الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                              ذكر اختلاف أهل العلم في الأبوال والأرواث الطاهر منها والنجس

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر: دلت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن أبوال بني آدم نجسة، يجب غسلها من البدن، ومن الثوب الذي يصلي فيه، إلا ما روي عنه في بول الغلام الذي لم يطعم الطعام، وقد ذكرنا هذا الباب فيما مضى.

                                                                                                                                                                              واختلفوا في بول ما يؤكل لحمه وما لا يؤكل، فقالت طائفة: بول ما يؤكل لحمه طاهر، وليس كذلك عندها أبوال ما لا يؤكل لحمه، فممن قال: ما يؤكل لحمه فلا بأس ببوله عطاء، والنخعي، والثوري. ورخص في أبوال الإبل والغنم الزهري .

                                                                                                                                                                              وقال يحيى الأنصاري في الأبوال: لا يكره ذلك من الإبل، والبقر، والغنم، ورخص الشعبي في بول التيس، وقال الحسن، وقتادة فيمن وطئ على الروث الرطب: [ ص: 321 ] يمسح قدميه ويصلي، ورخص الحكم في أبوال الشياه، قال: لا يغسله.

                                                                                                                                                                              وروي عن أبي موسى أنه صلى على التراب والسرقين.

                                                                                                                                                                              773 - حدثنا علي بن عبد العزيز ، نا ابن الأصبهاني، نا شريك، عن الأعمش، عن مالك بن الحارث، عن أبيه، قال: رأيت أبا موسى يصلي في دار البريد على التراب والسرقين، قال: فقيل له: لو خرجت من هاهنا، قال: هاهنا، وثم سواء ".

                                                                                                                                                                              ورخص في ذرق الطير أبو جعفر، والحكم، وحماد، وقال حماد في خرء الدجاج: إذا يبس فافركه، وكان الحسن لا يرى على من صلى وفي ثوبه خرء الدجاج إعادة .

                                                                                                                                                                              وقالت طائفة: الأرواث والأبوال كلها نجسة، ما أكل لحمه أو لم يؤكل، وكذلك ذرق الطير كلها نجس، هذا قول الشافعي.

                                                                                                                                                                              وقد حكي عنه أنه استثنى من ذلك بول الغلام الذي لم يطعم، وأمر بالرش عليه، وكان الشافعي يقول: لا يجوز بيع العذرة، ولا الروث [ ص: 322 ] ، ولا البول، كان ذلك من الناس، أو من الدواب .

                                                                                                                                                                              وقال أبو ثور كقول الشافعي في الأبوال والأرواث: إنها كلها نجسة رطبا كان أو يابسا، وقال الحسن: البول كله يغسل، وكان يكره أبوال البهائم كلها، يقول: اغسل ما أصابك منها، وقال حماد في بول الشاة: اغسله.

                                                                                                                                                                              وفيه قول ثالث: قاله مالك، قال: لا يرى أهل العلم أبوال ما أكل لحمه، وشرب لبنه من الأنعام نجسا، وكذلك أبعارها، وهم يستحسنون مع ذلك غسلها، ولا يرون بالاستشفاء بشرب أبوالها بأسا، ويكرهون أبوال ما لا يؤكل لحمه من الدواب، وأرواثها الرطبة أن يعيد ما كان في الوقت، ويكرهون شرب أبوالها وألبانها هذه حكاية ابن وهب عنه. وحكى ابن القاسم أن مالكا كان لا يرى بأسا بأبوال ما أكل لحمه مما لا يأكل الجيف، وأرواثها إن وقع في الثوب، وقال في الطير التي تأكل الجيف والأذى: يعيد من كان في ثوبه منه شيء صلاته في الوقت، قال: فإذا ذهب الوقت فلا إعادة عليه .

                                                                                                                                                                              ووقف أحمد عن الجواب في أبوال ما يؤكل لحمه مرة، وقال مرة: ينزه، عن بول الدواب كلها أحب إلي، ولكن البغل والحمار أشد، وقال إسحاق كذلك.

                                                                                                                                                                              وقد اختلف قول أحمد في هذا الباب . [ ص: 323 ]

                                                                                                                                                                              وقالت طائفة: الأبوال كلها سوى بول بني آدم طاهر، لا يجب غسله ولا نضحه إلا أن يوجب ذلك مما يجب التسليم له، قال: وليس بين بول ما أكل لحمه، وما لا يؤكل لحمه فرق؛ لأن الفرائض لا تجب إلا بحجة.

                                                                                                                                                                              وقد ذكر مغيرة بن أبي معشر أنه قال: بال بغل قريب مني فتنحيت، فقال لي إبراهيم: ما عليك لو أصابك.

                                                                                                                                                                              وقد روينا عن عطاء، والزهري أنهما أمرا بالرش على بول الإبل.

                                                                                                                                                                              وقال النعمان في روث الفرس، وروث الحمار: والروث كله سواء إذا أصاب الثوب منه أكثر من الدرهم لم تجز الصلاة فيه، وكذلك إذا أصاب الخف والنعل .

                                                                                                                                                                              وقال يعقوب، ومحمد: يجزئه إلا أن يكون كثيرا فاحشا. وقال النعمان في بول الفرس: لا يفسد إلا أن يكون كثيرا فاحشا، وبول الحمار يفسد، إذا كان أكثر من الدرهم، وهو قول النعمان، ويعقوب، وقال محمد: لا يفسد بول الفرس وإن كان كثيرا فاحشا؛ لأنه بول ما يؤكل لحمه. وقال النعمان في أخثاء البقر، وخرء الدجاج مثل السرقين يفسد منه أكثر من قدر الدرهم، وكذلك قال يعقوب، ومحمد في خرء الدجاج خاصة، وقال محمد: الكثير الفاحش الربع فصاعدا . [ ص: 324 ]

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر: احتج من جعل الأبوال كلها نجسة بأن أبوال بني آدم لما كانت نجسة، فأبوال البهائم أولى بذلك؛ لأن مأكول الآدميين ومشروبهم يدخل حلالا ثم يتغير في الجوف حتى يخرج نجسا، فكان ما كان تعتلف البهائم وتأكل السباع أولى بهذا؛ لأنها لا توقى ما تأكل .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر: ويلزم من جعل أبوال البهائم قياسا على أبوال بني آدم، أن يجعل شعر بني آدم قياسا على أصواف الغنم وأوبار الإبل، وأشعار الأنعام هذا إذا جاز أن يجعل أحد الصنفين قياسا على الآخر، فإذا فرق مفرق في غير هذا الباب بين بني آدم والأنعام بفروق كثيرة، ومنع أن يجعل أحدهما قياسا على الآخر، وجب كذلك في هذا الباب أن لا يجعل أحد الصنفين قياسا على الآخر، والأخبار الثابتة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم دالة على طهارة أبوال الإبل، ولا فرق بين أبوال الإبل وبين أبوال البقر والغنم.

                                                                                                                                                                              774 - حدثنا علي، أنا حجاج، نا حماد، عن قتادة، وحميد وثابت، عن أنس: " أن أناسا من عرينة قدموا المدينة، فأرسلهم النبي صلى الله عليه وسلم في إبل الصدقة، وقال لهم: "اشربوا من ألبانها وأبوالها".

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر: وهذا يدل على طهارة أبوال الإبل، ولا فرق بين أبوالها وأبوال سائر الأنعام، مع أن الأشياء على الطهارة حتى تثبت نجاسة شيء منها بكتاب، أو سنة، أو إجماع.

                                                                                                                                                                              فإن قال قائل بأن ذلك للعرنيين خاصة، قيل له: لو جاز أن يقال في [ ص: 325 ] شيء من الأشياء خاصة بغير حجة، لجاز لكل من أراد فيما لا يوافق من السنن مذاهب أصحابه أن يقول: ذلك خاص، وظاهر خبر النبي عليه السلام في هذا الباب مستغنى به عن كل قول. واستعمال الخاصة والعامة أبوال الإبل في الأدوية، وبيع الناس ذلك في أسواقهم، وكذلك الأبعار تباع في الأسواق، ومرابض الغنم يصلى فيها، والسنن الثابتة، دليل على طهارة ذلك، ولو كان بيع ذلك محرما، لأنكر ذلك أهل العلم، وفي ترك أهل العلم إنكار بيع ذلك في القديم والحديث، واستعمال ذلك معتمدين فيها على السنة الثابتة، بيان لما ذكرناه.

                                                                                                                                                                              وقد يجب على من منع أن يجعل الأصول بعضها قياسا على بعض، أن يمنع أن يجعل ما قد ثبت له الطهارة بالسنة الثابتة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قياسا على بول بني آدم؛ لأن الذي أمر بغسل بول بني آدم هو الذي أباح شرب أبوال الإبل، وفي هذا غلط من غير وجه: أحدها: تحريم ما أباحته السنة بغير حجة، والثاني: دعوى الخصوص في شيء ليس مع مدعيه حجة بذلك، والثالث: تشبه أبوال بني آدم بالبهائم، وصاحب هذه المقالة يقول: لا يقاس أصل على أصل، ولو جاز القياس في هذا الباب، لكان أقرب إلى القياس أن يجعل بول ما يؤكل لحمه قياسا على أبوال الإبل، ويجعل بول ما لا يؤكل لحمه قياسا على بول بني آدم، فيكون ذلك أقرب إلى القياس من غيره [ ص: 326 ] [ ص: 327 ]

                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية