الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 219 ] 827 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قوله لسعد لما عاده في مرضه الذي كان عاده فيه لما قال له سعد : أميت أنا من مرضي هذا في الدار التي هاجرت منها ؟ فقال له : " إني أرجو ليرفعنك الله حتى ينفع بك قوم ، ويضر بك آخرون "

5221 - حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن الزهري ، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص ، عن أبيه - رضي الله عنه - قال : مرضت عام الفتح مرضا أشرفت منه على الموت ، فأتاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعودني ، فقلت : يا رسول الله ، إن لي مالا كثيرا ، أفأتصدق بمالي كله ؟ قال : " لا " ، قلت : فبالشطر ، قال : " لا " ، قلت : فالثلث ، قال : الثلث ، والثلث كثير ، إنك أن تترك ورثتك أغنياء خير من أن تتركهم عالة يتكففون الناس ، إنك لن تنفق نفقة إلا أجرت عليها ، حتى اللقمة ترفعها إلى في امرأتك " ، قلت : يا رسول الله ، أخلف عن هجرتي ؟ قال : " إنك لن تخلف بعدي ، فتعمل عملا تريد به وجه الله ، إلا ازددت به رفعة ودرجة ، [ ص: 220 ] ولعلك أن تخلف بعدي حتى ينتفع بك أقوام ، ويضر بك آخرون ، اللهم أمض لأصحابي هجرتهم ، ولا تردهم على أعقابهم ، لكن البائس سعد بن خولة " يرثي له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن مات بمكة .

5222 - حدثنا يونس ، قال : أخبرنا عبد الله بن وهب ، أن مالكا حدثه ، عن ابن شهاب ، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص ، عن أبيه سعد بن أبي وقاص ، أنه قال : أتاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعودني عام حجة الوداع من وجع اشتد بي ، فقلت : يا رسول الله ، قد بلغ بي الوجع ما ترى ، وأنا ذو مال ، ولا يرثني إلا ابنة لي ، ثم ذكر الحديث ، إلا أنه قال : الثلث والثلث كثير أو كبير .

قال أبو جعفر : فاختلف سفيان ومالك في هذا الحديث في السفرة التي كان مرض سعد فيها ، فقال سفيان : هي عام الفتح ، وقال مالك : هي حجة الوداع .

[ ص: 221 ] فأردنا أن ننظر إلى حقيقتها ، أي السفرتين كانت

5223 - فوجدنا محمد بن علي بن داود البغدادي قد حدثنا ، قال : حدثنا عفان بن مسلم ، قال : حدثنا وهيب بن خالد ، قال : حدثنا عبد الله بن عثمان بن خثيم ، عن عمرو القاري ، عن أبيه ، عن جده عمرو القاري : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدم مكة فخلف سعدا مريضا حين خرج إلى حنين ، فلما قدم من الجعرانة معتمرا دخل عليه وهو وجع مغلوب ، فقال سعد : يا رسول الله ، إن لي مالا ، وإني أورث كلالة ، أفأوصي بمالي كله ، أو أتصدق به ، قال : " لا " . قال : فأوصي بثلثيه ، قال : " لا " . قال : فأوصي بثلثه ، قال " نعم ، وذلك كبير " . قال : أي يا رسول الله ، أفميت أنا بالدار التي خرجت منها مهاجرا ؟ قال : إني أرجو أن يرفعك الله فينكأ بك أقوام ، وينفع بك آخرون ، يا عمرو بن القاري : إن مات سعد بعدي ، فادفنه هاهنا " يعني : نحو طريق المدينة ، وأشار بيده هكذا .

[ ص: 222 ] ففي هذا الحديث ما يوجب القضاء لابن عيينة على مالك في اختلافهما في السفرة التي كان فيها مرض سعد الذي قال له فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قال له في هذا الحديث ، وأنها عام الفتح لا حجة الوداع .

ثم طلبنا معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - : " ولعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام ، ويضر بك آخرون " ما هو . ؟

فوجدنا يحيى بن عثمان بن صالح قد حدثنا ، قال : حدثنا حرملة بن يحيى بن عبد الله بن حرملة بن عمران التجيبي ، قال : أخبرنا عبد الله بن وهب ، عن عمرو بن الحارث ، عن بكير بن الأشج ، قال : سألت عامر بن سعد عن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لسعد - رضي الله عنه - وعسى أن تبقى حتى ينفع بك أقوام ، ويضر بك آخرون . قال عامر : أمر سعد على العراق ، فقتل أقواما على الردة ، فأضرهم ، واستتاب قوما كانوا يسجعون سجع مسيلمة الكذاب ، فتابوا فانتفعوا به .

وكان مثل هذا مما لم يقله عامر رأيا ولا استنباطا ; لأن مثله لا يقال بالرأي ، ولا بالاستنباط ، ولكنه قاله توقيفا ; لأن مثله لا يقال إلا بالتوقيف ، وعسى أن يكون سمعه من أبيه ، أو ممن سواه ممن يصلح أخذ مثله عنه ، ولا يجوز أن يكون الذي أخذه عنه أخذه إلا من الجهة التي يؤخذ مثله من مثلها ، إما سماعا من رسول الله ، وإما سماعا ممن سمعه منه ، فبان بذلك معنى ما ذكرناه في الحديث الأول الذي لم يتبين فيه معناه ، والله نسأله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية