الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر

1273 - إبراهيم بن المهدي:

ويكنى أبا إسحاق ، وأمه أم ولد ، يقال لها: شكلة . ولد سنة ست وستين ومائة ، وكان أسود اللون ، شديد السواد ، عظيم الجثة ، ولم ير في أولاد الخلفاء أفصح منه ، ولا أجود شعرا ، وكان كريما ، بويع له بالخلافة من أيام المأمون في سنة اثنتين ومائتين ، وهو يومئذ ابن تسع وثلاثين سنة وشهرين وخمسة أيام ، وقد ذكرنا السبب ، وأن المأمون بايع لعلي بن موسى الرضى بولاية العهد ، فغضب بنو العباس ، وقالوا: لا نخرج الأمر من أيدينا ، فبايعوا إبراهيم ، فلما قدم المأمون من خراسان استتر إبراهيم ، فأقام في استتاره ست سنين وأربعة أشهر وعشرة أيام ، وكان ينتقل في المواضع ، حتى نزل بقرب جبلة ، ثم ظفر به المأمون لثلاث عشرة ليلة بقيت من ربيع الآخر سنة عشر ومائتين .

وقد ذكرنا قصته معه ، وعفوه عنه في حوادث تلك السنة ، ولم يزل بعد أن عفا عنه إلى أن توفي .

أخبرتنا شهدة بنت أحمد الكاتبة قالت: أخبرنا أبو محمد بن السراج ، أخبرنا أبو القاسم عبد العزيز بن بندار الشيرازي ، أخبرنا أحمد بن علي بن لال قال: أخبرني أحمد بن علي بن حرب ، عن بعض مشايخه قال: اختفى إبراهيم بن المهدي زمن المأمون عند أخته علية ، وكانت تكرمه غاية الكرامة ، وقد وكلت به جارية قد [ ص: 90 ]

أدبتها وأنفقت عليها الأموال ، وكانت حاذقة راوية للشعر ، وكانت قد طلبت منها مائة وخمسين ألف [درهم] ، وكانت تتولى خدمة إبراهيم ، وتقوم على رأسه ، فهويها ، وكره طلبها من عمته ، فلما اشتد وجده بها ، أخذ عودا ، وغنى بشعر له فيها ، وهي واقفة على رأسه:


يا غزالا لي إليه شافع من مقلتيه     والذي أجللت خديه
فقبلت يديه     بأبي وجهك ما أكثر
حسادي عليه     أنا ضيف وجزاء الضيف
إحسان إليه

فسمعت الجارية الشعر ، وفطنت لمعناه لرقتها وظرفها ، وكانت مولاتها تسألها عن حالها معه وحاله كل يوم ، فأخبرتها في ذلك اليوم بما في قلبه منها وبما سمعت منه من الشعر والغناء ، فقالت [لها] مولاتها: اذهبي فقد وهبتك له . فعادت إليه ، فلما رآها أعاد الصوت ، فأكبت عليه الجارية ، فقبلت رأسه ، فقال لها: كفي . فقالت: قد وهبتني مولاتي لك ، وأنا الرسول ، فقال: [أما] الآن فنعم .

أخبرنا عبد الرحمن بن محمد ، قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا الجوهري قال: أخبرنا محمد بن العباس قال: أنشدني عبيد الله بن أحمد المروروذي قال: أنشدني إبراهيم بن المهدي:


قد شاب رأسي ورأس الحرص لم يشب     إن الحريص على الدنيا لفي تعب
قد ينبغي لي مع ما حزت من أدب     أن لا أخوض في أمر ينقص بي

[ ص: 91 ]


لو كان يصدقني دهري بفكرته     ما اشتد غمي على الدنيا ولا نصبي
أسعى وأجهد فيما لست أدركه     والموت يكدح في زندي وفي عصبي
بالله ربك كم بيت مررت به     قد كان يغمر باللذات والطرب
طارت عباب المنايا في جوانبه     فصيرت بعدها للويل والحرب
فامسك عنانك لا تجمح به طلع     فلا وعينك ما الأرزاق بالطلب
قد يرزق العبد لم يتعب رواحله     ويحرم الرزق من لم يوف من طلب
مع أنني واجد في الناس واحدة     الرزق والنول مقرونان في سبب
وخطة ليس فيها من بيان غنى     الرزق أروع شيء عن ذوي الأدب
يا ثاقب الفهم كم أبصرت ذا حمق     الرزق أعرى به من لازم الجرب

توفي إبراهيم بن المهدي في رمضان هذه السنة [وصلى عليه المعتصم] .

1274 - سليمان بن حرب ، أبو أيوب الأسدي الواشجي البصري .

ولد سنة أربعين ومائة ، سمع شعبة وجرير بن حازم ، والحمادين ، وغيرهم . روى عنه يحيى بن سعيد القطان ، وأحمد بن حنبل ، وابن راهويه ، والبخاري ، وغيرهم ، وقرأ الفقه ، وكان لا يدلس .

قال أبو حاتم الرازي: حضرت مجلسه ببغداد عند قصر المأمون ، فبني له شبه منبر ، فصعد ، وحضر حوله جماعة من القواد عليهم السواد ، والمأمون فوق قصره قد فتح [ ص: 92 ] باب القصر ، وقد أرسل ستر يشف وهو خلفه ، يكتب ما يملي ، وحرز من حضر أربعين ألف رجل ، وكان لا يسأل عن حديث إلا حدث من حفظه ، ولي قضاء مكة [في] سنة أربع عشرة ومائتين ، ثم عزل [عنها] في سنة تسع عشرة ، فرجع إلى البصرة ، فلم يزل بها حتى توفي في ربيع الآخر من هذه السنة .

1275 - شيبان المصاب .

أخبرنا عمر بن ظفر ، أخبرنا جعفر بن أحمد السراج ، أخبرنا عبد العزيز بن علي الأرخي ، أخبرنا علي بن عبد الله بن جهضم ، حدثنا أحمد بن محمد بن عيسى [الرازي] حدثنا أحمد بن سلمة قال: حدثنا سالم قال: بينما أنا سائر مع ذي النون في جبل لبنان ، إذ قال: مكانك يا سالم حتى أعود إليك ، فغاب في الجبل ثلاثة أيام ، وأنا أنتظره ، فإذا هاجت علي النفس أطعمتها من نبات الأرض وسقيتها من ماء الغدران ، فلما كان بعد الثالث رجع إلي متغير اللون ، ذاهب العقل ، فقلت له [بعد ما رجعت إليه نفسه] : يا أبا الفيض ، أسبع عارضك؟ قال: لا ، دعني من تخويف البشرية ، إني دخلت كهفا من كهوف هذا الجبل ، فرأيت رجلا أبيض الرأس واللحية شعثا أغبر ، نحيفا نحيلا ، كأنما أخرج من قبره ، ذا منظر مهول وهو يصلي ، فسلمت عليه بعد ما سلم ، فرد علي السلام وقال: الصلاة ، فما زال راكعا وساجدا حتى صلى العصر واستند إلى حجر بحذاء المحراب يسبح ولا يكلمني ، فبدأته بالكلام وقلت له: رحمك الله ، توصني بشيء ، ادع الله عز وجل لي بدعوة . فقال: يا بني ، آنسك الله بقربه ، ثم سكت ، فقلت: زدني . قال: يا بني من آنسه بقربه أعطاه أربع خصال: عزا من غير عشيرة ، وعلما من غير طلب ، وغنى من غير مال ، وأنسا من غير جماعة . ثم شهق شهقة فلم يفق إلا بعد ثلاثة أيام حتى توهمت أنه ميت ، فلما كان بعد ثلاثة أيام قام وتوضأ من عين ماء إلى جنب الكهف ، وقال لي: يا بني [كم فاتني] من الفرائض؟ صلاة أو [ ص: 93 ] صلاتان أو ثلاث ؟ قلت: قد فاتتك صلاة ثلاثة أيام بلياليهن ، فقال:

إن حب الحبيب هيج شوقي     ثم حب الحبيب أذهل عقلي

وقد استوحشت من ملامة المخلوقين ، وقد أنست بذكر رب العالمين ، انصرف عني بسلام ، فقلت له: يرحمك الله ، وقفت عليك ثلاثة أيام؛ رجاء الزيادة [وبكيت] .

فقال: أحبب مولاك ولا ترد بحبه بدلا ، فالمحبون لله تعالى هم تيجان العباد ، وعلم الزهاد ، وهم أصفياء الله وأحباؤه . ثم صرخ صرخة عظيمة فحركته ، فإذا هو قد فارق الدنيا ، فما كان إلا هنيئة ، وإذا بجماعة من العباد ينحدرون من الجبال حتى واروه تحت التراب ، فسألت: ما اسم هذا الشيخ؟ قالوا: شيبان المصاب . قال سالم: سألت أهل الشام عنه؛ قالوا: كان مجنونا . قلت: تعرفون من كلامه شيئا؟ قالوا: نعم؛ كلمة وجيزة كان يغني بها إذا ضجر :

إذا بك يا حبيبي لم أجن؛ فبمن؟! قال سالم: فقلت: عمي والله عليكم .

1276 - عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج ، أبو معمر المقري المقعد البصري .

سمع عبد الوارث بن سعيد ، والدراوردي . روى عنه البخاري ، وأبو حاتم الرازي ، والدوري .

أخبرنا أبو منصور القزاز [قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت] الخطيب قال: أخبرنا علي بن أبي علي البصري ، قال: أخبرنا محمد بن العباس الخزاز وإسماعيل بن سعيد المعدل قالا: حدثنا ابن الأنباري قال: حدثنا عبد الله بن بيان ، أخبرنا الحسن بن [ ص: 94 ]

عبد الرحمن الربعي ،
أخبرنا أبو محمد التوزي ، أخبرنا أبو معمر صاحب عبد الوارث قال: كان شعبة يحقرني إذا ذكرت شيئا ، فحدثنا عن أبي عون ، عن ابن سيرين: أن كعب بن مالك قال:

قضينا من تهامة كل ريب     بخيبر ثم أحمينا السيوفا
فسائلها ولو نطقت لقالت     قواطعهن دوسا أو ثقيفا
فلست لمالك إن لم يزركم     بساحة داركم منا ألوفا
وتنتزع العروش عروش وج     وتصبح داركم منكم خلوفا

فقلت له: وأي عروش كانت؟ ثم قال: مما هي ، قلت: وينتزع العروش عروش وج ، وذلك من قول الله عز وجل: خاوية على عروشها قال: وكان بعد ذلك يكرمني ويرفع مجلسي .

كان أبو معمر ثقة ثبتا ، لكنه كان يقول بالقدر . توفي في هذه السنة .

1277 - عبد الرحمن بن يونس بن هاشم ، أبو مسلم الرومي ، مولى أبي جعفر المنصور .

ولد سنة أربع وستين ومائة ، وكان يستملي على سفيان بن عيينة ، ويزيد بن هارون ، روى عنه: البخاري في صحيحه ، والحربي ، وابن أبي الدنيا ، وقال: أبو حاتم الرازي: صدوق .

وتوفي ببغداد في رجب هذه السنة .

1278 - علي بن محمد بن عبد الله بن أبي سيف ، أبو الحسن المدائني ، مولى عبد الرحمن بن سمرة القرشي . [ ص: 95 ]

وهو بصري ، هي مولده ونشأ بها ، وسكن المدائن ، ثم انتقل عنها إلى بغداد ، فسكن بها إلى أن توفي في هذه السنة ، وقيل: في سنة خمس وعشرين وله ثلاث وتسعون سنة ، وكان عالما بأيام الناس وأخبار العرب والفتوح والمغازي ، وله مصنفات .

[وقد] روى عنه الزبير بن بكار وغيره ، وكان من الثقات ، أهل الخير ، يسرد الصوم قبل موته ثلاثين سنة .

قال أبو قلابة: حدثت أبا عاصم النبيل بحديث فقال: عمن هذا؟ فقلت: ليس [له] إسناد ، ولكن حدثنيه أبو الحسن المدائني ، فقال: سبحان الله! أبو الحسن إسناد .

أخبرنا [أبو منصور] القزاز ، قال: أخبرنا أحمد بن علي ، أخبرنا الصيمري ، حدثنا علي بن أيوب ، أخبرنا محمد بن عمران المرزباني قال: قال أبو عمر المطرز: سمعت أحمد بن يحيى النحوي يقول: من أراد أخبار الجاهلية فعليه بكتب أبي عبيدة ، ومن أراد أخبار الإسلام فعليه بكتب المدائني .

1279 - القاسم بن سلام ، أبو عبيد .

كان أبوه عبدا روميا لرجل من أهل هراة ، وبها ولد أبو عبيد ، ويحكى أن سلاما خرج يوما وأبو عبيد مع ابن مولاه في الكتاب ، فقال للمعلم: علمني القاسم فإنها كسبه . [ ص: 96 ]

طلب أبو عبيد العلم ، وسمع الحديث من إسماعيل بن جعفر ، وشريك ، وهشيم ، وابن عيينة ، ويزيد بن هارون ، وخلق كثير ، وروى اللغة عن البصريين والكوفيين ، عن أبي زيد ، وأبي عبيدة ، والأصمعي ، واليزيدي ، وعن أبي عثمان ، وأبي عمرو الشيباني ، والكسائي ، [والأحوص] ، والأحمر ، والفراء . وصنف الكتب في فنون الفقه والقراءات ، والغريب ، وغير ذلك . وكان مؤدبا لآل هرثمة ، وصار في ناحية عبد الله بن طاهر ، وكان ذا فضل ودين وجود ، ومذهب حسن .

أخبرنا أبو منصور عبد الرحمن بن محمد ، أخبرنا أبو بكر بن علي بن ثابت ، أخبرنا القاضي أبو العلاء قال: قال أبو الحسن محمد بن جعفر التميمي: كان طاهر بن الحسين حين مضى إلى خراسان نزل بمرو ، فطلب رجلا يحدثه ليله ، فقيل: ما هاهنا إلا رجل مؤدب ، فأدخل عليه أبو عبيد ، فوجده أعلم الناس بأيام الناس ، والنحو ، واللغة ، والفقه ، فقال له: من المظالم تركك أنت بهذا البلد ، فدفع إليه ألف دينار ، وقال له: أنا متوجه إلى خراسان إلى حرب ، وليس أحب استصحابك شفقة عليك ، فأنفق هذه إلى أن أعود إليك . قال أبو عبيد: [صنفت] "غريب المصنف" إلى أن عاد طاهر بن الحسين من خراسان فحمله معه إلى سامراء . [ ص: 97 ]

قال التميمي: وحدثنا أبو علي النحوي ، حدثنا الفسطاطي قال: كان أبو عبيد مع ابن طاهر ، فوجه إليه أبو دلف يستهديه أبا عبيد مدة شهرين ، فأنفذ أبا عبيد إليه فأقام شهرين ، فلما أراد الانصراف وصله أبو دلف بثلاثين ألف درهم ، فلم يقبلها وقال: أنا في جنبة رجل ما يحوجني إلى صلة أحد ولا آخذ ما فيه علي نقص ، فلما عاد إلى طاهر وصله بثلاثين ألف دينار بدل ما وصله أبو دلف ، فقال له: أيها الأمير [قد قبلتها ، ولكن] أنت [قد] أغنيتني بمعروفك وبرك وكفايتك عنها ، وقد رأيت أن أشتري بها سلاحا وخيلا ، وأوجه بها إلى الثغور ليكون الثواب متوفرا على الأمير؛ ففعل .

أخبرنا [أبو منصور] عبد الرحمن بن محمد ، أخبرنا [أبو بكر] أحمد بن علي بن ثابت ، حدثنا أبو القاسم الأزهري ، حدثنا أحمد بن إبراهيم ، حدثنا عبيد الله بن عبد الرحمن السكري قال: قال أحمد بن يوسف - إما سمعته منه أو حدثت به عنه - قال: لما عمل أبو عبيد كتاب "غريب الحديث" عرضه على عبد الله بن طاهر ، فاستحسنه وقال: إن عقلا بعث صاحبه على عمل مثل هذا الكتاب لحقيق أن لا يحوج إلى طلب المعاش ، فأجرى له عشرة آلاف درهم في كل شهر .

وأول من سمع هذا الكتاب من أبي عبيد: يحيى بن معين ، وابن المديني .

وكان الأصمعي يقول: لن يضيع الناس ما حيي أبو عبيد . وقال إبراهيم [الحربي] : ما شبهت أبا عبيد إلا بجبل نفخ فيه روح .

وكان أبو عبيد يقسم الليل أثلاثا فينام ثلثه ، ويصلي ثلثه ، ويضع الكتب ثلثه .

وتولى قضاء طرسوس ، ثم حج سنة تسع عشر ، ومات بمكة سنة أربع وعشرين ، وقيل في التي قبلها ، وقد بلغ سبعا وستين سنة . [ ص: 98 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية