الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[غضب المعتصم على وزيره الفضل بن مروان]

وفي هذه السنة: غضب المعتصم على وزيره الفضل بن مروان ، وأخذ منه ما قيمته عشرة آلاف ألف دينار ، وكان الفضل في أول أمره متصلا برجل من العمال يكتب له ، وكان حسن الخط ، ثم صار مع كاتب للمعتصم يقال له يحيى الجرمقاني ، فلما مات الجرمقاني صار الفضل في موضعه ، ثم ترقى إلى الوزارة ، وصارت الدواوين كلها تحت يده ، وحل من المعتصم محلا زائدا في الحد ، فحملته الدالة على أن كان المعتصم يأمره بإعطاء المغني والملهي فلا ينفذ ذلك ، فثقل على المعتصم ، إلى أن أمر لرجل بشيء فلم يعطه الفضل ، فلما كان بعد مدة ، قال الرجل بالمداعبة للمعتصم:

ما لك من الخلافة إلا الاسم ، وإنما الخليفة الفضل . قال: ولم ؟ قال: لأن أمرك لا ينفذ [تأمره بإعطاء المغني والملهي فلا ينفذ ذلك ، وأمرت لي بكذا منذ مدة فما أعطيت . فتغير المعتصم للفضل ، فصير أحمد بن عمار الخراساني زماما عليه في نفقات الخاصة ، ونصر بن منصور بن بسام زماما عليه في الخراج وجميع الأعمال ، وكان محمد بن عبد الملك الزيات يتولى عمل الفساطيط وآلة الجمازات وكان يلبس الدراعة السوداء ، فقال له الفضل: إنما أنت تاجر فما لك والسواد؟!

أخبرنا محمد بن أبي طاهر قال: أخبرنا علي بن المحسن ، عن أبيه قال: حدثني أبو الحسن أحمد بن يوسف ، عن الأزرق قال: حدثني غير واحد من مشايخ الكتاب: [ ص: 56 ]

أن المعتصم قال: أريد صرف عبيد الله بن سليمان عن الوزارة منذ دهر ، فإذا فكرت في أني أصرفه ضاع من ارتفاعي فيما بين صرفه وولاية وزير آخر خمسمائة ألف دينار فلم أصرفه ، قال المحسن: هذا وإنما كان في يد المعتصم قطعة من الدنيا بل قطعة يسيرة ، عما كان في يد غيره من الخلفاء .

ويحقق هذا الرأي ما بلغنا في أيام المعتصم أنه أنكر على الفضل بن مروان شيئا وهو يتقلد ديوان الخراج ، فأنفذ إليه محمد بن عبد الملك الزيات برسالة قبيحة ، وكانت بينهما عداوة ، فجاء محمد حتى وقف على باب الديوان [راكبا لم ينزل] وقال: قولوا له معي رسالة من أمير المؤمنين فليخرج [إلي] حتى أؤديها إليه ، فجاء الغلمان فعرفوه وهو جالس يعمل ، وفي حجره منديل ودواته مفتوحة ، والعمال بين يديه والكتاب ، فترك ذلك وخرج ، وقال لمحمد: قل . قال: وتبعه الناس [في خروجه] ، فقال له محمد بين أيديهم وهو راكب ولم ينزل: إن أمير المؤمنين يقول لك كيت وكيت ، وانصرف ودخل الفضل ولم يبن عليه تغير ولا اضطراب ، وعاد فعمل ، وركب في الليل إلى الخليفة فقال: يا أمير المؤمنين ، ديوان الخراج سلة خبزك ، ومعاملي فيه مع من يطمع فيك ، وفي مالك ، وباليسير تنخرق الهيبة ، وقد جرى اليوم ما أذهب منك [فيه] خمس مائة ألف دينار ، قال: وما هو؟ قال: جاء محمد بن عبد الملك إلى باب الديوان وبحضرتي العمال الذين عليهم الأموال ، وخلفاء العمال الذين في النواحي ، وأنا أطالبهم ، فلم ينزل إلي ، وأخرجني إليه ، وأدى إلي الرسالة ظاهرا وهم يسمعون ، فعدت وقد تقاعدني من كان يريد الأداء ، وكتب إلى العمال بذلك ، فتوقفوا عن حمل ما يريدون حمله ، ووقع الإرجاف بصرفي ، فوقف علي من الارتفاع خمس مائة ألف دينار ، وهي الآن كالتالف . فقال: ولم أدى الرسالة ظاهرا وما أمرته بذلك؟!

[ ص: 57 ]

فقال: لما بيننا من العداوة . فقال له المعتصم: امض لشأنك ، فقد زال ما [كان] في نفسي عليك وسأبلغك فيه ما تحب .

قال المصنف: ثم إن المعتصم خرج إلى القاطول ، فغضب على الفضل وأهل بيته وأمرهم برفع ما جرى على أيديهم ، وأخذ الفضل يعمل حسابه ثم حبسه وحبس أصحابه ، ثم نفاه إلى قرية في طريق الموصل يقال لها السن ، وصير مكانه محمد بن عبد الملك الزيات ، فصار محمد وزيرا ، وجرى على يديه عامة ما بنى المعتصم بسامراء ، ولم يزل في مرتبته ، إلى أن استخلف المتوكل .

وحج بالناس في هذه السنة: صالح بن العباس بن محمد .

التالي السابق


الخدمات العلمية