الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
2933 - عبيد الله بن محمد بن محمد بن حمدان أبو عبد الله العكبري المعروف بابن بطة:

ولد يوم الاثنين لأربع خلون من شوال سنة أربع وثلاثمائة ، وسمع أبا القاسم البغوي ويحيى بن صاعد وأبا بكر النيسابوري ، وخلقا كثيرا ، وسافر البلاد البعيدة في طلب العلم ، روى عنه أبو الفتح بن أبي الفوارس ، والأزجي ، والبرمكي وغيرهم ، وأثنى عليه العلماء الأكابر .

أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: حدثني القاضي أبو حامد أحمد بن محمد الدلوي قال: لما رجع أبو عبد الله بن بطة من الرحلة لازم بيته أربعين سنة ، فلم ير منها في سوق ولا رئي مفطرا إلا في يومي الأضحى والفطر ، وكان أمارا بالمعروف ، ولم يبلغه خبرا منكرا إلا غيره أو كما قال .

أخبرنا القزاز ، أخبرنا أحمد بن علي [ أخبرنا ] العتيقي قال: كان ابن بطة شيخا صالحا مستجاب الدعوة .

أخبرنا عبد الرحمن [ أخبرنا أحمد ] بن علي قال: لم أر في شيوخ أصحاب الحديث ولا في غيرهم أحسن هيئة من ابن بطة ،

أنبأنا أبو بكر محمد بن عبد الباقي عن [ أبي محمد ] الحسن بن علي الجوهري قال: سمعت أخي أبا عبد الله الحسين بن علي يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام ، فقلت: يا رسول الله ، قد اختلفت علينا المذاهب ، فبمن نقتدي ، فقال [ لي ] عليك بأبي عبد الله بن [ ص: 391 ] بطة ، فلما أصبحت لبست ثيابي وأصعدت إلى عكبرا ، فدخلت إليه ، فلما رآني تبسم وقال لي: صدق رسول الله ، صدق رسول الله ، صدق رسول الله . يقولها ثلاثا .

قال المصنف: وقد تعصب له الخطيب بعد أن نقل عن مشايخه [ الأكابر ] مدحه ، فغمزه بأشياء منها أنه قال: كتب إلي أبو ذر عبد بن أحمد الهروي من مكة يذكر أنه سمع نصرا الأندلسي يقول: خرجنا إلى عكبرا فكتبت عن ابن بطة كتاب السنن لرجاء بن مرجى عن حفص بن عمر الأردبيلي عن رجاء ، فأخبرت الدارقطني فقال: هذا محال ، دخل رجاء بغداد سنة أربعين ، ودخل حفص سنة خمسين ومائتين ، فكيف سمع منه ؟ !

قال الخطيب : وحدثني عبد الواحد الأسدي أنه لما أنكر الدارقطني هذا تتبع ابن بطة النسخ التي كتبت عنه وغير الرواية وجعلها عن أبي الراجيان عن فتح بن شخرف ، عن رجاء ،

وجواب هذا أن أبا ذر كان من الأشاعرة المبغضين ، وهو أول من أدخل الحرم مذهب الأشعري ، ولا يقبل جرحه لحنبلي يعتقد كفره ، وأما عبد الواحد الأسدي ؛ فهو ابن برهان ، وكان معتزليا . قال الخطيب : كان ابن برهان يذكر أنه سمع من ابن بطة ولم يرو شيئا وإنما كانت له معرفة بالنحو واللغة .

وقال: ابن عقيل كما ابن برهان يختار مذهب مرجئة المعتزلة وينفي الخلود في حق الكفار ، ويقول دوام العقاب في حق من لا يجوز عليه التشفي ، لا وجه له مع ما قد وصف به نفسه من الرحمة ، وهذا إنما يوجد في الشاهد لما يعتري الغضبان من طلب الانتقام ، وهذا يستحيل في حقه .

قال ابن عقيل : وهذا كلام نرده على قائله ما قد ذكره ، وذلك أنه أخذ صفات الباري تعالى من صفات الشاهد ، وذكر أن المثير للغضب ما يدخل على قلب الغضبان من غليان الدم؛ طلبا للانتقام ، وأوجب بذلك منع دوام العقاب حيث لا يوجد في حقه سبحانه التشفي . والشاهد يرد عليه ما ذكره؛ لأن المانع من التشفي غلبة الرحمة والرأفة ، وكلاهما رفعه طبع ، وليس الباري بهذا الوصف ولا رحمته وغضبه من أوصاف المخلوقين بشيء ، وهذا الذي ذكره من عدم التشفي وفورة الغضب كما يمنع دخوله عليه من الدوام يمنع من دخوله ووصفه ، ينبغي بهذه الطريقة أن يمنع أصل الوعيد ويحيله في حقه سبحانه كسائر المستحيلات عليه ، ولا يختلف نفس وجودها ودوامها ، فلا أفسد اعتقادا ممن أخذ صفات الله من صفاتنا وقاس أفعاله على أفعالنا .

قال المصنف: فمن كان اعتقاده يخالف إجماع المسلمين فهو خارج عن [ ص: 392 ] الإسلام ، فكيف يقبل قوله ؟ !

وقال محمد بن عبد الملك الهمذاني : كان ابن برهان يميل إلى المرد الملاح ويقبلهم . وروى الخطيب عن أبي القاسم التنوخي ، قال: أراد أبي أن يخرجني من عكبرا لأسمع من ابن بطة كتاب المعجم للبغوي ، فجاءه أبو عبد الله بن بكير ، وقال له: لا تفعل؛ فإن ابن بطة لم يسمع المعجم من البغوي وجواب هذا من ثلاثة أوجه:

أحدها: أن التنوخي كان معتزليا يميل إلى الرفض ، فكيف يقبل قوله في سني .

والثاني: أن هذه الشهادة على نفي؛ فمن أين له أنه لم يسمع ، وإذا قال ابن بطة : سمعت؛ فالإثبات مقدم .

والثالث: من أين له أنه إن كان لم يسمع أنه يرويه؛ فمن الجائز أنه لو مضى إليه قال له: ليس بسماعي وإنما أرويه إجازة ، فما أبله هذا الطاعن بهذا! إنما وجه الطعن أن يقول: قد رواه وليس بسماعه ، قال الخطيب : وحدثني أبو الفضل ابن خيرون قال: رأيت كتاب ابن بطة بمعجم البغوي في نسخة كانت لغيره قد حك سماع وكتب سماعه عليها قال: انظر إلى طعن المحدثين ، أتراه إذا حصلت للإنسان نسخة فحك اسم صاحبها وكتب سماع نفسه وهي سماعه أيوجب هذا طعنا ؟ ! ومن أين له أنه لم يعارض بهذا أصل سماعه ؟ ! ولقد قرأت بخط أبي القاسم ابن الفراء أخي القاضي أبي يعلى ، قال: قابلت أصل ابن بطة بالمعجم ، فرأيت سماعه في كل جزء إلا أني لم أر الجزء الثالث أصلا .

وأخبرنا إسماعيل بن أحمد السمرقندي ، أخبرنا أبو القاسم علي بن أحمد بن البسري ، عن أبي عبد الله بن بطة قال: كان لأبي ببغداد شركاء وفيهم رجل يعرف بأبي بكر ، فقال لأبي: ابعث إلى بغداد ابنك ليسمع الحديث ، فقال: ابني صغير ، فقال: أنا أحمله معي ، فحملني إلى بغداد ، فجئت إلى ابن منيع وهو يقرأ عليه الحديث .

فقال لي بعضهم: سل الشيخ يخرج إليك معجمه؛ فسألت ابنه أو ابن بنته ، فقال: إنه يريد دراهم . فأعطيناه ، ثم قرأنا عليه كتاب المعجم في نفر خاص في مدة عشرة أيام أو أقل أو أكثر؛ وذلك في سنة خمس عشرة أو ست عشرة ، وأذكره وقد قال: حدثنا إسحاق بن إسماعيل الطالقاني في سنة أربع وعشرين ومائتين ، فقال المستملي : خذوا هذا قبل أن يولد كل مولود على وجه الأرض . وسمعت المستملي وهو أبو عبد الله بن مهران يقول له: من ذكرت يا ثلث الإسلام ؟ !

قال المصنف: فإذا كان ابن بطة يقول: سمعت المعجم وقد ثبت صدقه وروى [ ص: 393 ] سماعه ، فكيف يدفع هذا بنفي؛ فيقال ما سمع ؟ ! فالقادح بهذا لا يخلو إما أن يكون قليل الدين أو قليل الفهم؛ فيكون ما رأى سماعه في نسخة أو ما رآه حاضرا مع طبقته فينفي عنه السماع .

قال الخطيب : وحدثني عبد الواحد بن برهان ، قال: قال لي محمد بن أبي الفوارس : روى ابن بطة عن البغوي عن مصعب عن مالك عن الزهري عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم [ قال ]: طلب العلم فريضة على كل مسلم . قال الخطيب : هذا باطل من حديث مالك ، والحمل فيه على ابن بطة ،

[ قال المصنف ]: وجواب هذا من وجهين:

أحدهما: أن هذا لا يصح عن ابن برهان ، قال شيخنا أبو محمد عبد الله بن علي المقرئ : شاهدت بخط الشيخ أبي القاسم بن برهان ، وكان الخط بيد الشيخ أبي الكرم النحوي بما حكاه عني أحمد بن ثابت الخطيب من القدح في الشيخ الزاهد أبي عبد الله بن بطة لا أصل له ، وهو شيخي ، وعنه أخذت العلم في البداية .

والثاني: أنه لو صح فقد ذكرنا القدح في ابن برهان ، فيقال حينئذ للخطيب : لم قبلت قول من يعتقد مذهب المعتزلة وأن الكفار لا يخلدون ، فيخرج بذلك إلى الكفر بخرقه الإجماع فيمن شهدت له بالسفر الطويل وطلب العلم ، وحكيت عن العلماء أنه الصالح المجاب الدعوة ، أفلا تستحيي من الله أن تجعل الحمل عليه في حديث ذكره عنه ابن برهان ولا تجعل الحمل على ابن برهان ؟ ! نعوذ بالله من الهوى!

توفي عبد الله بن بطة بعكبرا في محرم هذه السنة .

2934 - علي بن عبد العزيز بن مردك أبو الحسن البرذعي:

حدث عن عبد الرحمن بن أبي حاتم وغيره ، وكان أحد الباعة الكبار ببغداد ، فترك الدنيا ولزم المسجد ، واشتغل بالعبادة ، وأريد على الشهادة فامتنع ، وتوفي في محرم هذه السنة .

2935 - علي بن محمد بن أحمد بن شوكر أبو الحسن المعدل:

سمع البغوي ، وابن صاعد ، روى عنه الخلال والتنوخي ، وكان ثقة ، كتب الناس عنه بانتخاب الدارقطني ، توفي في هذه السنة . [ ص: 394 ]

2936 - علي أبو الحسن ، الملقب فخر الدولة بن أبي علي الملقب ركن الدولة بن بويه:

أقطعه أبوه بلدانا وكان في ملك ، فلما توفي أخوه مؤيد الدولة كتب إليه الصاحب ابن عباد يأمره بالإسراع ، فأسرع وملك مكان أخيه ، واستوزر الصاحب وكان شجاعا ، ولقبه الطائع بفلك الأمة ، وتوفي في شعبان هذه السنة وكانت إمارته ثلاث عشرة سنة وعشرة أشهر وسبعة وعشرين يوما ، وكان عمره ستا وأربعين سنة وخمسة أيام .

وكان حين اشتد مرضه قد أصعد به إلى قلعة ، فبقي فيها أياما يعلل ثم مات ، وكانت الخزائن مغلقة مختومة ، وقد جعلت مفاتيحها في كيس من حديد ، وسمره ، وحصلت عند ولده رستم ، فلم يوجد له في ليلة وفاته ما يكفن فيه ، وتعذر النزول إلى البلد لشدة شغب وقع بين الجند ، فابتيع من قيم الجامع الذي تحت القلعة ثوب ولف فيه ، وكان قد أراح لتشاغل الناس باختلاف الجند فلم يمكنهم لذلك القرب منه ولا مباشرة دفنه؛ فشد بالحبال وجر على درج القلعة من بعد حتى تقطع .

وكان يقول في حياته: قد جمعت من الأموال لولدي ما يكفيهم ويكفي عسكرهم خمس عشرة سنة إذا لم يكن لهم مادة إلا من الحاصل! وكان قد ترك ألفي ألف دينار وثمانمائة ألف وخمسة وسبعين ألفا ومائتين وأربعة وثمانين دينارا ، وكان في خزانته من الجواهر واليواقيت واللؤلؤ والبلخش أربع عشرة ألف وخمسمائة وعشرين قطعة قيمتها ثلاثة آلاف ألف دينار ، ومن أواني الذهب ما وزنه ألف ألف دينار ، ومن أواني الفضة ما وزنه ثلاثة آلاف ألف ، ومن الثياب ثلاثة آلاف حمل ، وخزانة السلاح ألفا حمل ، وخزانة الفرش ألف وخمسمائة حمل .

[ ص: 395 ] خاتمة الناسخ

تم الجزء الرابع عشر بحمد الله وعونه وحسن التوفيق .

يتلوه في الجزء الخامس عشر: ترجمة ابن سمعون الواعظ ،

وكان الفراغ منه في العشر الأخير من ربيع الأول سنة خمس وثمانمائة . أحسن الله نقضها بخير في عافية بمنه وكرمه ، وغفر لكاتبه ، ولمن نظر فيه ولجميع المسلمين .

والحمد لله رب العالمين وصلواته على سيدنا محمد وآله وصحبه ، وحسبنا الله ونعم الوكيل .

التالي السابق


الخدمات العلمية