الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[إيقاع توفيل بن ميخائيل صاحب الروم بأهل زبطرة]

وفي هذه السنة: أوقع توفيل بن ميخائيل صاحب الروم بأهل زبطرة ، فأسرهم وخرب بلدهم ، ومضى من فوره إلى ملطية ، فأغار على أهلها وعلى حصون من حصون المسلمين ، وسبى من المسلمات أكثر من ألف امرأة ومثل بمن صار في يده من المسلمين ، وسمل أعينهم ، وقطع آذانهم وآنافهم .

وكان السبب في ذلك تضييق الأفشين على بابك ، فلما أشرف على الهلاك ، وأيقن بالعجز عن الحرب ، كتب إلى توفيل ملك الروم يعلمه أن ملك العرب قد وجه عساكره إليه حتى وجه خياطه - يعني جعفر بن دينار - وطباخه - يعني إيتاخ - ولم يبق على بابه أحد ، فإن أردت الخروج إليه فاعلم أنه ليس في وجهك أحد يمنعك ، وإنما كتب هذا ليتجرد ملك الروم لذلك فينكشف عنه بعض ما هو فيه برجوع العسكر أو بعضهم ، فخرج توفيل في مائة ألف ، ومعه من المحمرة الذين كانوا بالجبال ، فلحقوا بالروم ، ففرض لهم ملك الروم وزودهم وصيرهم مقاتلة يستعين بهم ، فدخل ملك الروم زبطرة وقتل الرجال وسبى الذراري والنساء ، فبلغ النفير إلى سامراء ، وخرج أهل ثغور الشام والجزيرة واستعظم المعتصم ذلك ، فصاح في قصره: النفير ، ثم ركب دابته وعسكر بغربي دجلة يوم الاثنين لليلتين خلتا من جمادى الأولى ، ووجه عجيف بن عنبسة في جماعة من القواد إلى زبطرة ، إعانة لأهلها ، فوجدوا ملك الروم قد انصرف إلى بلاده بعد ما فعل ما فعل ، فوقفوا قليلا ، حتى تراجع الناس إلى قراهم ، واطمأنوا .

وقال المعتصم:


شفيت ببابك غل النفوس وأثلجت بالزط حر الصدور

[ ص: 79 ] وأحضر القضاة والشهود ، وأشهدهم على نفسه أنه [قد] وقف جميع أمواله فجعل ثلثها لمواليه وثلثها لولده ، وثلثها للمساكين ، ثم قال: أي بلاد الروم أمنع وأحصن؟ فقيل: عمورية ، لم يعرض لها أحد من المسلمين منذ كان الإسلام ، وهي عين النصرانية ، وهي أشرف عندهم من القسطنطينية .

فخرج إلى بلاد الروم ، وقيل: كان ذلك في سنة اثنتين وعشرين . وقيل: سنة أربع وعشرين ، وتجهز جهازا لم يتجهز مثله خليفة قبله من السلاح والعدد والآلة وحياض الأدم [والحمير] والبغال والروايا والقرب وآلة الحديد والنفط ، وجعل على مقدمته أشناس ، ويتلوه محمد بن إبراهيم ، وعلى ميمنته إيتاخ ، وعلى ميسرته جعفر بن دينار ، وعلى القلب عجيف ، فدخل بلاد الروم ، فأقام على سلوقية قريبا من البحر ، وبعث الأفشين إلى سروج ، فأمره بالدخول من درب الحدث ، سمى له يوما [أمره أن] يكون دخوله فيه ، وقدر لعسكره وعسكر أشناس اليوم الذي يدخل فيه الأفشين ، ودبر النزول على أنقرة ، فإذا فتحها الله تعالى صار إلى عمورية إذ لم يكن شيء مما يقصد له من بلاد الروم أعظم من هاتين [المدينتين] ولا أحرى أن تجعل غايته التي يؤمها .

وأمر المعتصم أشناس أن يدخل من درب طرسوس ، وأمره بانتظاره بالصفصاف ، فكان شخوص أشناس يوم الأربعاء لثمان بقيت من رجب ، وقدم المعتصم وصيفا في أثر [ ص: 80 ] أشناس على مقدمات [المعتصم] ورحل المعتصم يوم الجمعة لست بقين من رجب .

فتقدم أشناس والمعتصم من ورائه ، بينهم مرحلة ، ينزل هذا ويرحل هذا ، ولم يرد عليهم من الأفشين خبر ، حتى صاروا من أنقرة على مسيرة ثلاث مراحل ، وضاق عسكر المعتصم ضيقا شديدا من الماء والعلف ، وكان أشناس قد أسر عدة أسرى في طريقه ، فأمر بهم ، فضربت أعناقهم ، وهرب أهل أنقرة وعظماؤها ، ونزل بها المعتصم وأشناس والأفشين ، فأقاموا بها أياما .

ثم صير العسكر ثلاثة عساكر: عسكر فيه أشناس في الميسرة ، والأفشين في الميمنة ، والمعتصم في القلب ، وبين كل عسكر وعسكر فرسخان ، وأمر كل عسكر منهم أن يكون له ميمنة وميسرة ، وأن يحرقوا القرى ويخربوها ، ويأخذوا من لحقوا فيها من السبي ، وإذا كان وقت النزول توافى [كل] أهل عسكر إلى صاحبهم ورئيسهم ، يفعلون ذلك فيما بين أنقرة إلى عمورية ، وبينهم سبع مراحل ، حتى توافت العساكر بعمورية .

وكان أول من وردها أشناس ، وردها يوم الخميس ضحوة ، فدار حولها دورة ، ثم نزل بموضع فيه ماء وحشيش ، فلما طلعت الشمس ركب المعتصم فدار حولها دورة ، ثم جاء الأفشين في اليوم الثالث ، فقسمها أمير المؤمنين بين القواد ، فصير لكل واحد منهم أبراجا منها على قدر كثرة أصحابه وقلتهم ، فصار لكل قائد ما بين البرجين إلى عشرين برجا ، وتحصن أهل عمورية ، وكان أهل عمورية قد أسروا رجلا فتنصر وتزوج فيهم ، وحبس نفسه ، فلما رأى أمير المؤمنين ظهر ، وجاء إلى المعتصم وأعلمه أن موضعا من المدينة حمل الوادي عليه من مطر شديد جاءهم ، فوقع السور من ذلك [ ص: 81 ] الموضع ، وكتب ملك الروم إلى [عامل] عمورية أن يبني ذلك الموضع ، فوقع التواني حتى خرج الملك من القسطنطينية إلى بعض المواضع ، فتخوف الوالي أن يمر الملك على تلك الناحية فلا يراها بنيت ، فبنى وجه السور بالحجارة حجرا حجرا ، وصيروا له من جانب المدينة حشوا ، ثم عقد فوقه الشرف كما كان ، فوقف ذلك الرجل المعتصم على هذه الناحية التي وصف ، فأمر المعتصم فضرب مضربه في ذلك الموضع ، ونصب المجانيق على ذلك البناء ، فانفرج السور من ذلك الموضع وسقط .

وكان المعتصم قد ساق غنما كثيرة ، فدبر أن يدفع إلى كل رجل من العسكر شاة ، فإذا أكلها حشى جلدها ترابا ، ثم جاء به فطرحه في الخندق ، وعمل دبابات تسع كل واحدة عشرة من الرجال ، فطرحت الجلود وطرح فوقها التراب ، وكان أول من بدأ بالحرب أشناس ، وكانت الحرب في اليوم الثاني على الأفشين وأصحابه ، فأجادوا الحرب ، وكان المعتصم واقفا على دابته بإزاء الثلمة ، وأشناس وأفشين وخواص القواد معه ، وكان باقي القواد الذين دون الخاصة وقوفا رجالة ، فلما انتصف النهار انصرف المعتصم إلى مضربه فتغدى ، وانصرف القواد إلى مضاربهم يتغدون ، فلما كان في اليوم الثالث كانت الحرب على أصحاب أمير المؤمنين خاصة ، والقيم بذلك إيتاخ ، فقاتلوا فأحسنوا ، وكثرت في الروم الجراحات ، فلما كان الليل مشى القائد الموكل بالثلمة إلى الروم ، فقال لهم: إن الحرب علي وعلى أصحابي ، ولم يبق معي [ ص: 82 ] أحد إلا قد خرج ، فصيروا أصحابكم على الثلمة يرمون قليلا ، وإلا افتضحتم وذهبت المدينة؛ فأبوا أن يمدوه بأحد ، فقالوا: سلم السور من ناحيتنا ، ونحن ما نسألك أن تمدنا ، فشأنك بناحيتك . فعزم هو وأصحابه أن يخرجوا إلى أمير المؤمنين ، فيسألونه الأمان ، ويسلموا إليه الحصن .

فلما أصبح وكل أصحابه بجنبي الثلمة ، وخرج فقال: [إني] أريد أمير المؤمنين ، وأمر أصحابه أن لا يحاربوا حتى يعود إليهم ، فخرج حتى وقف بين يدي المعتصم ، والناس يتقدمون إلى الثلمة ، وقد أمسك الروم عن الحرب حتى وصلوا إلى السور ، والروم يقولون بأيديهم: لا تحيوا وهم يتقدمون ، فدخل الناس المدينة ، وأخذت الروم السيوف ، وأقبل الناس بالأسرى والسبي من كل وجه حتى امتلأ العسكر ، فقتل ثلاثين ألفا وسبى مثلهم ، وكان في سبيه ستون بطريقا ، وطرح النار في عمورية من جميع نواحيها فأحرقها ، وجاء ببابها إلى العراق ، وهو الباب المنصوب اليوم على دار الخليفة المجاور لباب الجامع ، ويسمى "باب العامة" .

وروى أبو بكر الصولي قال: حدثنا الغلابي قال: حدثني يعقوب بن جعفر بن سليمان قال: غزوت مع المعتصم عمورية فاحتاج الناس إلى ماء ، فمد لهم المعتصم حياضا من أدم عشرة أميال ، وساق الماء فيها إلى سور عمورية ، فقام يوما على السور رجل منهم فصيح بالعربية ، فشتم النبي صلى الله عليه وآله وسلم باسمه ونسبه ، فاشتد ذلك على المسلمين ، ولم تبلغه النشابة ، قال يعقوب: وكنت أرمي ، فاعتمدته فأصبت نحره فهوى وكبر المسلمون ، وسر المعتصم ، وقال: جيئوني بمن رمى هذا العلج . فأدخلوني عليه ، فقال: من أنت؟ فانتسبت له ، فقال: الحمد لله الذي جعل ثواب هذا السهم لرجل من أهل بيتي ، ثم قال: بعني هذا الثواب ، فقلت: يا أمير المؤمنين ليس الثواب مما يباع ، فقال: إني أرغبك ، فأعطاني مائة ألف درهم إلى أن بلغ خمسمائة [ ص: 83 ] ألف درهم ، قلت: ما أبيعه بالدينار ، لكن أشهد الله أني [قد] جعلت نصف ثوابه لك ، فقال: قد رضيت بهذا ، أحسن الله جزاك ، في أي موضع تعلمت الرمي؟ فقلت: [بالبصرة] في دار لي ، فقال: بعنيها ، فقلت: هي وقف على من يتعلم الرمي ، وإن أحب أمير المؤمنين فهي له وكل ما أملك . فجزاني خيرا ووصلني بمائة ألف درهم ، وارتحل المعتصم [منصرفا] إلى [أرض] طرسوس ، وكانت إناخة المعتصم على عمورية لست خلون من رمضان ، وقيل : بعد خمسة وخمسين يوما .

التالي السابق


الخدمات العلمية