الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 168 ] 309 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في العزل وأنه الوأد الخفي وفيما روي عنه في تكذيبه من قال ذلك

1912 - حدثنا إبراهيم بن محمد بن يونس البصري وصالح بن عبد الرحمن الأنصاري ، قالا : حدثنا عبد الله بن يزيد المقرئ ، قال : حدثنا سعيد بن أبي أيوب ، عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن بن نوفل ، عن عروة ، عن عائشة رضي الله عنها ، قالت :

حدثتني جذامة قالت : ذكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم العزل فقال : ذاك الوأد الخفي .

[ ص: 169 ]

1913 - حدثنا الربيع بن سليمان الأزدي ، قال : حدثنا أبو زرعة الحجري ، قال : أخبرنا حيوة ، عن أبي الأسود أنه سمع عروة يحدث عن عائشة ، عن جذامة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر مثله .

1914 - حدثنا ابن أبي داود ، قال : حدثنا سعيد بن أبي مريم ، قال : أخبرنا يحيى بن أيوب ، قال : حدثنا أبو الأسود ثم ذكر بإسناده مثله .

1915 - وما حدثنا علي بن معبد ، قال : حدثنا يحيى بن إسحاق ، قال : حدثنا يحيى بن أيوب ثم ذكر بإسناده مثله .

[ ص: 170 ] وقال فيه جدامة بالدال .

فقال قائل : ما في هذه الآثار التي رويتموها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل العزل كما قد جعله فيها ، وقد رويتم عنه ما يخالف ذلك .

1916 - فذكر ما قد حدثنا بكار بن قتيبة ، قال : حدثنا أبو داود . ( ح ) .

وما قد حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال : حدثنا أبو داود ، عن هشام بن أبي عبد الله ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن أبي رفاعة ، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه رجل فقال يا رسول الله إن عندي جارية وأنا أعزل عنها ، وأنا أكره أن تحمل ، وأشتهي ما يشتهي الرجال ، وإن اليهود يقولون : هي الموؤودة الصغرى ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كذبت يهود لو أن الله عز وجل أراد أن يخلقه [ ص: 171 ] لم تستطع أن تصرفه .

1917 - وما قد حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال : حدثنا هارون بن إسماعيل الجزاز ، قال : حدثنا علي بن المبارك ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن أبي مطيع بن رفاعة ، عن أبي سعيد ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر مثله .

[ ص: 172 ]

1918 - وما قد حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني عياش بن عقبة الحضرمي ، عن موسى بن وردان ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، قال : بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اليهود يقولون : إن العزل هي الموؤودة الصغرى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كذبت يهود ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو أفضيت لم يكن إلا بقدر .

1919 - وما قد حدثنا ابن أبي داود ، قال : حدثنا عياش بن الوليد الرقام ، قال : حدثنا عبد الأعلى بن عبد الأعلى ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن إبراهيم ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وأبي أمامة بن سهل ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : أقمت جارية لي بسوق بني قينقاع ، فمر بي يهودي فقال : ما هذه الجارية ؟ فقلت : جارية لي ، قال : أكنت تصيبها ؟ قلت : نعم ، قال : فلعل في بطنها منك سخلة ، قال : قلت إني كنت أعزلها ، قال : تلك الموؤودة الصغرى ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال : كذبت يهود كذبت يهود .

[ ص: 173 ] فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله عز وجل وعونه : أنه قد يجوز أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما قد ذكرناه عنه في الفصل الأول من هذا الباب لما كان عليه من اتباع اليهود على شريعتهم لما لم يحدث الله في شريعته ما ينسخ ذلك ؛ إذ كانوا أهل كتاب مقتدين بالذي جاءهم بكتابهم ، وإذ كان الله عز وجل أنزل عليه فيما أنزل أولئك الذين هدى الله . يعني من تقدم من أنبيائه فبهداهم اقتده ، إنما كان يصل إلى ذلك مما كان يجده في التوراة وفيما سواها من كتب الله التي كان أنزل على أنبيائه قبله صلوات الله عليه وعليهم ، فجاز أن يكون لما كشفهم عن ذلك كيف هو في كتابهم ذكروا له أنه الموؤودة الصغرى وكذبوه فقال ما قال مما ترويه عنه جدامة ، ثم أعلمه الله عز وجل بكذبهم وأن الأمر في الحقيقة بخلاف ذلك كما لما سألهم عن حد الزنى في كتابهم ذكروا له أنه الجلد والفضيحة ، وأنه لا رجم فيه ، وأتوه بالتوراة فوضع أحدهم يده على آية الرجم حتى أعلمه عبد الله بن سلام أنهم قد كذبوه ، وأمر ذلك اليهودي رفع يده عن آية الرجم فرفعها فقامت عليهم الحجة بأن الرجم في كتابهم ، فرجم رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك من زنى منهم ممن أتوه به محكمين له فيه ، فمثل ذلك ما كان منهم في العزل لما بين الله عز وجل لرسوله [ ص: 174 ] صلى الله عليه وسلم كذبهم في ذلك بين لأمته صلى الله عليه وسلم كذبهم فيه ، وأنزل عليه في كتابه ما أوضح له ما يستعمل الوأد فيه وهو قوله عز وجل : ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين . إلى قوله : ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ، فأعلمه عز وجل بذلك الوقت الذي يكون المخلوق من النطفة فيه الحياة فيجوز أن يوأد حينئذ فيكون ميتا ، وأما قبل ذلك فليس بحي ، وإنما هي كسائر الأشياء التي لا حياة فيها ، فمحال أن يكون ما كان كذلك موؤودا ، وقد كان من علي بن أبي طالب رضي الله عنه خطاب لعمر بن الخطاب رضي الله عنه في هذا المعنى ما قد ذكرنا .

كما قد حدثنا صالح بن عبد الرحمن ، قال : حدثنا عبد الله بن يزيد المقرئ ، قال : حدثنا ابن لهيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن معمر بن أبي حيية ، قال :

سمعت عبيد الله بن رفاعة الأنصاري قال : تذاكر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه العزل فاختلفوا فيه فقال عمر رضي الله عنه : قد اختلفتم وأنتم أهل بدر الخيار فكيف بالناس بعدكم إذ تناجى رجلان ، فقال عمر : ما هذه المناجاة ؟ قال : إن اليهود تزعم أنها الموؤودة الصغرى ، فقال علي رضي الله عنه : إنها لا تكون موؤودة حتى تمر بالتارات السبع : ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين إلى آخر الآية ، فعجب عمر رضي الله عنه من قوله [ ص: 175 ] وقال : جزاك الله خيرا .

وكما حدثنا روح بن الفرج ، قال : حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير ، قال : حدثني الليث بن سعد ، حدثني معمر بن أبي حيية ، عن عبيد الله بن عدي بن الخيار ، قال : تذاكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عند عمر رضي الله عنه العزل ، ثم ذكر مثله سواء ، غير أنه لم يذكر فيه قوله : فعجب عمر رضي الله عنه من قوله وقال : جزاك الله خيرا .

قال أبو جعفر : فهذا من علي بن أبي طالب رضي الله عنه استخراج صحيح في هذا المعنى .

وقد روي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما هذا الكلام أيضا :

كما قد حدثنا بكار ، قال : حدثنا مؤمل بن إسماعيل ، قال : حدثنا سفيان ، قال : حدثنا الأعمش ، عن أبي الوداك أن قوما سألوا ابن عباس ، عن العزل ، فذكر مثل كلام علي في الحديثين الأولين سواء .

[ ص: 176 ] وكما حدثنا فهد ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا محمد بن شريك ، قال : سمعت ابن أبي مليكة ، عن ابن عباس أنه أتاه ناس من أهل العراق يسألونه عن العزل وهم يرون أنه الموؤودة فقال لجواريه : أخبروهم كيف أصنع ، فكأنهن استحيين ، فقال : إني لأصبه في الطست ثم أصب عليه الماء ثم أقول لإحداهن : انظري لا تقولين إن كان شيء ، ثم قال : إنه يكون نطفة ثم دما ثم علقة ثم مضغة ثم يكون عظما ، ثم يكسى لحما ثم يكون ما شاء الله حتى ينفخ فيه الروح ، ثم تلا هذه الآية : ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين .

قال أبو جعفر : فلما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على كذب اليهود فيما كانوا قالوه في العزل واستحالته ، أكذبهم فيه وأعلم الناس أنه لا يكون إن عزلوا أو لم يعزلوا إلا ما قدر الله عز وجل فيه من كون ولد منه ، [ ص: 177 ] أو من انتفاء ذلك منه ، وفيما ذكرنا من هذا كفاية لما احتجنا إلى هذا الكلام من أجله . والله نسأله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية