الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر

1436 - الإمام أحمد بن محمد بن حنبل ، أبو عبد الله الشيباني .

قدمت أمه بغداد وهي حامل به ، فولدته ونشأ بها ، وسمع شيوخها ، ثم رحل إلى الكوفة ، والبصرة ، ومكة ، والمدينة ، واليمن ، والشام ، والجزيرة وسمع من خلق كثير .

وجمع حفظ الحديث والفقه والزهد والورع ، وكانت مخايل النجابة تبين عليه من زمن الصغر ، وكان أشياخه يعظمونه .

أخبرنا [أبو منصور ] القزاز قال : أخبرنا أحمد [بن علي بن ثابت ] الحافظ قال :

أخبرنا أبو عقيل أحمد بن عيسى أخبرنا عبد العزيز بن الحارث التميمي قال : حدثنا إبراهيم بن محمد النساج قال : سمعت إبراهيم الحربي يقول : رأيت أحمد بن حنبل [ ص: 287 ] كأن الله [قد ] جمع له علم الأولين والآخرين من كل صنف يقول ما شاء ويمسك عما شاء .

أخبرنا [أبو منصور ] القزاز قال : أخبرنا أحمد بن علي [بن ثابت قال : ] أخبرنا إبراهيم بن عمر الفقيه قال : أخبرنا عبد الله بن محمد بن حمدان [العكبري ] ، حدثنا أبو حفص [عمر بن محمد ] بن رجاء قال : سمعت عبد الله بن أحمد بن حنبل [يقول :

سمعت أبا زرعة الرازي يقول : كان أحمد بن حنبل ] يحفظ ألف ألف حديث ، فقيل له : وما يدريك ؟ قال : ذاكرته فأخذت عليه الأبواب .

أخبرنا إسماعيل بن أحمد قال : أخبرنا حمد بن أحمد [الحداد ] قال : أخبرنا أبو نعيم أحمد بن عبد الله قال : حدثنا سليمان بن أحمد قال : حدثنا أحمد بن محمد القاضي قال : سمعت أبا داود السجستاني يقول : لم يكن أحمد بن حنبل يخوض في شيء مما يخوض فيه الناس من أمر الدنيا ، فإذا ذكر العلم تكلم .

قال سليمان : وأخبرنا عبد الله بن أحمد قال : وكان أبي يصلي كل يوم وليلة ثلاثمائة ركعة ، فلما مرض من تلك الأصوات أضعفته ، فكان يصلي في كل يوم وليلة مائة وخمسين ركعة ، وكان في زمن الثمانين وكان يقرأ في كل يوم سبعا ، وكانت له ختمة في كل سبع ليال سوى صلاة النهار ، وكان ساعة يصلي ويدعو عشاء الآخرة ينام نومة خفيفة ثم يقوم إلى الصباح يصلي ، وحج خمس حجات ثلاث [حجج ] ماشيا ، واثنتين راكبا .

أخبرنا محمد بن عبد الباقي ، عن أبي إسحاق البرمكي ، عن عبد العزيز بن جعفر [ ص: 288 ] قال : حدثنا أبو بكر الخلال قال : حدثنا أحمد بن محمد البراثي قال : أخبرني أحمد بن عبثر قال : لما ماتت أم صالح قال أحمد لامرأة عندهم : اذهبي إلى فلانة ابنة عمي فاخطبيها لي من نفسها . قال : فأتيتها فأجابته ، فلما رجعت إليه قال : كانت أختها تسمع كلامك . قال : وكانت بعين واحدة ؟ قالت : نعم ، قال : فاذهبي واخطبي تلك التي بعين واحدة فأتتها فأجابته وهي أم عبد الله .

[قال المؤلف : ] وقد ذكرنا كيف امتحن أحمد وضرب في زمن المعتصم ، وأنه جعل المعتصم في حل .

ولما ولي المتوكل أكرمه وبعث إليه مالا كثيرا فتصدق به ، واستزاره ليحدث أولاده ، فحلف أن لا يحدث ، فلم يحدث حتى مات .

ومرض أحمد ليلة الأربعاء لليلتين خلتا من ربيع الأول من هذه السنة واشتد مرضه تسعة أيام وتوفي .

وكان قد أعطاه بعض أولاد الفضل بن الربيع [وهو في الحبس ] ثلاث شعرات من شعر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فأوصى عند موته أن تجعل كل شعرة على عينه والثالثة على لسانه .

وكان يصبر في مرضه صبرا عظيما فما أن إلا في الليلة التي توفي فيها .

أخبرنا محمد بن عبد الملك بن خيرون ، وابن ناصر قالا : أخبرنا أحمد بن [ ص: 289 ] الحسن المعدل قال : أخبرنا أبو علي بن شاذان قال : حدثنا محمد بن عبد بن عمرويه قال : سمعت عبد الله بن أحمد بن حنبل قال : لما حضرت أبي الوفاة جلست عنده وبيدي الخرقة لأشد بها لحيته ، فجعل يغرق ثم يفيق ، ثم يفتح عينيه ويقرأ بيده هكذا ، لا بعد لا بعد ، ففعل هذا مرة وثانية ، فلما كان في الثالثة قلت له : يا أبه ! أي شيء هذا ، قد لهجت به في هذا الوقت تغرق حتى نقول : قد قضيت ، ثم تعود فتقول لا بعد ؟ فقال لي : يا بني ! ما تدري ؟ قلت : لا ، قال : إبليس لعنه الله قائم حذائي عاض على أنامله يقول : يا أحمد فتني ! فأقول له : لا بعد حتى أموت .

قال المصنف : فضائل أحمد رضي الله عنه كثيرة ، وإنما اقتصرنا ها هنا على هذه النبذة لأني قد جمعت فضائله في كتاب كبير جعلته مائة باب ، ثم مثل هذا التاريخ لا يحتمل أكثر مما ذكرت ، [والله الموفق ] .

1437 - الحسن بن حماد بن كسيب ، أبو علي الحضرمي ، المعروف بسجادة

سمع أبا بكر بن عياش ، وعطاء بن مسلم الخفاف ، وأبا خالد وغيرهم .

وروى عنه : ابن أبي الدنيا . وكان صاحب سنة .

توفي في هذه السنة .

1438 - محمد ابن الإمام الشافعي أبي عبد الله محمد بن إدريس ، يكنى أبا عثمان .

سمع سفيان بن عيينة ، وأباه ، وولي القضاء بالجزيرة ، وحدث هناك ، واجتمع بأحمد بن حنبل ببغداد ، فقال له أحمد : أبوك أحد الستة الذين أدعو لهم في السحر .

وللشافعي ولد آخر يسمى محمدا أيضا . إلا أن ذلك توفي صغيرا وهو بمصر سنة إحدى وثلاثين ، ذكره أبو سعيد بن يونس الحافظ . [ ص: 290 ]

1439 - محمد بن عبد العزيز بن أبي رزمة ، مولى بني يشكر - واسم أبي رزمة : غزوان ، ويكنى أبا محمد - أبو عمرو المروزي .

حدث عن سفيان بن عيينة ، والنضر بن شميل وغيرهما .

روى عنه : إبراهيم الحربي وغيره ، وكان ثقة .

1440 - أبو غياث المكي ، مولى جعفر بن محمد .

أخبرنا محمد بن عبد الباقي بن أحمد بن سليمان قال : أخبرنا رزق الله بن عبد الوهاب قال : أخبرنا أبو الحسن بن علي بن أحمد بن الباد قال : أخبرنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم بن شاذان قال : أخبرنا أبو حازم المعلى بن سعيد البغدادي قال : سمعت أبا جعفر محمد بن جرير الطبري في سنة ثلاثمائة يقول :

كنت بمكة في سنة أربعين ومائتين فرأيت خراسانيا ينادي :

معاشر الحاج من وجد هميانا فيه ألف دينار فرده علي أضعف الله له الثواب ، قال : فقام إليه شيخ من أهلمكة كبير من موالي جعفر بن محمد ، فقال له :

يا خراساني ، بلدنا فقير أهله ، شديد حاله ، أيامه معدودة ، ومواسمه منتظرة ، فلعله بيد رجل مؤمن يرغب فيما تبذله له حلالا يأخذه ويرده عليك ، قال الخراساني : وكم يريد ؟ قال العشر مائة دينار ، قال : [لا والله ] ، لا أفعل ولكن أحيله على الله عز وجل .

قال : وافترقا .

قال ابن جرير : فوقع لي أن الشيخ صاحب القريحة والواجد للهميان فاتبعته ، فكان كما ظننت ، فنزل إلى دار خلقة الباب والمدخل ، فسمعته يقول : يا لبابة ! قالت له : لبيك يا أبا غياث . قال : وجدت صاحب الهميان ينادي عليه مطلقا فقلت له : قيده بأن تجعل لواجده شيئا ، فقال : كم ؟ فقلت : عشرة ، فقال : لا ، ولكنا نحيله على الله عز وجل ، فأي شيء نعمل ، ولا بد لي من رده ، فقالت له : نقاسي الفقر [ ص: 291 ] معك منذ خمسين سنة ولك أربع بنات وأختان وأنا وأمي وأنت تاسع القوم ، استنفقه واكسنا ، ولعل الله يغنيك فتعطيه أو يكافئه عنك ويقضيه ، فقال لها : لست أفعل ولا أحرق حشاشي بعد ست وثمانين سنة ، قال : ثم سكت القوم وانصرفت .

فلما كان من الغد على ساعات من النهار سمعت الخراساني يقول : يا معشر الحاج ! وفد الله من الحاضر والبادي ، من وجد هميانا فيه ألف دينار فرده أضعف الله له الثواب ، قال : فقام إليه الشيخ وقال : يا خراساني ! قد قلت لك بالأمس ونصحتك وبلدنا والله فقير قليل الزرع والضرع ، وقد قلت لك أن تدفع إلى واجده مائة دينار ، فلعله أن يقع بيد رجل مؤمن يخاف الله عز وجل فامتنعت ، فقل له عشرة دنانير منها ، فيرده عليك ويكون له في العشرة دنانير ستر وصيانة ، قال : فقال له الخراساني : لا نفعل ولكن نحيله على الله عز وجل ، قال : ثم افترقا .

فلما كان من الغد سمعت الخراساني ينادي ذلك النداء بعينه ، فقام الشيخ فقال له : يا خراساني ، قلت أول أمس العشر منه ، وقلت لك عشر العشر أمس ، واليوم أقول لك عشر العشر يشترى بنصف دينار قربة يستقي عليها للمقيمين بمكة بالأجرة وبالنصف الآخر شاة يحلبها ويجعل ذلك لعياله غذاء ، قال : لا نفعل ، ولكن نحيله على الله عز وجل ، قال : فجذبه الشيخ [جذبة ] وقال : تعال خذ هميانك ، ودعني أنام الليل ، وأرحني من محاسبتك ، فقال له : امش بين يدي .

فمشى الشيخ وتبعه الخراساني وتبعهما ، فدخل الشيخ فما لبث أن خرج وقال : ادخل يا خراساني ، فدخل ودخلت فنبش تحت درجة له مزبلة ، فنبش وأخرج منها الهميان أسود من خرق بخارية غلاظ وقال : هذا هميانك ؟

فنظر إليه وقال : هذا همياني ، قال : ثم حل رأسه من شد وثيق ، ثم صب المال في [ ص: 292 ] حجر نفسه وقلبه مرارا ، وقال : هذه دنانيرنا ، وأمسك فم الهميان بيده الشمال ورد المال بيده اليمين فيه ، وشده شدا سهلا ووضعه على كتفه ، ثم أراد الخروج ، فلما بلغ باب الدار رجع ، وقال للشيخ : يا شيخ ! مات أبي رحمه الله وترك من هذا ثلاثة آلاف دينار ، فقال لي أخرج ثلثها ففرقه على أحق الناس عندك ، وبع رحلي ، واجعله نفقة لحجك ! ففعلت ذلك وأخرجت ثلثها ألف دينار وشددتها في هذا الهميان ، وما رأيت منذ خرجت من خراسان إلى ها هنا رجلا أحق به منك ، خذه بارك الله لك فيه ، قال :

ثم ولى وتركه .

قال : فوليت خلف الخراساني فعدا أبو غياث فلحقني وردني ، وكان شيخا مشدود الوسط بشريط معصب الحاجبين ، ذكر أن له ستا وثمانين سنة ، فقال لي :

اجلس ، فقد رأيتك تتبعني في أول يوم وعرفت خبرنا بالأمس واليوم ، فسمعت أحمد بن يونس اليربوعي يقول : سمعت مالكا يقول : سمعت نافعا يقول : عن عبد الله بن عمر : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لعمر وعلي : "إذا أتاكما بهداه بلا مسألة ولا استشراف نفس فاقبلاها ولا ترداها فترداها على الله عز وجل" وهذه هدية من الله والهدية لمن حضر ، ثم قال : يا لبابة ، الهميان وادعي فلانة وفلانة وصاح ببناته وأخواته ، وقال : ابسطوا حجوركم . فبسطت حجري ، وما كان لهن قميص له حجر يبسطونه فمدوا أيديهم ، وأقبل يعد دينارا حتى إذا بلغ العاشر إلي قال : ولك ديناران .

حتى فرغ الهميان ، وكانت ألفا ، فأصابني مائة دينار ، فتداخلني من سرور غناهم أشد مما داخلني من سرور أصابني بالمائة دينار ، فلما أردت الخروج قال لي : يا [ ص: 293 ] فتى ، إنك لمبارك ولا رأيت هذا المال قط ، ولا أملته [وأني لأنصحك أنه حلال ، ] فاحتفظ به ، واعلم أني كنت أقوم وأصلي الغداة في هذا القميص الخلق ، ثم أنزعه فتصلي واحدة واحدة ، ثم أكتسب إلى ما بين الظهر والعصر ، ثم أعود في آخر النهار بما قد فتح الله عز وجل لي من أقط وتمر وكرات ، ومن بقول نبذت ، ثم أنزعه فيتداولنه فيصلين فيه المغرب وعشاء الآخرة ، فنفعهن الله بما أخذن ، ونفعني وإياك بما أخذنا ، ورحم [الله ] صاحب المال في قبره ، وأضعف ثواب الحامل للمال وشكر له .

قال ابن جرير : فودعته وكتبت بها العلم سنين أتقوت بها ، وأشتري منها الورق ، وأسافر وأعطي الأجرة ، فلما كان بعد سنة ست وخمسين سألت عن الشيخ بمكة فقيل إنه [قد ] مات بعد ذلك بشهور ، ووجدت بناته ملوكا تحت ملوك ، وماتت الأختان وأمهن ، وكنت أنزل على أزواجهن [وأولادهن ] فأحدثهم بذلك ، فيستأنسون بي ويكرموني ، ولقد حدثني محمد بن حيان البجلي في سنة تسعين ومائتين أنه لم يبق منهم أحد .

فبارك الله لهم فيما صاروا إليه ورحمة الله عليهم أجمعين .

[ ص: 294 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية