج نجار فقير يأتيه رزقه يوما بيوم ، وأنها ولدت منه عدة أولاد ، وأن ملك الترك عبر على النهر [إليهم ] وقتل من المسلمين خلقا كثيرا ، قالت : ووضع زوجي بين يدي قتيلا ، فأدركني الجزع ، وجاء الجيران يسعدونني على البكاء ، وجاء الأطفال يطلبون الخبز وليس عندي شيء ، فصليت وتضرعت إلى الله تعالى [أسأله الصبر ، و ] أن يجبر بهم ، فذهب بي النوم في سجودي ، فرأيت في منامي كأني في أرض خشناء ذات حجارة وشوك ، وأنا أهيم فيها وألزم خبري أطلب زوجي ، فناداني رجل : إلى أين أيتها الحرة ؟ قلت : أطلب زوجي ، قال : خذي ذات اليمين ، فأخذت ذات اليمين ، فوقفت على أرض سهلة طيبة الثرى ، ظاهرة العشب ، فإذا قصور وأبنية لا أحسن أصفها ، وإذا أنهار تجري على وجه الأرض من غير أخاديد ، وانتهيت إلى قوم جلوس حلقا حلقا ، عليهم ثياب خضر ، قد علاهم النور ، فإذا هم القوم الذين قتلوا في المعركة يأكلون على موائد بين أيديهم ، فجعلت أتخللهم وأتصفح وجوههم أبغي زوجي ، لكنه بصرني فناداني : يا رحمة يا رحمة ، فتحققت  [ ص: 153 ] الصوت ، فإذا أنا به في مثل حالة من رأيت من الشهداء ، وجهه مثل القمر ليلة البدر ، وهو يأكل مع رفقة له قتلوا يومئذ معه ، فقال لأصحابه : إن هذه البائسة جائعة منذ اليوم ، أفتأذنون [لي ] أن أناولها شيئا تأكله ؟ فأذنوا له ، فناولني كسرة خبز ، وأنا أعلم حينئذ أنه خبز ، ولكن لا أدري كأي خبز هو ؟ ! أشد بياضا من الثلج واللبن ، وأحلى من العسل والسكر ، وألين من الزبد والسمن ، فأكلته فلما استقر في معدتي قال : اذهبي ، فقد كفاك الله مئونة الطعام والشراب ما بقيت في الدنيا ، فانتبهت من نومي وأنا شبعى ريا ، لا أحتاج إلى طعام وشراب وما ذقته منذ ذلك اليوم إلى يومي هذا [ولا شيئا مما يأكله الناس . قال أبو العباس   : وكنا نأكل فتتنحى وتأخذ على أنفها ، تزعم أنها تتأذى برائحة الطعام ] ، فسألتها : هل تتغذى بشيء غير الخبز أو تشرب شيئا غير الماء ؟ فقالت : لا ، فسألتها هل يخرج منها ريح ؟ قالت : لا ، أو أذى ؟ قالت : لا ، قلت : فالحيض ؟ أظنها قالت : انقطع بانقطاع الطعم ، قلت : فهل تحتاجين حاجة النساء إلى الرجال ؟ قالت : لا ، قلت : فتنامين ؟ قالت : نعم أطيب نوم ، قلت : فما ترين في منامك ؟ قالت : ما ترون ، قلت : فهل يدركك اللغوب والإعياء إذا مشيت ؟ 
قالت : نعم . وذكرت لي أن بطنها لاصقة بظهرها ، فأمرت امرأة من نسائنا فنظرت ، فإذا بطنها لاصقة بظهرها ، وإذا هي قد اتخذت كيسا فضمنته قطنا وشدته على بطنها ليستقيم ظهرها إذا مشيت ، فأجرينا ذكرها لأبي العباس أحمد بن محمد بن  [ ص: 154 ] طلحة بن طاهر  والي خوارزم  ، فأنكر ، وأشخصها [إليه ] ، ووكل أمه بها ، فبقيت عنده نحوا من شهرين في بيت ، فلم يروها تأكل ولا تشرب ، ولا رأوا لها أثر من يأكل ويشرب ، فكثر تعجبه وقال : لا تنكر لله قدرة ، وبرها وصرفها ، فلم يأت عليها إلا القليل حتى ماتت رحمها الله . 
وكانت لا تأكل شيئا مما يأكله الناس البتة ، وإذا قرب الطعام تنحت ووضعت يدها على أنفها تزعم أنها تتأذى برائحته . 
وحج بالناس في هذه السنة محمد بن داود   . 
				
						
						
