الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( قال رحمه الله ) : وإذا ارتهن عبدا بألف درهم وقبضه ، وقيمته ألف درهم ثم وهب المرتهن المال للراهن أو أبرأه منه ، ولم يرد عليه الرهن حتى هلك عنده من غير أن يمنعه إياه [ ص: 90 ] فهو ضامن في القياس قيمته للراهن ، وهو قول زفر ، وفي الاستحسان : لا ضمان عليه ، وهو قول علمائنا الثلاثة ( رحمهم الله ) وجه القياس : أن بقبض الرهن ثبتت يد الاستيفاء للمرتهن ، ويتم ذلك بهلاك الرهن ، وصيرورته مستوفيا بهلاك الرهن بعد الإبراء بمنزلة استيفائه حقيقة بعد الإبراء فيلزمه رد المستوفى ، ولا يقال إنما يصير مستوفيا من وقت القبض حتى تعتبر قيمته من ذلك الوقت فيكون بريئا بعد الاستيفاء ، وهذا ; لأن الإبراء بعد الاستيفاء صحيح موجب لرد المستوفى كالبائع إذا قبض الثمن ثم أبرأ المشتري عن الثمن .

وقد قال بعد هذا في الرهن بالصداق : إذا طلقها الزوج قبل الدخول بها ثم هلك الرهن لا يلزمها رد شيء على الزوج بطريق الاستحسان ، ولو كان الطريق فيه هذا للزمها رد النصف ; لأن الطلاق قبل الدخول بعد استيفاء الصداق يلزمها رد نصف المستوفى ، ولا وجه لإسقاط الضمان الفائت في مالية الرهن بسبب الإبراء عن الدين ; لأن ضمان العقد بالقبض فيبقى بعد القبض ، وإن سقط الدين ، كما لو استوفى الدين حقيقة أو اشترى بالدين عينا أو صالح منه على عين أو أحاله على إنسان آخر بقي ضمان الرهن ، وإن برئت ذمة الراهن عن الدين ، وكذلك لو تصادقا على أن لا دين ، بقي ضمان الرهن لبقاء القبض ، وإن انعدم الدين ، ولو تبادلا رهنا برهن بقي ضمان الأول ما لا يرده على الراهن لبقاء القبض ، والمشتري إذا قبض المبيع فهو بالخيار ثم فسخ البيع بقي مضمونا بالثمن لبقاء القبض ، وإن انفسخ البيع ، وإذا كان الخيار للبائع ففسخ البيع يبقى مضمونا بالقيمة على المشترى ; لبقاء القبض ، كما في الابتداء .

ولا يقال لو وجب الضمان على المرتهن إنما يجب بسبب الإبراء ، وهو متبرع فيه فلا يوجب عليه ضمانا ; لأن وجوب الضمان عليه ليس بالإبراء ، بل الاستيفاء بهلاك الرهن إلا أنه قبل الإبراء كانت تقع المقاصة ، وبعد الإبراء لا يمكن إثبات المقاصة فيبقى المستوفي مضمونا عليه ، كما لو استوفاه حقيقة بعد الإبراء ، ويلزمه ضمان المستوفي ، وإن كان لو لم يسبق الإبراء لم يكن عليه شيء ، وللاستحسان وجهان : أحدهما : أن ضمان الرهن يثبت باعتبار القبض ، والدين جميعا ; لأنه ضمان الاستيفاء فلا يتحقق ذلك إلا باعتبار الدين ، وبالإبراء عن الدين انعدم أحد المعنيين ، وهو الدين ، والحكم الثابت بعلة ذات وصفين ينعدم بانعدام أحدهما .

( ألا ترى ) أنه لو رد الرهن سقط الضمان لانعدام القبض مع بقاء الدين ، فكذلك إذا أبرئ من الدين يسقط الضمان لانعدام الدين مع بقاء القبض ، وهذا بخلاف ما لو استوفى حقيقة ; لأن هناك الدين بالاستيفاء لا يسقط بل يتقرر ، فإن ما هو المقصود يحصل بالاستيفاء ، وحصول [ ص: 91 ] المقصود بالشيء ينهيه ويقرره ، ولهذا جاز الإبراء عن الثمن بعد الاستيفاء ، فإذا بقي الدين حكما بقي ضمان الرهن ، وبهلاك الرهن يصير مستوفيا فتبين أنه استوفى مرتين فيلزمه رد أحدهما فأما بالإبراء فيسقط الدين فلا يبقى الضمان بعد انعدام أحد المعنيين ، وكذلك إذا اشترى بالدين أو صالح من الدين على عين فذلك استيفاء الدين بطريق المقاصة ، وكذلك إذا أحال على غيره ; لأن بالحوالة لا يسقط الدين ، ولكن ذمة المحال عليه تقوم مقام ذمة المحيل ، وهو بصدد أن يعود إلى ذمة المحيل إذا كان المحتال عليه مفلسا فلهذا بقي ضمان الرهن وكذلك بعد ما تبادلا رهنا برهن ، الدين والقبض باقيان في حق العين الأول فيبقى الضمان فيه ، وإذا تصادقا على أن لا دين فإنما يسلم هذا فيما إذا كان تصادقهما بعد هلاك الرهن ، والدين كان واجبا ظاهرا حين هلك الرهن ، ووجوب الدين ظاهرا يكفي لضمان الرهن فصار مستوفيا فأما إذا تصادقا على أن لا دين ، والرهن قائم ثم هلك الرهن فإن هناك تهلك أمانته ; لأن بتصادقهما من الأصل ، وضمان الرهن لا يبقى بدون الدين والوجه الآخر وعليه الاعتماد : أن مقصود الراهن بتسليم الرهن إلى المرتهن أن يبرئ ذمته عند هلاك الرهن من غير أن يلزمه شيء آخر ، وقد حصل له هذا المقصود بالإبراء قبل هلاك الدين فلا يستوجب عند هلاك الرهن سببا آخر ، كمن عليه الدين المؤجل إذا عجل الدين ثم حل الأجل ، وصاحب المال إذا عجل الزكاة ثم تم الحول لا يلزمه شيء آخر ; لهذا المعنى بخلاف ما إذا استوفى الدين فهناك مقصوده لم يحصل ; لأن ذمته إنما برئت بما أعطى من المال ، وكذلك إذا اشترى بالدين أو صالح أو أحال أو تبادلا رهنا برهن ، فما هو المقصود له عند هلاك الرهن لم يحصل بهذه الأسباب ، وإذا تصادقا على أن لا دين له ثم هلك الرهن بعد ذلك لا يكون مضمونا ; لأن مقصوده حصل بالتصادق حين لم يلزمه شيء آخر ، ولا يقال : مقصود براءة ذمته عند هلاك الرهن بطريق الإيفاء ، وإنما برئت ذمته بطريق الإسقاط بالإبراء أو الإسقاط عن الإيفاء ، وهذا ; لأن الأسباب غير مطلوبة لأعيانها بل لأحكامها ، فإنما ينظر إلى حصول المقصود ، ولا ينظر إلى اختلاف الطريق ، بمنزلة ما لو قال لفلان : علي ألف درهم قرضا .

وقال المقر له : بل هو غصب يلزمه المال لإيفاء ما هو المقصود ، وإن اختلفا في السبب ، وكذلك لو قال لفلان : علي ألف درهم ثمن هذه الجارية التي بعتها وقال فلان : الجارية جاريتك بعتها ولي ألف درهميلزمه المال لحصول المقصود ، وهو سلامة الجارية له ، وإن اختلفا في السيد ، فهذا مثله ، وهذا بخلاف البيع بالضمان ، فإنه هناك انعقد بالقبض ، ولكن فسخ البيع يبطل بالهلاك قبل الرد ، كما [ ص: 92 ] يبطل البيع بالهلاك قبل التسليم ، وهنا الإبراء ما يبطل بهلاك الرهن بعده ; لأن هناك ما هو المقصود للبائع لا يحصل بفسخ البيع ما لم يعد المبيع إلى يده ، فلهذا بقي الضمان ، ولو منعه العبد بعد ما أبرأه عن الدين حتى مات في يده ضمن قيمته ; لأنه كان أمينا فيه فبالمنع بعد طلب الحق يصير غاصبا كالمودع

التالي السابق


الخدمات العلمية