الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 465 ] 781 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في القتل : هل يكون منه شبه عمد ، كما يقول الكوفيون ، أو لا شبه عمد فيه ، كما يقول الحجازيون

4945 - حدثنا علي بن شيبة ، قال : حدثنا يحيى بن يحيى النيسابوري ، قال : أخبرنا هشيم ، عن خالد الحذاء ، عن القاسم بن ربيعة بن جوشن ، عن عقبة بن أوس السدوسي ، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوم فتح مكة ، فقال في خطبته : ألا إن قتل خطأ العمد بالسوط والعصا والحجر ، فيه دية مغلظة مائة من الإبل ، منها أربعون خلفة في بطونها أولادها .

[ ص: 466 ] قال : ففي هذا الحديث ، إعلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس ، أن في القتل بالسوط والعصا والحجر مائة من الإبل ، منها أربعون خلفة في بطونها أولادها ، ففي ذلك ما قد دل أنه لم يجعل فيه قودا ، وهذا مما قد اختلف فيه .

فطائفة منهم تقول : القتل وجهان : خطأ وعمد ، لا ثالث لهما ، وهذا قول الحجازيين .

وطائفة منهم تقول : القتل على ثلاثة أوجه : فمنه عمد فيه القود ، ومنه خطأ فيه الدية على العاقلة ، ومنه شبه عمد فيه هذه الدية المذكورة في هذا الحديث ، غير أن الكوفيين يختلفون في القتل بالحجر الثقيل الذي مثله يقتل ، فتقول طائفة منهم : هو شبه عمد لا قود فيه ، وفيه الدية مغلظة ، وممن قال بذلك منهم : أبو حنيفة .

وطائفة منهم تقول : في ذلك القود بالسيف ، وتذهب إلى أن الحجر المذكور في هذا الحديث ، هو الحجر الذي لا يقتل مثله من جنس السوط والعصا الذي لا يقتل أمثالهما ، وتقول في السوط والعصا : إن كرر الضرب بهما أو بأحدهما حتى يكون الضرب بجملته موهوما منه القتل ، كان ذلك عمدا ، وكان فيه القود بالسيف ، وممن كان يقول ذلك منهم : أبو يوسف ، ومحمد بن الحسن ، وقد ذكرنا الحديث المروي في ذلك في صدر هذا الباب من حديث هشيم خاصة ، عن خالد الحذاء ، وقد رواه غير هشيم ، وهو شعبة عن أيوب السختياني ، فخالفه في إسناده .

[ ص: 467 ]

4946 - كما قد حدثنا أحمد بن شعيب ، قال : حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، وهو ابن مهدي ، قال : حدثنا شعبة ، عن أيوب السختياني ، عن القاسم بن ربيعة ، عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : قتيل الخطأ شبه العمد بالسوط أو العصا مائة من الإبل ، أربعون منها في بطونها أولادها ، ولم يذكر أيوب في حديثه هذا عقبة بن أوس ، وقد رواه أيضا حماد بن زيد ، عن أيوب ، فخالف شعبة فيه .

4947 - كما حدثنا أحمد بن شعيب ، قال : أخبرنا محمد بن إسماعيل بن إبراهيم ، قال : حدثنا يونس بن محمد ، قال : حدثنا حماد ، عن أيوب ، عن القاسم بن ربيعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوم الفتح ولم يذكر في إسناده غير هذا .

[ ص: 468 ] ثم طلبنا ذكر الرجل الذي رجع ذكر هذا الحديث إليه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في رواية خالد من هو . ؟

4948 - فوجدنا أحمد بن شعيب قد حدثنا ، قال : حدثني يحيى بن حبيب بن عربي ، قال : حدثنا حماد ، عن خالد ، عن القاسم بن ربيعة ، عن عقبة بن أوس ، عن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : ألا وإن قتيل الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل ، فيها أربعون في بطونها أولادها .

[ ص: 469 ] ثم نظرنا هل روى هذا الحديث أيضا عن خالد غير هشيم .

4949 - فوجدنا أحمد قد حدثنا ، قال : حدثنا إسماعيل بن مسعود ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، عن خالد الحذاء ، عن القاسم بن ربيعة ، عن يعقوب بن أوس - ولم يقل عقبة - عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم ذكر الحديث .

4950 - ووجدنا أحمد قد حدثنا ، قال : حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا خالد ، عن القاسم بن ربيعة ، عن يعقوب بن أوس أن رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حدثه : أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال ، ثم ذكره ، ولم يذكر بشر ولا يزيد في حديثهما الحجر ، وإنما ذكر [ ص: 470 ] السوط والعصا خاصة ، وكان ما ذهب إليه أبو يوسف ومحمد مما ذكرناه عنهما أولى عندنا مما ذهب إليه أبو حنيفة ، مما ذكرناه عنه بالقياس ، ذلك أنا وجدنا القتل بالسيف على العمد لذلك يوجب القود ، والقاتل به مأثوم إثم القتل .

ووجدنا القاتل بالحجر الثقيل الذي مثله يقتل مأثوما إثم القتل .

ووجدنا القاتل بالسوط والعصا اللذين مثلهما لا يقتل إذا كان منهما القتل لم يكن على القاتل بهما إثم القتل .

فعقلنا بذلك : أن ما كان معه إثم القتل كان فيه القود ، وأن ما لم يكن معه إثم القتل لم يكن فيه قود ، وكانت فيه الدية مغلظة ، فكان من ذكرناه من الكوفيين يختلفون في الدية المغلظة ما هي ، فكان أبو حنيفة وأبو يوسف يقولان : هي مائة من الإبل ، منها خمس وعشرون بنات مخاض ، ومنها خمس وعشرون بنات لبون ، ومنها خمس وعشرون حقة ، ومنها خمس وعشرون جذعة ، وكان محمد بن الحسن يخالفهما في ذلك ، ويقول : هي مائة من الإبل ، منها ثلاثون حقة ، ومنها ثلاثون جذعة ، ومنها أربعون خلفة في بطونها أولادها ، وكان هذا القول عندنا أولى ما قيل في هذا الباب لموافقة قائله ما قد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه مما قد ذكرنا ، فأما ما دون النفس فلا اختلاف بين أهل العلم فيه أنه وجهان ، خطأ وعمد لا شبه عمد معهما ، وقد كان الحجازيون يحتجون بها على الكوفيين ، ويقولون كما لم يكن فيما دون النفس شبه عمد ، فكذلك لا يكون في النفس شبه عمد .

وكما كان ما دون النفس خطأ وعمد لا ثالث لهما ، فكذلك ما [ ص: 471 ] يكون في النفس يكون خطأ وعمدا لا ثالث لهما ، فنظرنا هل روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء يدل على أحد المذهبين ، فيكون هو الأولى في ذلك .

4951 - فوجدنا بكار بن قتيبة قد حدثنا ، قال : حدثنا عبد الله بن بكر السهمي .

4952 - ووجدنا إبراهيم بن مرزوق قد حدثنا ، قال : حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري وعبد الله بن بكر السهمي ، ثم اجتمعا جميعا ، أعني : بكارا وإبراهيم فقالا في حديثيهما : حدثنا حميد الطويل ، عن أنس بن مالك أن عمته الربيع لطمت جارية فكسرت ثنيتها ، وطلبوا إليهم العفو ، فأبوا ، والأرش ، فأبوا ، وأبوا إلا القصاص ، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص ، فقال أنس بن النضر : أتكسر ثنية الربيع ؟ لا والذي بعثك بالحق ، لا تكسر ثنيتها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أنس ، كتاب الله - عز وجل - القصاص ، فرضي القوم فعفوا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن من عباد الله - عز وجل - من لو أقسم على الله لأبره ، وكانت اللطمة مما لو كانت في النفس [ ص: 472 ] لم يكن فيها قود ، وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها القود فيما دون النفس ، فكان تصحيح هذا الحديث والحديث الذي رويناه قبله يدلان على ما قال الكوفيون : إن النفس قد يكون فيها عمد يوجب القود ، وقد يكون فيها خطأ يوجب دية الخطأ ، وقد يكون فيها شبه عمد يوجب دية شبه العمد ، وإن ما دون النفس لا يكون فيه إلا خطأ وعمد لا شبه عمد معهما ، والله نسأله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية