الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 225 ] باب ذكر خلافة الطائع لله عز وجل

اسمه عبد الكريم بن المطيع لله ، ويكنى: أبا بكر ، وأمه أم ولد ، اسمها: عتب ، أدركت خلافته ، وقد ذكرنا أن المطيع خلع نفسه غير مستكره ، وولي الطائع في اليوم الذي خلع فيه المطيع نفسه ، وكان سنه يوم ولي ثمان وأربعين سنة ، وقيل: خمسين ، ولم يل الأمر أكبر سنا منه ، ولا من له أب حي سوى أبي بكر الصديق ، والطائع ، وكلاهما يكنى: أبا بكر ،

وكان أبو بكر الطائع أبيض ، أشقر ، حسن الجسم ، شديد القوة ، وفي رواية: أنه كان في دار الخلافة أيل عظيم ، فكان يقتل بقرنه الدواب والبغال ، ولا يتمكن أحد من مقاومته ، فاجتاز الطائع لله فرآه وقد شق راويه ، فقال للخدم: امسكوه ، فسعوا خلفه حتى ألجئوه إلى مضيق ، وبادر الطائع فأمسك قرنيه بيديه ، فلم يقدر أن يخلصهما وهرب .

واستدعى بنجار ، فقال: ركب المنشار عليهما ، ففعل ، فلما بقيا على يسير قطعهما بيده وهرب الإيل على وجهه ، وسقطت فرجية الطائع عن كتفيه ، فتطأطأ بعض الخدم ليرفع الفرجية ، فنظر إليه بمؤخر عينه منكرا لفعله ، فتركها ومضى الطائع ، وبقيت الفرجية إلى آخر النهار لا يجسر أحد على تحريكها من موضعها ، فلما أراد النجار الانصراف حضر خادم وقال: خذ هذه الفرجية ، فأخذها وكانت من الوشي القديم ، فباعها بمائة وسبعين دينارا .

ولما ولي الطائع وعليه البردة ، ومعه الجيش ، وبين يديه سبكتكين في يوم الثلاثاء تاسع عشر ذي القعدة ، ومن غد هذا اليوم خلع على سبكتكين الخلع السلطانية ، وعقد له لواء الإمارة ، ولقبه نصر الدولة ، وحضر عيد الأضحى فركب الطائع [ ص: 226 ] إلى المصلى بالجانب الشرقي ، وعليه السواد قباء ، وعمامة ، وخطب خطبة بليغة بعد أن صلى بالناس كانت:

"الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلا الله ، والله أكبر ، متقربا إليه ، ومعتمدا عليه ، ومتوسلا بأكرم الخلائق لديه ، الذي صيرني إماما منصوصا عليه ، ووهب لي أحسن الطاعة في ما فوضه إلي من الخلافة على الأمة ، الله أكبر ، الله أكبر ، مقرا بجميل آلائه فيما أسنده إلي من حفظ الأمم وأموالها ، وذراريها ، وقمع بي الأعداء في حضرها وبواديها ، وجعلني خير مستخلف على الأرض ومن فيها .

الله أكبر ، الله أكبر ، تقربا بنحر البدن التي جعلها من شعائره ، وذكرها في محكم كتابه ، واتباعا لسنة نبيه وخليله صلى الله عليه وسلم في فدية أبينا إسماعيل ؛ إذ قد أمره بذبحه ، فاستسلم هراق دمه وسفحه غير جزع فيما نابه ، ولا نكل عن ما أمر به ، فتقربوا إلى الله في هذا اليوم العظيم بالذبائح ، فإنها من تقوى القلوب .

الله أكبر ، الله أكبر ، وصلى الله على محمد خيرته من خليقته ، وعلى أهل بيته وعترته ، وعلى آبائي الخلفاء النجباء ، وأيدني بالتوفيق فيما أتولى ، وسددني من الخلافة فيما أعطى ، وأنا أخوفكم معشر المسلمين غرور الدنيا؛ فلا تركنوا إلى ما يبيد ويفنى ، ويزول ويبلى ، وإني أخاف عليكم يوم الوقوف بين يدي الله تعالى غدا ، وصحفكم تقرأ عليكم ، فمن أوتي كتابه بيمينه فلا يخاف ظلما ولا هضما ، أعاذنا الله وإياكم من الردى ، واستعملنا وإياكم بأعمال أهل التقوى ، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين" .

ثم إن عز الدولة أدخل يده في إقطاع سبكتكين ، فجمع سبكتكين الأتراك الذين ببغداد ، ودعاهم إلى طاعته فأجابوه ، وراسل أبا إسحاق بن معز الدولة يعلمه بالحال ، ويطمعه أن يعقد له الأمر ، فاستشار والدته ، فمنعته من ذلك ، فصار إليها من ببغداد من الديلم ، وصوبوا لها محاربة سبكتكين ، فحاربوه ، فقهرهم واستولى على ما كان ببغداد لعز الدولة ،

وثارت العامة؛ تنصر سبكتكين ، وبعث سبكتكين إلى عز الدولة [ ص: 227 ] يقول له: إن الأمر قد خرج عن يدك ، فأخرج لي عن واسط وبغداد ليكونا لي وتكون البصرة والأهواز لك ، ولا تفتح بيننا باب حرب ، وكتب عز الدولة إلى عضد الدولة يساعده ويستنجده ، فماطله بذلك ، ثم إن الناس صاروا حزبين ، فأهل التشيع ينادون بشعار عز الدولة والديلم ، وأهل السنة ينادون بشعار سبكتكين والأتراك ، واتصلت الحروب ، وسفكت الدماء ، وكبست المنازل ، وأحرق الكرخ حريقا ثانيا .

التالي السابق


الخدمات العلمية