الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
أبو الحسن بن مهدي المتكلم

552 - قال الإمام أبو الحسن علي بن مهدي الطبري، تلميذ الأشعري، في كتاب "مشكل الآيات" له في باب قوله: ( الرحمن على العرش استوى ) ، "اعلم أن الله في السماء فوق كل شيء، مستو على عرشه، بمعنى أنه عال عليه، ومعنى الاستواء: الاعتلاء كما تقول العرب استويت على ظهر الدابة، واستويت على السطح بمعنى: علوته، واستوت الشمس على رأسي، واستوى الطير على قمة رأسي بمعنى: علا في الجو فوجد فوق رأسي.

فالقديم - جل جلاله - عال على عرشه، يدلك على أنه في السماء عال على عرشه،
قوله: ( أأمنتم من في السماء ) وقوله: ( يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ) وقوله: ( إليه يصعد الكلم الطيب ) وقوله: ( ثم يعرج إليه ) ، وزعم البلخي أن استواء الله على العرش هو الاستيلاء عليه، مأخوذ من قول العرب: "استوى بشر على العراق" أي: استولى عليها، وقال: إن العرش يكون الملك، فيقال له: ما أنكرت أن يكون عرش [ ص: 232 ] الرحمن جسما خلقه، وأمر ملائكته بحمله، قال: ( ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية ) ، وأمية يقول:


مجدوا الله فهو للمجد أهل ربنا في السماء أمسى كبيرا     بالبناء الأعلى الذي سبق الناس
وسوى فوق السماء سريرا



قال: مما يدل على أن الاستواء ههنا ليس بالاستيلاء; أنه لو كان كذلك لم يكن ينبغي أن يخص العرش بالاستيلاء عليه دون سائر خلقه، إذ هو مستول على العرش وعلى الخلق، ليس للعرش مزية على ما وصفته، فبان بذلك فساد قوله.

ثم يقال له أيضا: إن الاستواء ليس هو الاستيلاء الذي هو من قول العرب: استوى فلان على كذا، أي استولى، إذا تمكن منه بعد أن لم يكن متمكنا، فلما كان الباري - عز وجل - لا يوصف بالتمكن بعد أن لم يكن متمكنا، لم يصرف معنى الاستواء إلى الاستيلاء.

ثم ذكر ما حدثه نفطويه ، عن داود بن علي، عن ابن الأعرابي، وقد مر، ثم قال: "فإن قيل: ما تقولون في قوله: ( أأمنتم من في السماء ) ، قيل له: معنى ذلك أنه فوق السماء على العرش، كما قال: ( فسيحوا في الأرض ) بمعنى على الأرض، [ ص: 233 ] وقال: ( ولأصلبنكم في جذوع النخل ) فكذلك: ( أأمنتم من في السماء ) .

* فإن قيل: فما تقولون في قوله: ( وهو الله في السماوات وفي الأرض ) .

قيل له: إن بعض القراء يجعل الوقف في: ( السماوات ) ثم يبتدئ: ( وفي الأرض يعلم ) ، وكيفما كان، فلو أن قائلا قال: فلان بالشام والعراق ملك لدل على أن ملكه بالشام والعراق، لا أن ذاته فيهما إلى أن قال: وإنما أمرنا الله برفع أيدينا قاصدين إليه برفعها نحو العرش الذي هو مستو عليه.

‏ * الطبري رأس في المتكلمين، صنف التصانيف، وصحب أبا الحسن الأشعري. ذكره الحافظ أبو القاسم في طبقات أصحاب أبي الحسن الأشعري، وأثنى عليه ابن شعبان.

قال شيخ المالكية أبو إسحاق محمد بن القاسم بن شعبان المصري: في كتاب "تسمية الرواة عن مالك": الحمد لله أحق ما بدا، وأول من شكر، الواحد الصمد، ليس له صاحبة ولا ولد، جل عن المثل بلا شبه ولا عدل، على عرشه استوى، فهو دان بعلمه، أحاط علمه بالأمور، ونفذ حكمه في سائر المقدور.

مات ابن شعبان بمصر سنة خمس وخمسين وثلاثمائة، (وكان) من كبار الأئمة .

التالي السابق


الخدمات العلمية