الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
وكذلك يختلفون في ، وطء الراهن الجارية المرهونة فمنهم من يقول : يمنع من ذلك إذا كانت بكرا ولا يمنع إذا كانت ثيبا لأنه ليس فيه إبطال حق المرتهن في شيء من المالية ومنهم من يقول يمنع ، وإن كانت ثيبا ; لأن فيه تعريض حق المرتهن للإبطال بأن تعلق منه فتصير أم ولد له ، وفي ( الانتفاع ) لا يوجد هذا المعنى ، وحجتنا : الاستدلال بقوله - سبحانه وتعالى - : ( فرهان مقبوضة ) فهذا يقتضي أن يكون مقبوضا في حال ما يكون مرهونا ، وهو مرهون من حين يقبضه المرتهن إلا أن يعتقه الراهن ، فينبغي أن يكون مقبوضا له ، وانتفاع الراهن يعدم هذا الوصف .

وقد بينا : أن موجب هذا العقد ثبوت يد الاستيفاء هنا للمرتهن ، وأنه من جنس اليد التي ثبتت بحقيقة الاستيفاء ، والراهن لا يتمكن من الانتفاع ما لم يحوله من يد المرتهن إلى يده ، وفيه تفويت موجب العقد .

( ألا ترى ) أن الدين إذا كان حالا كان الراهن ممنوعا من الانتفاع به لكونه مرهونا عند المرتهن ، فكذلك إذا كان مؤجلا ( وفصل البيع ) دليلنا : أن هناك متى ثبت للبائع حق حبس المبيع كان المشتري ممنوعا من الانتفاع به لكونه مرهونا عند المرتهن إلا أن حق الحبس هناك إنما يثبت إذا كان الثمن حالا فهنا أيضا متى ثبت حق الحبس بعقد الرهن ينبغي أن يمنع الراهن من الانتفاع ، وحق الحبس ثابت سواء كان الدين مؤجلا أو حالا حتى إنه في غير أوان الانتفاع ، وفيما لا ينتفع به مع بقاء عينه ، المرتهن أحق بإمساكه ، وبهذا الكلام يتبين : أن انتفاع الراهن تصرف مبطل لا يدل لحق المرتهن فيمنع منه ، وبأنه كان لا يبطل حق المرتهن به إذا حصل تسليطه ، فذلك على أن الراهن لا يمنع منه ، كما إذا كان الدين حالا ، وكما في الوطء ، وتوهم العلوق بالوطء موهوم ، ولما بني الحكم على الموهوم ، ومثله يتحقق هنا ، فإنه يتوهم الهلاك في حالة الركوب ، وإنما يكون هذا في معنى تسييب أهل الجاهلية إذا لم يكن غرض صحيح ، فأما إذا كان فيه غرض صحيح ، وهو إضجار الراهن ، فلا يؤدي إلى ذلك المعنى فأما الحديث ، فلنا أن نقول : " الرهن محلوب ، ومركوب " .

على معنى أنه محلوب ، ومركوب للمرتهن بإذن الراهن ، وللراهن بإذن [ ص: 108 ] المرتهن ثم قيل الصحيح أن هذا الحديث موقوف على أبي هريرة ، ولم يثبت مرفوعا ، ولو ثبت ، فالمراد انتفاع المرتهن على ما فسره في بعض الروايات ; لأن الدر يحلب ، وظهره يركب بنفقته ، والنفقة بإزاء المنفعة تكون في حق غير المالك ، وهذا حكم كان في الابتداء ; لأن المرتهن ينتفع بالرهن ، وينفق عليه ثم انتسخ ذلك ، بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن قرض جر منفعة فإن آجر المرتهن المرهون بغير إذن الراهن فالغلة له ، ويتصدق بها ; لأنه بمنزلة الغاصب في ذلك ، فإنه كما لا يثبت له بعقد الرهن حق الانتفاع به لا يثبت له حق إيجاب المنفعة للغير إلا أن الأجر ، وجب لعقده ، فيكون له ، ويتصدق به ; لأنه حصل بسبب حرام شرعا ، وإن كان الراهن أذن له في ذلك فقد خرج من الرهن ، ولا يعود فيه إلا برهن مستقبل ، والغلة للراهن .

وقال ابن أبي ليلى ( رحمه الله ) : " هي رهن على حالها ، والغلة للمرتهن قضاء من حقها ; لأن عقد الإجارة لا يلاقي المحل الذي لاقاه عقد الرهن ، فإنه بعقد الإجارة يثبت للمستأجر ملك المنفعة ، والثابت للمرتهن ملك اليد إلا أن رضا المرتهن في الإجارة شرط يتمكن به المالك من التسليم فإجارة المرتهن ، وإجارة الراهن برضا المرتهن سواء على معنى : أن الأجر للراهن ، وأن عقد الرهن على حاله ; لأن موجب العقدين ما اجتمعا في محل واحد ثم المرتهن يأخذ الأجر قضاء من حقه ; لأنه ظفر بجنس حقه من مال المديون ولكنا نقول : عقد الإجارة يوجب استحقاق اليد للمستأجر في العين ، وذلك ينافي موجب عقد الرهن ، فإذا نفذ ذلك من الراهن بإذن المرتهن أو من المرتهن بطل عقد الرهن ، كالبيع إذا نفذ من أحدهما ، وتخرج العين من الرهن بهذا المعنى ، وإذا خرج الرهن كانت الغلة للراهن ; لأن بدل ما لم يثبت به حق المرتهن ، وهو المنفعة ، وبه فارق الثمن فإنه بدل ما ثبت به حق المرتهن فيحول حقه إليه .

فإن ركب المرتهن الدابة أو كان عبدا فاستخدمه أو ثوبا فلبسه أو سيفا فتقلده بغير إذن الراهن فهو ضامن له ; لأنه مستعمل ملكه بغير إذنه ، فيكون كالغاصب بخلاف ما لو تقلد السيف على سيف أو سيفين عليه فإن ذلك من باب الحفظ لا من باب الاستعمال ، وقد بينا الفرق بين ما يكون حفظا ، وبين ما يكون استعمالا في ( كتاب اللقطة الوديعة ) فإن كان فعل ذلك بإذن الراهن ، فلا ضمان عليه ; لأن وجوب الضمان باعتبار التعدي ، وهو في الانتفاع لا يكون متعديا ، فإذا نزل عن الدابة ، ونزع الثوب ، وكف عن الخدمة ، فهي رهن على حالها إن هلك ذهب بما فيه ، وإن هلك في حال الاستعمال بإذنه هلك بغير شيء ; لأن استعماله بتسليط المالك ، كاستعمال المالك بنفسه ، ولو استعمله الراهن فهلك في حال الاستعمال لم يسقط الدين ، ولو [ ص: 109 ] أعاده المرتهن إلى يده بعلة ما فرغ ، فهلك في حال الاستعمال كان مضمونا بالدين ، وكذلك إذا استعمله المرتهن ، وهذا ; لأن في حال الاستعمال يده يد عارية ، وهي غير يد الاستيفاء ( ألا ترى ) أنه باعتبار يد العارية لا يرجع بضمان الاستحقاق على الغير ، وباعتبار يد الاستيفاء يرجع ، فأما بعد الفراغ من الاستعمال لم تبق يد العارية ; لأن تلك اليد المقصودة الاستعمال لا غير ، فظهر حكم يد الاستيفاء وكذلك لو أعاره غيره بإذن الراهن أو أعاره الراهن بإذن المرتهن فهلك في يد المستعير لا يسقط شيء من الدين لما قلنا ، ولكن للمرتهن أن يعيده ليد نفسه ; لأن هذا في حقه بمنزلة الإعارة من الرهن ، فلا يبطل به حق المرتهن ; لأن للمرتهن حقا مستحقا ، والإعارة لا يتعلق بها الاستحقاق ، والشيء لا ينقض بطريان ما هو دونه عليه بخلاف الإجارة ، فإنه يثبت حقا مستحقا للمستأجر ، فهو مثل الرهن أو أقوى منه فيكون مبطلا للرهن ، وعلى هذا لو أذن له أن يرهنه فرهنه منه غيره ، وسلمه خرج من الرهن الأول ; لأن الثاني مثل الأول في أنه يوجب حقا مستحقا للمرتهن فيبطل به الأول ثم يد العارية تتقدم ضمان الرهن ، ولكن لا يرتفع عقد الرهن حتى ولو ولدت في يد المستعير راهنا كان أو غيره كان الولد مرهونا ، ولو مات الراهن في هذا الحال كان المرتهن أحق بها من سائر الغرماء ، فعرفنا أن عقد الرهن باق فببقائه يتمكن المرتهن من إعادته إلى يده وإذا أثمر الكرم أو النخل ، وهو رهن فخاف المرتهن على الثمرة الهلاك فباعها بغير إذن القاضي لم يجز بيعه ، وهو ضامن لقيمتها ; لأنه باع مال الغير بغير إذن مالكه فيكون غاصبا في ذلك ، ولا ضرورة في الاستبداد بهذا البيع ; لأنه يتمكن منه إن استأذن الراهن فيه إن كان حاضرا أو يرفع الأمر إلى القاضي إذا كان الراهن غائبا ليبيعه القاضي أو يأمره ببيعه فإن ولاية النظر في مال الغائب للقاضي فإذا لم يفعل كان ضامنا ، وإن جذ الثمرة أو قطف العنب فهو ضامن في القياس ; لأنه تصرف منه في ملك الغير بغير إذنه ، وفي الاستحسان : لا ضمان عليه ; لأن هذا من الحفظ فإنه لو ترك على رءوس الأشجار فسد فالجداد في أوانه حفظ ، وحفظ المرهون حق المرتهن ، فإن قيل : البيع أيضا من الحفظ ؟ قلنا : نعم ، ولكنه في البيع حفظ المالية دون العين ، فأما في الجداد فحفظ الملك في العين ، والمرتهن مسلط على ذلك ، فإن ذلك من الحفظ للعين بمنزلة الجداد ; لأن ترك الحلب يفسد الضرع ، واللبن .

التالي السابق


الخدمات العلمية