الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
فصل

في علمه، وأنه أعلم الصحابة، وأذكاهم

قال النووي في «تهذيبه»، ومن خطه نقلت: (استدل أصحابنا على عظم علمه بقوله - رضي الله عنه - في الحديث الثابت في «الصحيحين»: «والله، لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، والله، لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم... لقاتلتهم على منعه».

واستدل الشيخ أبو إسحاق بهذا وغيره في «طبقاته»: على أن أبا بكر أعلم الصحابة ; لأنهم كلهم وقفوا عن فهم الحكمة في المسألة إلا هو، ثم ظهر لهم بمباحثته لهم أن قوله هو الصواب، فرجعوا إليه.

وروينا عن ابن عمر أنه سئل: من كان يفتي الناس في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال: «أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ما أعلم غيرهما».

وأخرج الشيخان عن أبي سعيد الخدري قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس وقال: إن الله تبارك تعالى خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ذلك العبد ما عند الله». فبكى أبو بكر وقال: بل نفديك بآبائنا وأمهاتنا، فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن عبد خير، فكان [ ص: 117 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير، وكان أبو بكر أعلمنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من أمن الناس علي في صحبته وماله أبا بكر ، ولو كنت متخذا خليلا غير ربي.. لاتخذت أبا بكر ، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين باب إلا سد إلا باب أبي بكر ». هذا كلام النووي .

وقال ابن كثير : (كان الصديق - رضي الله عنه - أقرأ الصحابة - أي: أعلمهم بالقرآن - لأنه صلى الله عليه وسلم قدمه إماما للصلاة بالصحابة مع قوله: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله».

وأخرج الترمذي عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أن يؤمهم غيره ».

وكان مع ذلك أعلمهم بالسنة، كما رجع إليه الصحابة في غير موضع يبرز عليهم بنقل سنن عن النبي صلى الله عليه وسلم يحفظها هو، ويستحضرها عند الحاجة إليها، ليست عندهم، وكيف لا يكون كذلك وقد واظب صحبة الرسول صلى الله عليه وسلم من أول البعثة إلى الوفاة؟ ! وهو مع ذلك من أذكى عباد الله وأعقلهم.

وإنما لم يرو عنه من الأحاديث المسندة إلا القليل، لقصر مدته، وسرعة وفاته بعد النبي صلى الله عليه وسلم وإلا فلو طالت مدته.. لكثر ذلك عنه جدا، ولم يترك الناقلون عنه حديثا إلا نقلوه عنه، ولكن كان الذين في زمانه من الصحابة لا يحتاج أحدهم أن ينقل عنه ما قد شاركه هو في روايته ; فكانوا ينقلون عنه ما ليس عندهم.

وأخرج أبو القاسم البغوي عن ميمون بن مهران قال: (كان أبو بكر إذا ورد عليه الخصم.. نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي بينهم.. قضى به، وإن [ ص: 118 ] لم يكن في الكتاب، وعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الأمر سنة قضى بها، فإن أعياه خرج فسأل المسلمين وقال: أتاني كذا وكذا، فهل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في ذلك بقضاء؟ فربما اجتمع إليه النفر كلهم يذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه قضاء، فيقول أبو بكر : الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ عن نبينا، فإن أعياه أن يجد فيه سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم... جمع رءوس الناس وخيارهم فاستشارهم، فإن أجمع أمرهم على رأي.. قضى به).

وكان عمر - رضي الله عنه - يفعل ذلك، فإن أعياه أن يجد في القرآن والسنة.. نظر هل كان لأبي بكر فيه قضاء؟ فإن وجد أبا بكر قضى فيه بقضاء.. قضى به، وإلا.. دعا رءوس المسلمين، فإذا اجتمعوا على أمر.. قضى به.

وكان الصديق - رضي الله عنه - مع ذلك أعلم الناس بأنساب العرب، لا سيما قريش.

أخرج ابن إسحاق عن يعقوب بن عتبة، عن شيخ من الأنصار قال: (كان جبير بن مطعم من أنسب قريش لقريش وللعرب قاطبة، وكان يقول: إنما أخذت النسب من أبي بكر الصديق وكان أبو بكر الصديق من أنسب العرب).

وكان الصديق مع ذلك غاية في علم تعبير الرؤيا، وقد كان يعبر الرؤيا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم.

وقد قال محمد بن سيرين - وهو المقدم في هذا العلم بالاتفاق -: (كان أبو بكر أعبر هذه الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم). أخرجه ابن سعد .

وأخرج الديلمي في «مسند الفردوس» وابن عساكر عن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أؤول الرؤيا أبا بكر ». قال ابن كثير : غريب.

[ ص: 119 ] وكان من أفصح الناس وأخطبهم ; قال الزبير بن بكار : سمعت بعض أهل العلم يقول: (خطباء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبو بكر الصديق وعلي بن أبي طالب - رضي الله عنهما -).

وسيأتي في حديث السقيفة قول عمر رضي الله عنه: (وكان من أعلم الناس بالله وأخوفهم له).

وسيأتي من كلامه في ذلك، وفي تعبير الرؤيا، ومن خطبه جملة في فصل مستقل.

ومن الدال على أنه أعلم الصحابة: حديث صلح الحديبية، حيث سأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك الصلح، وقال: (علام نعطي الدنية في ديننا؟ فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم ثم ذهب إلى أبي بكر فسأله عما سأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجابه الصديق بمثل ما أجابه النبي صلى الله عليه وسلم سواء بسواء. أخرجه البخاري وغيره.

وكان مع ذلك أسد الصحابة رأيا، وأكملهم عقلا، أخرج تمام الرازي في «فوائده» وابن عساكر عن عبد الله بن عمرو بن العاصي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أتاني جبريل فقال: إن الله يأمرك أن تستشير أبا بكر ».

وأخرج الطبراني وأبو نعيم وغيرهما عن معاذ بن جبل: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يسرح معاذا إلى اليمن.. استشار ناسا من أصحابه فيهم أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وطلحة ، والزبير ، وأسيد بن حضير ، فتكلم القوم كل [ ص: 120 ] إنسان برأيه، فقال: «ما ترى يا معاذ؟» فقلت: أرى ما قال أبو بكر ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يكره فوق سمائه أن يخطأ أبو بكر ».

ورواه ابن أبي أسامة في «مسنده» بلفظ: إن الله يكره في السماء أن يخطأ أبو بكر الصديق في الأرض».

وأخرج الطبراني في «الأوسط» عن سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يكره أن يخطأ أبو بكر » رجاله ثقات.

التالي السابق


الخدمات العلمية