الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
[عهد الصديق ووصيته رضي الله عنه]

ودخل عليه بعض الصحابة، فقال له قائل منهم: ما أنت قائل لربك إذا سألك عن استخلافك عمر علينا وقد ترى غلظة؟ فقال أبو بكر: أبالله تخوفني؟ ! أقول: اللهم، إني استخلفت عليهم خير أهلك، أبلغ عني ما قلت من ورائك.

ثم دعا عثمان، فقال: اكتب:

بسم الله الرحمن الرحيم

هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة في آخر عهده بالدنيا خارجا منها، وعند أول عهده بالآخرة داخلا فيها، حيث يؤمن الكافر، ويوقن الفاجر، ويصدق [ ص: 170 ] الكاذب: إني استخلفت عليكم بعدي عمر بن الخطاب، فاسمعوا له وأطيعوا، وإني لم آل الله ورسوله ودينه ونفسي وإياكم خيرا، فإن عدل.. فذلك ظني به وعلمي فيه، وإن بدل فلكل امرئ ما اكتسب، والخير أردت، ولا أعلم الغيب: وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون والسلام عليكم ورحمة الله.

ثم أمر بالكتاب فختمه، ثم أمر عثمان فخرج بالكتاب مختوما، فبايع الناس ورضوا به، ثم دعا أبو بكر عمر خاليا، فأوصاه بما أوصاه به، ثم خرج من عنده، فرفع أبو بكر يديه فقال: اللهم إني لم أرد بذلك إلا صلاحهم، وخفت عليهم الفتنة، فعملت فيهم بما أنت أعلم به، واجتهدت لهم رأيي، فوليت عليهم خيرهم وأقواهم عليهم، وأحرصهم على ما أرشدهم، وقد حضرني من أمرك ما حضر، فاخلفني فيهم، فهم عبادك، ونواصيهم بيدك، أصلح لهم ولاتهم، واجعله من خلفائك الراشدين، وأصلح له رعيته).

وأخرج ابن سعد والحاكم عن ابن مسعود، قال: (أفرس الناس ثلاثة: أبو بكر حين استخلف عمر، وصاحبة موسى حين قالت: استأجره، والعزيز حين تفرس في يوسف فقال لامرأته: أكرمي مثواه).

وأخرج ابن عساكر عن سيار أبي حمزة، قال: (لما ثقل أبو بكر.. أشرف على الناس من كوة فقال: أيها الناس، إني قد عهدت عهدا، أفترضون به؟ فقال الناس: رضينا يا خليفة رسول الله، فقام علي فقال: لا نرضى إلا أن يكون عمر، قال: فإنه عمر).

وأخرج أحمد عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: (إن أبا بكر لما حضرته الوفاة.. قال: أي يوم هذا؟ قالوا: يوم الاثنين قال: فإن مت من ليلتي.. فلا تنتظروا بي الغد، فإن أحب الأيام والليالي إلى أقربها من رسول الله صلى الله عليه وسلم).

[ ص: 171 ] وأخرج مالك عن عائشة رضي الله عنها: (أن أبا بكر نحلها جاد عشرين وسقا من ماله بالغابة، فلما حضرته الوفاة.. قال: يا بنية، والله ما من الناس أحد أحب إلي غنى منك، ولا أعز علي فقرا بعدي منك، وإني كنت نحلتك جاد عشرين وسقا، فلو كنت جددتيه واحتزتيه.. كان لك، وإنما هو اليوم مال وارث، وإنما هماأخواك وأختاك، فاقتسموه على كتاب الله، فقلت: يا أبت، والله لو كان كذا وكذا... لتركته، إنما هي أسماء، فمن الأخرى؟ قال: ذو بطن ابنة خارجة، أراها جارية).

وأخرجه ابن سعد، وقال في آخره: (قال: ذات بطن ابنة خارجة، قد ألقي في روعي أنها جارية، فاستوصي بها خيرا، فولدت أم كلثوم).

وأخرج ابن سعد عن [ خالد بن أبي عزة ]: أن أبا بكر أوصى بخمس ماله، وقال: (آخذ من مالي ما أخذ الله من فيء المسلمين).

وأخرج من وجه آخر عنه قال: (لأن أوصي بالخمس.. أحب إلي من أن أوصي بالربع، ولأن أوصي بالربع.. أحب إلي من أن أوصي بالثلث، ومن أوصى بالثلث.. لم يترك شيئا).

وأخرج سعيد بن منصور في «سننه» عن الضحاك: (أن أبا بكر وعليا أوصيا بالخمس من أموالهما لمن لا يرث من ذوي قرابتهما).

وأخرج عبد الله بن أحمد في «زوائد الزهد» عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: (والله، ما ترك أبو بكر دينارا ولا درهما ضرب الله سكته).

[ ص: 172 ] وأخرج ابن سعد وغيره عن عائشة - رضي الله عنها - قالت:) لما ثقل أبو بكر.. تمثلت بهذا البيت:


لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر

فكشف عن وجهه، وقال: ليس كذلك، ولكن قولي: وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد [ق: 19] انظروا ثوبي هذين فاغسلوهما، وكفنوني فيهما، فإن الحي أحوج إلى الجديد من الميت).

وأخرج أبو يعلى عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: (دخلت على أبي بكر وهو في الموت فقلت:

من لا يزال دمعه مقنعا     فإنه في مرة مدفوق

فقال: لا تقولي هذا ولكن قولي: وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد [ق: 19] ثم قال: في أي يوم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: يوم الاثنين، قال: أرجو فيما بيني وبين الليل، فتوفي ليلة الثلاثاء، ودفن قبل أن يصبح).

وأخرج عبد الله بن أحمد في «زوائد الزهد»، عن بكر بن عبد الله المزني قال: لما حضر أبو بكر.. قعدت عائشة - رضي الله عنها – عند رأسه، فقالت:


وكل ذي إبل يوما سيوردها     وكل ذي سلب لا بد مسلوب

ففهمها أبو بكر ، فقال: (ليس كذلك يا ابنتاه، ولكنه كما قال الله: وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد [ق: 19].

[ ص: 173 ] وأخرج أحمد، عن عائشة رضي الله عنها: أنها تمثلت بهذا البيت وأبو بكر يقضي:


وأبيض يستسقى الغمام بوجهه     ثمال اليتامى عصمة للأرامل

فقال أبو بكر: (ذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم).

وأخرج عبد الله بن أحمد في «زوائد الزهد» عن عبادة بن قيس قال: لما حضرت أبا بكر الوفاة قال لعائشة :) اغسلي ثوبي هذين وكفنيني بهما، فإنما أبوك أحد رجلين: إما مكسو أحسن الكسوة، أو مسلوب أسوأ السلب (.

وأخرج ابن أبي الدنيا عن ابن أبي مليكة :) أن أبا بكر أوصى أن تغسله امرأته أسماء بنت عميس، ويعينها عبد الرحمن بن أبي بكر (.

وأخرج ابن سعد عن سعيد بن المسيب : ( أن عمر - رضي الله عنه - صلى على أبي بكر بين القبر والمنبر، وكبر عليه أربعا).

وأخرج عن عروة، والقاسم بن محمد : ( أن أبا بكر أوصى عائشة أن يدفن إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما توفي.. حفر له وجعل رأسه عند كتفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وألصق اللحد بقبر الرسول صلى الله عليه وسلم).

وأخرج عن ابن عمر قال: (نزل في حفرة أبي بكر: عمر وطلحة، وعثمان، وعبد الرحمن بن أبي بكر ).

وأخرج من طرق عدة: (أنه دفن ليلا).

وأخرج عن ابن المسيب: (أن أبا بكر لما مات.. ارتجت مكة، فقال [ ص: 174 ] أبو قحافة: ما هذا؟ قالوا: مات ابنك، قال: رزء جليل، من قام بالأمر بعده؟ قالوا: عمر، قال: صاحبه).

وأخرج عن مجاهد: (أن أبا قحافة رد ميراثه من أبي بكر على ولد أبي بكر، ولم يعش أبو قحافة بعد أبي بكر إلا ستة أشهر وأياما، ومات في المحرم، سنة أربع عشرة، وهو ابن سبع وتسعين سنة).

قال العلماء: لم يل الخلافة أحد في حياة أبيه إلا أبو بكر، ولم يرث خليفة أبوه إلا أبا بكر.

وأخرج الحاكم عن ابن عمر قال: (ولي أبو بكر سنتين وسبعة أشهر).

وفي «تاريخ ابن عساكر » بسنده عن الأصمعي قال: قال خفاف بن نندبة السلمي يبكي أبا بكر رضي الله تعالى عنه:


ليس لحي فاعلمنه بقاء     وكل دنيا أمرها للفناء
والملك في الأقوام مستودع     عارية والشرط فيه الأداء
والمرء يسعى وله راصد     تندبه العين ونار الصداء
يهرم أو يقتل أو قهره     يشكوه سقم ليس فيه شفاء
إن أبا بكر هو الغيث إذ     لم تزرع الجوزاء بقلا بماء
تالله لا يدرك أيامه     ذو مئزر ناش، ولا ذو رداء
من يسع كي يدرك أيامه     مجتهد الشد بأرض فضاء



التالي السابق


الخدمات العلمية