الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                              ذكر الأخبار التي خصت بالنهي عن أكل كل ذي ناب من السباع

                                                                                                                                                                              905 - حدثنا إسحاق، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي ثعلبة الخشني قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع" .

                                                                                                                                                                              906 - حدثنا علي بن عبد العزيز ، ثنا القعنبي، عن مالك، عن إسماعيل بن أبي حكيم، عن عبيدة بن سفيان الحضرمي، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أكل كل ذي ناب من السباع حرام" . [ ص: 440 ]

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر: قد ذكرنا ما حضرنا من اختلاف أهل العلم في الانتفاع بجلود السباع ميتة ومذبوحة، وكان الشافعي يقول: يتوضأ في جلود الميتة كلها إذا دبغت، وجلود ما لا يؤكل لحمه من السباع قياسا عليها، إلا جلد الكلب والخنزير، فإنه لا يطهر بالدباغ؛ لأن النجاسة فيهما، وهما حيان قائمة، وإنما يطهر بالدباغ ما لم يكن نجسا حيا .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر: ووافق أصحاب الرأي الشافعي في جلد الخنزير، فقالوا: لا بأس بالانتفاع بجلود السباع كلها بعد الدباغ ما خلا جلد الخنزير، فإنه لا يجوز الانتفاع به، واحتجوا - أو من احتج منهم - بخبر ابن وعلة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أيما إهاب دبغ فقد طهر، وجعل بعض من يقول بهذا القول ذلك قياسا على جلد الشاة الميتة التي رخص النبي صلى الله عليه وسلم في الانتفاع به بعد أن يدبغ.

                                                                                                                                                                              ومنعت طائفة من الانتفاع بجلود السباع قبل الدباغ وبعده مذبوحة وميتة، هذا قول الأوزاعي، وابن المبارك، وإسحاق، وأبي ثور، ويزيد بن هارون، وقد بلغنا عن مالك بن أنس أنه كان لا يرى الانتفاع بجلود السباع الميتة، وكره الصلاة فيها، وإن دبغت. وحكى معاوية بن عمرو عن الأوزاعي أنه قيل له في جلود السباع، قال: لا يباع ولا يأخذها أحد [ ص: 441 ] لنفسه. وكان ابن المبارك يكره الصلاة في جلود الثعالب، ويكره بيعها وشراءها والانتفاع بها .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر: وقد احتجت هذه الطائفة بحجج خمس: أحدها: أن الله عز وجل حرم الميتة في كتابه، فقال: ( حرمت عليكم الميتة والدم ) . وكان ذلك عاما واقعا على جميع الميتة، ليس لأحد أن يخص من ذلك شيئا إلا بخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم فجاء الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم بإباحة الانتفاع بجلود ما يؤكل لحمه من الميتة بعد الدباغ، فأبحنا ذلك، ولم نجد في جلود السباع خبرا يجب أن يستثنى به من جملة ما حرم الله من الميتة؛ فبقيت جلود السباع محرمة بالتحريم العام.

                                                                                                                                                                              وحجة ثانية: وهو أنه لا نعلم بين أهل العلم اختلافا في تحريم الانتفاع بجلود السباع قبل الدباغ وأنها نجسة .

                                                                                                                                                                              واختلفوا في الانتفاع بها بعد الدباغ، فلا يحل ما قد أجمعوا على تحريمه إلا بخبر ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم لا معارض له، أو إجماع من أهل العلم، فلما لم يكن في ذلك خبر موجود، ثبت تحريمه على الأصل الذي أجمعوا عليه قبل الدباغ، ولا يزيل إجماعهم إلا إجماع مثله.

                                                                                                                                                                              وحجة ثالثة: وهي أنهم لا يعلمون اختلافا بين أهل العلم في كراهية الانتفاع بجلد الخنزير، والخنزير سبع قال: فجعلنا سائر السباع قياسا عليه، إذ ليس فيه خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم يمنع من القياس عليه، بل موجود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى، عن جلود السباع [ ص: 442 ]

                                                                                                                                                                              وحجة رابعة: وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن كل ذي ناب من السباع، ثبتت الأخبار عنه بذلك، فذلك عام واقع على اللحم والجلد جميعا ليس لأحد أن يخص من ذلك شيئا إلا بخبر ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                              وحجة خامسة: وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن جلود السباع .

                                                                                                                                                                              فإن قال قائل: في بعض الأخبار أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع، فخص الأكل. قيل له: فنحن ننهى عن أكلها، وننهى عنها جملة كما نهى النبي صلى الله عليه وسلم، وننهى عن الانتفاع بجلودها كما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، لتستعمل الأخبار كلها، كالأخبار التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم ففي بعضها أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "لا تسافر المرأة ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم"، وفي بعضها أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " لا تسافر المرأة يوما إلا مع ذي محرم، فالقول بها كلها يجب، كذلك القول بالأخبار التي ذكرناها في النهي عن كل ذي ناب من السباع، وعن أكل كل ذي ناب من السباع، وعن النهي عن جلود السباع يجب، وليس من ذلك شيء يخالف شيئا.

                                                                                                                                                                              907 - حدثنا محمد بن عبد الوهاب، أنا يعلى بن عبيد، ثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسافر المرأة سفرا ثلاثة أيام فصاعدا إلا ومعها أبوها، أو أخوها، أو زوجها، أو ذو محرم" .

                                                                                                                                                                              908 - حدثنا يحيى، ثنا مسدد، ثنا يحيى، عن محمد بن أبي ذئب، حدثني سعيد بن أبي سعيد، عن أبيه، عن أبي هريرة ، قال: قال رسول الله [ ص: 443 ] صلى الله عليه وسلم: "ولا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم إلا ومعها ذو محرم" .

                                                                                                                                                                              909 - حدثنا، يحيى، ثنا مسدد، ثنا سفيان، عن عمرو، سمع أبا معبد يحدث، عن ابن عباس ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسافرن امرأة سفرا إلا مع ذي محرم" .

                                                                                                                                                                              910 - وحدثنا يحيى، ثنا مسدد، ثنا يحيى، عن عبيد الله، أخبرني نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسافر المرأة ثلاثا إلا ومعها ذو محرم".

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر: فمن قال بالأخبار كلها إذا وجد إلى القول بها سبيلا، قال: بهذه الأخبار وبالأخبار التي ذكرناها فيما مضى في النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع والنهي عن جلود السباع، والنهي عن كل ذي ناب من السباع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد عم بالنهي وليس لأحد أن يخص مما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم شيئا، فإذا خص النبي صلى الله عليه وسلم من الجملة شيئا وجب أن يستثنى ما خصته السنة، ويبقى كل مختلف فيه داخلا في النهي؛ لأن المستثنى غير جائز القياس عليه. وهذا على مذهب أصحابنا: الشافعي وغيره من أهل الحديث في جمل ما قالوه. وقالت هذه الطائفة: فإن احتج محتج بخبر ابن وعلة، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا دبغ [ ص: 444 ] الإهاب فقد طهر"، قيل له: لا يجوز أن يدفع بهذا الخبر أخبار ذوات عدد، وذلك لوجوه:

                                                                                                                                                                              أحدها: أن ابن وعلة الذي روى هذا الحديث لا نعلمه يروى عنه أكثر من حديثين، أحدهما هذا الحديث، والآخر: حديثه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم في تحريم الخمر، وقد خالفه في رواية هذا الحديث حفاظ أصحاب ابن عباس ، عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وعطاء، وعكرمة فخالفوا ابن وعلة على سبيل ما ذكرناه عنهم، فزعم ابن وعلة عن ابن عباس أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول، وجعل أولئك الخبر مخصوصا في جلد شاة ميتة، وجعله ابن وعلة عاما، ففي مخالفة هؤلاء الحفاظ إياه في إسناد هذا الحديث ومتنه ما يبين غلطه، ودل على سوء حفظه، ولو لم يستدل على غلط المحدث بمخالفة الحفاظ إياه ما عرف غلطه في حديث أبدا، ولو كان خبره يثبت، ما جاز أن يدفع به نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن جلود السباع لعلتين:

                                                                                                                                                                              إحداهما: أن خبره ليس بمنصوص في جلود السباع، إنما هو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دبغ الإهاب فقد طهر" .

                                                                                                                                                                              وقد اختلف الناس هل يجوز أن يسمى جلود السباع أهبا، فحكى النضر بن شميل أن العرب لا تسمي جلود السباع أهبا، وأن الأهب عندها هي جلود الأنعام خاصة. فإن اعترض معترض، ليس من أهل اللغة، يحتج ببيت شعر قاله عنترة العبسي، فرواه على غير ما يجب، وهو قوله: [ ص: 445 ]

                                                                                                                                                                              فشككت بالرمح الطويل إهابه ليس الكريم على القنا بمحرم

                                                                                                                                                                              فقد أنكر أهل العربية هذه الرواية، وقالوا: المعروف فشككت بالرمح الطويل ثيابه، فإذا بطلت هذه الرواية لم يجز أن يبطل بغلط من غلط فيما ذكرناه أن أسماء الجلود أهبا، وإذا لم يجز ذلك بطل أن يكون لمدعي في خبر ابن وعلة حجة ثابتة، ولو سمحنا بأن يثبت خبر ابن وعلة وسمحنا بأن يوقع اسم الإهاب على الجلد، لم يجز أن يدفع بخبر ابن وعلة الأخبار التي ذكرناها، ولو وجب أن يكون إن أراد بقوله: إذا دبغ الإهاب فقد طهر، أي أهب مما تؤكل لحومها، ويكون نهيه عن جلود السباع منصوصا مفسرا في جلود السباع، ولا يكون قد دفع بالخبر العام المبهم الخبر المنصوص المفسر.

                                                                                                                                                                              وقد أجمع عوام من احتج بخبر ابن وعلة على المنع من الانتفاع بجلد الخنزير وإن دبغ.

                                                                                                                                                                              وقال بعضهم كذلك في جلد الكلب، وإذا جاز أن يستثنى برأيهم من جملة خبر ابن وعلة كان الاستثناء بالأخبار الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في نهيه عن جلود السباع أولى وإذا ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "إذا دبغ الإهاب فقد طهر"، وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن جلود السباع [ ص: 446 ] وجب أن يمضى كل خبر فيما جاء، ووجب استعمال الخبرين جميعا، خبر ابن وعلة في الانتفاع بجلد ما يؤكل لحمه، والأخبار التي ذكرناها في النهي عن جلود السباع.

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر: من أصول أصحابنا أن كل خبرين جاءا وأمكن استعمالهما، أن لا يعطل أحدهما، وأن يستعملا جميعا ما وجد السبيل إلى استعمالهما، فلما هذا مثاله في مذهبهم نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن استقبال القبلة واستدبارها، قالوا: ذلك في الصحاري؛ لأن ابن عمر قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم على لبنتين مستقبل بيت المقدس، واستعملنا كل خبر في موضعه، فاستعملنا خبر ابن عمر في المنازل، وخبر أبي أيوب في الصحاري، ولو لم نعطل واحدا من الخبرين لإمكان أن نوجه لكل واحد منهما وجها غير وجه الآخر، وفعلوا مثل هذا في أبواب صلاة الخوف، واستعملوا الأخبار فيها ووجهوا لكل حديث منها وجها على سبيل ما قد ذكرناه في كتاب صلاة الخوف، فمن كان هذا مذهبه وجب عليه أن يقول بالخبرين جميعا، ولا أحسب الشافعي لو دفع إليه خبر أبي المليح عن أبيه لقال به ولم يخالفه، كما قال بالأخبار التي ذكرناها في مواضعها.

                                                                                                                                                                              واحتج بعض من يخالف بعض ما قلناه بخبر عائشة، وبخبر ابن المحبق، وقد ذكرناهما في أول هذا الكتاب .

                                                                                                                                                                              فأما خبر عائشة فإنما رواه مالك، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن محمد بن عبد الرحمن، عن أمه، عن عائشة، وأم محمد لا نعلم أحدا روى عنها غير ابنها، ويزيد بن قسيط طعن فيه الذي روى عنه، قال مالك: [ ص: 447 ] صاحبنا - يعني يزيد بن عبد الله بن قسيط - ليس بذاك، وجون بن قتادة لا نعلم أحدا روى عنه غير الحسن، وحديث شريك، عن إبراهيم عن الأسود، عن عائشة، وقد روى جرير، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة: أنها سئلت عن المساتق؟ فقالت: لعل دباغها أن [ ص: 448 ] يكون ذكاتها، وهذا أجود من إسناد حديث شريك. وقد روينا عن عائشة أنها كرهت جلود الميتة بعد الدباغ، ولو كان عندها عن النبي صلى الله عليه وسلم خبر ما خالفته.

                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية