الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 353 ] باب ذكر خلافة القادر بالله

واسمه: أحمد بن إسحاق بن المقتدر ، ويكنى: أبا العباس ، واسم أمه تمني مولاة عبد الواحد بن المقتدر ، وكانت من أهل الدين .

ولد في يوم الثلاثاء التاسع من ربيع الأول سنة ست وثلاثين وثلاثمائة ، وتقلد الخلافة بعد أن قبض الطائع لله وخلع ، وكان القادر حسن الطريقة ، كثير المعروف ، مائلا إلى الخير والتدين ، ولما رحل القادر عن البطيحة ، فوصل إلى جبل في عشار رمضان ، وانحدر بهاء الدولة ، ووجوه الأولياء وأماثل الناس لاستقباله ، فدخل دار الخلافة ليلة الأحد ثاني عشر رمضان سنة إحدى وثمانين ، وجلس من الغد جلوسا عاما ، وهنئ وأنشد بين يديه المديح ، ومما أنشد بين يديه في ذلك اليوم قصيدة الرضى التي أولها:


شرف الخلافة يا بني العباس اليوم جدده أبو العباس     ذا الطود أبقاه الزمان ذخيرة
من ذلك الجبل العظيم الراسي

وحمل إلى القادر بعض الفروش ، والآلات المأخوذة من الطائع ، واستكتب له [ أبو ] الفضل محمد بن أحمد الديلمي ، وجعل الأستاذ الدار عبد الواحد بن الحسين الشيرازي ، وفي يوم الخميس لتسع بقين من شوال جمع الأشراف والقضاة والشهود في مجلس القادر ، حتى سمعوا يمينه لبهاء الدولة بالوفاء ، وخلوص النية ، ولفظه بتقليده ما [ ص: 354 ] وراء بابه مما تقام فيه الدعوة ، وذلك بعد أن حلف له بهاء الدولة على صدقه والطاعة والقيام بشروط البيعة .

ذكر طرف من سيرة القادر [ بالله ]

أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب قال: رأيت القادر دفعات ، وكان أبيض حسن الجسم ، كث اللحية طويلها ، يخضب ، وكان من أهل الستر ، والديانة ، وإدامة التهجد بالليل ، وكثرة البر والصدقات على صفة اشتهرت عنه ، وعرف بها عند كل أحد مع حسن المذهب وصحة الاعتقاد ، وكان صنف كتابا فيه [ الأصول ، ذكر فيه ] فضائل الصحابة على ترتيب [ مذهب ] أصحاب الحديث ، وأورد في كتابه فضائل عمر بن عبد العزيز ، وأفكار المعتزلة ، والقائلين بخلق القرآن ، وكان الكتاب يقرأ [ في ] كل جمعة في حلقة أصحاب الحديث بجامع المهدي ويحضر الناس سماعه . ذكر محمد بن عبد الملك الهمداني أن القادر بالله كان يلبس زي العوام ويقصد الأماكن المعروفة بالبركة ، كقبر معروف وتربة ابن بشار ،

وقال الحسين بن هارون القاضي كان بالكرخ يتيم لم يثبت رشده وله دكان كثير النعمة ، وأمرني ابن حاجب النعمان أن أفك الحجر عنه ليبتاع صاحب له الدكان منه ، فلم أفعل ، فأنفده يستدعيني فقلت لغلامه: تقدمني حتى أعبر . ففعل ، فجئت إلى قبر معروف فدعوت الله أن يكفيني أمره وجئت إلى قبر ابن بشار ، ففعلت ذلك .

فرآني شيخ ، فقال: أيها القاضي ، على من تدعو ؟ فقلت: على ابن حاجب النعمان ، أمرني بكذا وكذا ، فأمسك الشيخ [ عني ] وعبرت إلى ابن حاجب النعمان ، فجعل يخاطبني خطابا غليظا في فك الحجر عن الصبي ، ولا يقبل مني عذرا ، وإذا قد أتاه خادم بتوقيع ، ففتحه وقرأه وتغير لونه ، ثم عدل من الغلظة إلى الاعتذار ، وقال: كتبت إلى الخليفة قصة ؟ فقلت: لا . فعلمت أن الشيخ كان القادر بالله ، وأنه عبر إلى داره ، فوقع إليه بما أوجب اعتذاره .

قال: وكان القادر يوصل الرسوم في كل سنة إلى أربابها من غير أن يكتب أحد منهم قصة ، فإن كان أحد منهم قد مات ، أعيد ما يخصه إلى ورثته ، وبعث يوما إلى ابن القزويني الزاهد ليسأله أن ينفذ إليه من طعامه الذي يأكله . قال ابن الهمذاني : فأنفذ ابن القزويني طبقا [ ص: 355 ] من الخلاف ، فيه غضائر لطاف ، فيها باذنجان مقلو وخل وباقلاء ودبس ، وعلى ذلك رغيفان من خبز البيت ، وشدد ذلك في مئزر قطن ، فتناول الخليفة من كل لون منه وفرق الباقي ، وبعث إلى ابن القزويني مائتي دينار .

فلما كان بعد أيام ، أنفذ الخليفة إليه بالفراش يلتمس من ابن القزويني إنفاذ شيء من إفطاره ، فأنفذ طبقا جديدا وفيه زبادى جياد وفيها فراريج وقطعة فالوذج وخبز سميذ ودجاجة مشوية ، وقد غطى ذلك بفوطة جديدة ، فلما وصل ذلك إلى الخليفة ، تعجب وقال: قد كلفنا الرجل ما لم تجر به عادته؛ فانفذ إليه ، لم يكن بك حاجة إلى الكلفة ، فقال: ما تكلفت ، وإنما اعتمدت ما أمرني الله به إذا وسع [ الله ] علي وسعت على نفسي ، وإذا ضيق ضيقت ، وقد كان من إنعام أمير المؤمنين ما عدت به على نفسي وجيراني ، فتعجب القادر بالله من دينه وعقله ولم يزل يواصله بالعطاء .

وكان القادر يقسم الطعام الذي يهيأ لإفطاره ثلاثة أقسام ، فقسم يتركه بين يديه ، وقسم يحمل إلى جامع الرصافة ، وقسم إلى جامع المدينة ، فيفرق على المجاورين ، فاتفق أن الفراش حمل إلى جامع المدينة جونة فيها طعام ، ففرقه على المنقطعين ، فأخذوا إلا شابا؛ فإنه رد ذلك ، فلما صلوا صلاة المغرب صلى الفراش معهم ، فرأى ذلك الشاب ، قد خرج من الجامع ، فتبعه ، فوقف على باب فاستطعم فأطعموه كسيرات ، فأخذها وعاد إلى الجامع ، فتعلق به الفراش ، وقال: ويحك! ألا تستحي ؟ ! ينفذ إليك خليفة الله في أرضه بطعام حلال فترده وتخرج فتستطعم من الأبواب ، فقال: والله ما رددته ، إلا لأنك عرضته علي قبل الإفطار وكنت غير محتاج إليه حينئذ ، فلما جاء وقت الإفطار استطعمت عند الحاجة فعاد الفراش ، فأخبر القادر ، فبكى ، وقال له: راع مثل هذا ، واغتنم أجره ، وأقم إلى وقت الإفطار ، وادفع إليه ما يفطر عليه .

حدثنا إبراهيم بن دينار الفقيه : قال: حدثني أبو سعيد عبد الوهاب بن حمزة بإسناد له ، عن أبي الحسن الأبهري قال: بعثني بهاء الدولة من الأهواز في رسالة إلى القادر بالله ، فلما أذن لي في الدخول عليه سمعته ينشد هذه الأبيات:


سبق القضاء بكل ما هو كائن     والله يا هذا لرزقك ضامن
[ ص: 356 ] تغنى بما تكفى وتترك ما به     تعيا كأنك للحوادث آمن
أوما ترى الدنيا ومصرع أهلها     فاعمل ليوم فراقها يا خائن
واعلم بأنك لا أبا لك في الذي     أصبحت تجمعه لغيرك خازن
يا عامر الدنيا أتعمر منزلا     لم يبق فيه مع المنية ساكن
الموت شيء أنت تعلم أنه     حق وأنت بذكره متهاون
إن المنية لا تؤامر من أتت     في نفسه يوما ولا تستأذن

فقلت: الحمد لله الذي وفق أمير المؤمنين لإنشاد [ مثل ] هذه الأبيات وتدبر معانيها والعمل بمضمونها ، فقال: يا أبا الحسن ، بل لله المنة علينا إذ ألهمنا بذكره ووفقنا لشكره ، ألم تسمع إلى قول الحسن البصري ، وقد ذكر عنده بعض أهل المعاصي ؟ فقال: هانوا عليه فعصوه ، ولو عزوا عليه لعصمهم ، وفي ذي القعدة لقب القادر بالله بهاء الدولة بغياث الأمة ، وخطب له بذلك على المنابر مضافا إلى ألقابه .

ونقل بهاء الدولة أخته زوجة الطائع لله إلى دار بمشرعة الصخر ، وأقام لها إقامات كافية ، وأقطعها إقطاعات ، فلم تزل كذلك حتى ماتت .

وفي يوم الثاني عشر من ذي الحجة وهو يوم الغدير جرت فتنة بين أهل الكرخ وباب البصرة ، واستظهر أهل باب البصرة ، وخرقوا أعلام السلطان ، فقتل يومئذ جماعة اتهموا بفعل ذلك ، وصلبوا على القنطرة ، فقامت الهيبة وارتدعوا .

وفي هذه السنة حج بالناس أبو الحسن محمد بن الحسن بن يحيى العلوي ، وكذلك سنة اثنتين وثلاث ، وكان أمير مكة أبو الفتوح الحسن بن جعفر العلوي ، فاتفق أن أبا القاسم بن المغربي حضر عند حسان ابن المفرج بن الجراح الطائي ، فحمله على مباينة العزيز صاحب مصر ، وقال: لا مغمز في نسب أبي الفتوح ، والصواب أن تنصبه إماما فوافقه .

ومضى المغربي إلى مكة ، فأطمع أبا الفتوح في الملك وسهل عليه الأمر ، فأصغى إلى قوله ، وبايعه شيوخ الحسنيين ، وحسن له أبو القاسم المغربي أن أخذ قبلة البيت وما فيه من فضة وضربه دراهم ، فاتفق أنه مات بجدة رجل يعرف بالمطوعي ، وعنده أموال للهند والصين ، [ ص: 357 ] وخلف مالا عظيما ، فأوصى لأبي الفتوح بمائة ألف دينار ليصون بها تركته والودائع التي عنده ، فحمله المغربي على الاستيلاء على التركة ، فخطب لنفسه بمكة ، وتسمى بالراشد بالله ، وصار لاحقا بآل الجراح ، فلما قرب من الرملة تلقاه العرب وقبلوا الأرض بين يديه وسلموا عليه بأمير المؤمنين ، ولقيهم راكبا على فرس ، متقلدا سيفا زعم أنه ذو الفقار وفي يده قضيب ذكر أنه قضيب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحوله جماعة من بني عمه وبين يديه ألف عبد أسود ، فنزل الرملة ونادى بإيصاء العدل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فبلغ العزيز هذا فانزعج ، وكتب إلى حسان ملطفات وبذل له بذولا كثيرة ، وآل المفرج ، واستمال آل الجراح كلهم ، وحمل إلى أولاد المفرج أموالا جزيلة حتى فلهما عن ذلك الجمع ، وكتب إلى ابن عم أبي الفتوح ، فولاه الحرمين ، وأنفذ له ولشيوخ بني حسن مالا ، وكان حسان قد أنفذ والدته إلى مصر بتذكرة تتضمن أعراضا له ، وسأل في جملتها أن يهدي له جارية من إماء القصر ، فأجابه الحاكم إلى ما سأل ، وبعث إليه خمسين ألف دينار ، وأهدى له جارية جهزها بمال عظيم ، فعادت والدته بالرغائب له ولأبيه [ فسر بذلك وأظهر طاعة العزيز ولبس خلعة ، وعرف أبو الفتوح الحال ، فأيس معها من نفسه وركب ] إلى المفرج مستجيرا به ، وقال: إنما فارقت نعمتي وأبديت للعزيز صفحتي سكونا إلى ذمامك ، وأنا الآن خائف من غدر حسان ، فأبلغني مأمني وسيرني إلى وطني . فرده إلى مكة وكاتب العزيز [ صاحب مصر ] واعتذر إليه ، فعذره .

التالي السابق


الخدمات العلمية