الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
541 - وقال الأشعري: في كتاب "الإبانة في أصول الديانة" له في باب الاستواء: فإن قال قائل ما تقولون في الاستواء؟

قيل: نقول: إن الله مستو على عرشه كما قال: ( الرحمن على العرش استوى ) ، وقال: ( إليه يصعد الكلم الطيب ) ، وقال: ( بل رفعه الله إليه ) ، وقال حكاية عن فرعون: ( وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا ) ، [ ص: 219 ] كذب موسى في قوله إن الله فوق السماوات وقال - عز وجل - : ( أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض ) ، فالسماوات فوقها العرش، فلما كان العرش فوق السماوات، وكل ما علا فهو سماء وليس إذا قال: ( أأمنتم من في السماء ) يعني جميع السماوات، وإنما أراد العرش الذي هو أعلى السماوات، ألا ترى أنه ذكر السماوات، فقال: ( وجعل القمر فيهن نورا ) ، ولم يرد أنه يملأهن جميعا.

قال: ورأينا المسلمين جميعا يرفعون أيديهم - إذا دعوا - نحو السماء; لأن الله مستو على العرش الذي هو فوق السماوات، فلولا أن الله على العرش، لم يرفعوا أيديهم نحو العرش، وقد قال قائلون من المعتزلة والجهمية والحرورية: إن معنى "استوى": استولى وملك وقهر، وأنه تعالى في كل مكان، وجحدوا أن يكون على عرشه كما قال أهل الحق، وذهبوا في الاستواء إلى القدرة، فلو كان كما قالوا، كان لا فرق بين العرش وبين الأرض السابعة; لأنه قادر على كل شيء والأرض (شيء) فالله قادر عليها وعلى الحشوش.

وكذا لو كان مستويا على العرش بمعنى الاستيلاء لجاز أن يقال هو مستو على الأشياء كلها، ولم يجز عند أحد من المسلمين أن يقول إن الله مستو على الأخلية والحشوش، فبطل أن يكون الاستواء الاستيلاء، وذكر أدلة من الكتاب والسنة والعقل سوى ذلك.

‏ * وكتاب "الإبانة" من أشهر تصانيف أبي الحسن، شهره الحافظ ابن عساكر، واعتمد عليه، ونسخه بخطه الإمام محيي الدين النواوي، ونقل الإمام أبو بكر بن فورك المقالة المذكورة عن أصحاب الحديث عن أبي الحسن الأشعري في كتاب "المقالات والخلاف" [ ص: 220 ] بين الأشعري وبين أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب البصري، تأليف ابن فورك، فقال الفصل الأول في ذكر ما حكى أبو الحسن - رضي الله عنه - في كتاب "المقالات" من جمل مذاهب أصحاب الحديث، وما أبان في آخره أنه يقول بجميع ذلك، ثم سرد ابن فورك المقالة بهيئتها ثم قال في آخرها: فهذا تحقيق لك من ألفاظه، أنه معتقد لهذه الأصول التي هي قواعد أصحاب الحديث وأساس توحيدهم.

* قال الحافظ أبو العباس أحمد بن ثابت الطرقي: قرأت كتاب أبي الحسن الأشعري الموسوم بـ"الإبانة" أدلة على إثبات الاستواء، قال في جملة ذلك: ومن دعاء أهل الإسلام إذا هم رغبوا إلى الله يقولون يا ساكن العرش، ومن حلفهم: لا، والذي احتجب بسبع.

وقال الأستاذ أبو القاسم القشيري - رحمه الله - في شكاية أهل السنة: ما نقموا من أبي الحسن الأشعري إلا أنه قال بإثبات القدر، وإثبات صفات الجلال لله، من قدرته، وعلمه، وحياته، وسمعه، وبصره، ووجهه، ويده، وأن القرآن كلامه غير مخلوق.

* سمعت أبا علي الدقاق يقول: سمعت زاهر بن أحمد الفقيه يقول: مات الأشعري - رحمه الله - ورأسه في حجري، فكان يقول شيئا في حال نزعه: لعن الله المعتزلة موهوا ومخرقوا.

* قال الحافظ الحجة أبو القاسم بن عساكر في كتاب "تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الأشعري": فإذا كان أبو الحسن - رحمه الله - كما ذكر عنه من حسن الاعتقاد، مستصوب المذهب عند أهل المعرفة والانتقاد، يوافقه في أكثر ما يذهب إليه أكابر العباد، ولا يقدح في مذهبه غير أهل الجهل والعناد، فلا بد أن يحكى عنه معتقده على وجهه بالأمانة، ليعلم حاله في صحة عقيدته في الديانة، فاسمع ما ذكره في كتاب الإبانة فإنه قال: "الحمد لله الواحد، العزيز الماجد، المتفرد بالتوحيد، المتمجد بالتمجيد، الذي لا تبلغه صفات العبيد، وليس له مثل ولا نديد"، فرد في خطبته على المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة، فعرفونا ما قولكم الذي تقولون، وديانتكم التي بها تدينون؟ قيل له: قولنا الذي به نقول وديانتنا التي بها ندين التمسك بكتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، [ ص: 221 ] وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان عليه أحمد بن حنبل - نضر الله وجهه - قائلون، ولمن خالف قوله مجانبون، لأنه الإمام الفاضل، والرئيس الكامل، الذي أبان الله به الحق عند ظهور الضلال، وأوضح به المنهاج، وقمع به المبتدعين - فرحمه الله - من إمام مقدم، وكبير مفهم، وعلى جميع أئمة المسلمين.

وجملة قولنا: أن نقر بالله وملائكته وكتبه ورسله، وما جاء من عند الله، وما رواه الثقات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا نرد من ذلك شيئا، وأن الله إله واحد أحد فرد صمد لا إله غيره، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن الجنة والنار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأن الله تعالى مستو على عرشه، كما قال: ( الرحمن على العرش استوى ) ، وأن له وجها كما قال: ( ويبقى وجه ربك ) ، وأن له يدين كما قال: ( بل يداه مبسوطتان ) ، وأن له عينين بلا كيف، كما قال: ( تجري بأعيننا ) ، وأن من زعم أن اسم الله غيره كان ضالا، وندين أن الله يرى بالأبصار يوم القيامة، كما يرى القمر ليلة البدر; يراه المؤمنون...".

إلى أن قال: "وندين بأنه يقلب القلوب، وأن القلوب بين إصبعين من أصابعه، وأنه يضع السماوات والأرض على إصبع، كما جاء في الحديث - إلى أن قال - وأنه يقرب من خلقه كيف شاء، كما قال: ( ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ) ، وكما قال: ( ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى ) ، ونرى مفارقة كل داعية إلى بدعة، ومجانبة أهل الأهواء، وسنحتج لما ذكرناه من قولنا وما بقي بابا بابا، وشيئا شيئا..".

* ثم قال ابن عساكر: فتأملوا - رحمكم الله - هذا الاعتقاد ما أوضحه وأبينه، واعترفوا بفضل هذا الإمام الذي شرحه وبينه.

وقال الحافظ ابن عساكر: وقال الإمام أبو الحسن في كتابه الذي سماه "العمد في الرؤية"، ألفنا كتابا كبيرا في الصفات، تكلمنا فيه على أصناف المعتزلة والجهمية، فيه فنون كثيرة من الصفات في إثبات الوجه واليدين، وفي استوائه على العرش.

* كان أبو الحسن أولا معتزليا أخذ عن أبي علي الجبائي، ثم نابذه ورد عليه، وصار متكلما للسنة، ووافق أئمة الحديث في جمهور ما يقولونه، وهو ما سقناه عنه من أنه نقل [ ص: 222 ] إجماعهم على ذلك وأنه موافقهم. وكان يتوقد ذكاء، أخذ علم الأثر عن الحافظ زكريا الساجي. وتوفي سنة أربع وعشرين وثلاثمائة، وله أربع وستون سنة - رحمه الله تعالى - .

فلو انتهى أصحابنا المتكلمون إلى مقالة أبي الحسن هذه ولزموها لأحسنوا، ولكنهم خاضوا كخوض حكماء الأوائل في الأشياء، ومشوا خلف المنطق، فلا قوة إلا بالله .

التالي السابق


الخدمات العلمية