الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                              ذكر الأخبار الدالة على طهارة شعور بني آدم

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر: ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ناول الحلاق شقه الأيمن فحلقه، ثم ناوله شقه الأيسر فحلقه، ثم ناوله أبا طلحة فقسمه بين الناس.

                                                                                                                                                                              856 - أخبرنا حاتم، أن الحميدي حدثهم، قال: نا سفيان، قال: ثنا هشام بن حسان القردوسي، عن محمد بن سيرين، عن أنس بن مالك: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رمى جمرة العقبة وذبح نسكه، ناول الحلاق شقه الأيمن فحلقه، ثم ناول الحلاق شقه الأيسر فحلقه، ثم ناوله أبا طلحة فقسمه بين الناس" .

                                                                                                                                                                              857 - حدثنا محمد بن عبد الوهاب، أبنا سليمان بن حرب، ثنا سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس، قال: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم والحلاق يحلقه، وقد أطاف به أصحابه لا يريدون أن يقع شعره إلا في يد رجل" .

                                                                                                                                                                              858 - حدثنا عبد الله بن أحمد، ثنا أبو سلمة، ثنا أبان، نا يحيى، أن أبا سلمة حدثه، أن محمد بن عبد الله بن زيد حدثه: "أن أباه شهد النبي صلى الله عليه وسلم عند النحر هو ورجل من الأنصار، فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحايا فلم يصبه شيء ولا صاحبه، فحلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثوبه وأعطاه إياه فقسم منه على [ ص: 408 ] رجال، وقلم أظفاره، وأعطى صاحبه، قال: فإنه مخضوب عندنا بالحناء والكتم ".

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر: قد اختلف أهل العلم في شعور بني آدم، فكان عطاء بن أبي رباح لا يرى بأسا أن ينتفع بشعور الناس التي تحلق بمنى. وقال بعضهم: كل ما كان طاهرا في حال حياته يجوز ملكه والانتفاع به، وإن كان ما لا يؤكل لحمه فلا بأس بالانتفاع بشعره في الحياة وبعد الممات؛ لأن الشعر لا يموت، وذلك كالإنسان وهو طاهر، وشعره طاهر، فإذا جز لم يتغير عن حاله؛ لأن الشعر لا ذكاة عليه، ولا حياة فيه، وهو بعد الجز وقبله، وبعد موت الإنسان، وقبله على معنى واحد لا يتغير، وكذلك الحمار الأهلي، والسنور، وكل ما ملكه، وكان طاهرا في حال حياته مما لا يؤكل لحمه، وكل ما لم يجز ملكه، والانتفاع به في حال حياته، فكذلك شعره في حياته وبعد موته، لا يجوز الانتفاع به، وذلك كالخنزير .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر: وأنا ذاكر اختلاف أهل العلم في الخنزير فيما بعد إن شاء الله تعالى، وقال آخر: مما يتعارفه الناس فيما بينهم أن أحدهم يصلي وعلى ثوبه بعض الشعر من رأسه ولحيته، وفيما يجدونه في أطعمتهم وأشربتهم من الشعر لا يتعافون ذلك بيان على أن الشعر طاهر، وليس مع من ادعى أن شعور بني آدم نجسة حجة تلزم . [ ص: 409 ]

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر: وفي قسم من قسم شعر النبي صلى الله عليه وسلم بين الناس، بيان على طهارة الشعر، وإن قال قائل: شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد سمعت بعض من يقصر فهمه يقوله: وقال: لا يجوز أن تجعل شعور سائر الناس كشعره نبين له ليس يدخل على من قال: إن الشعر طاهر شيئا إلا دخل على من قال: إن المني طاهر مثله؛ لأنه يحتج في طهارته بفرك عائشة المني من ثوب النبي صلى الله عليه وسلم، ولن يدخل في أحدهما شيء إلا دخل في الآخر مثله، والتحكم لا يجوز، وعلى أن اختلاف القول لا يفارق بعض من خالف ما قلناه؛ لأنه قال: من مس عضوا من أعضاء زوجته انتقضت طهارته، وإن مس شعرها لم تنتقض طهارته، وقوله لها: شعرك طالق، مثل قوله لها: رجلك طالق، فقد جعل الشعر كعضو من أعضائها في باب الطهارة، قال: شعور بني آدم، وما لا يجوز أكل لحمه نجس؛ لأن ما قطع من الحي هو ميت، فليقل مثل ذلك في شعور ما لا يؤكل لحمه، وليس بينهما، قال الشافعي: ولا يصلي الرجل ولا المرأة واصلين شعر إنسان بشعورهما، ولا شعورهما بشيء لا يؤكل لحمه، ولا بشعر شيء يؤكل لحمه إلا أن يؤخذ منه شعره وهو حي، فيكون في معنى الذكي، كما يكون اللبن في معنى الذكي، أو يؤخذ بعدما يذكى ما يؤكل لحمه فتقع الزكاة على كل حي منه وميت، وإن سقط من شعورهما شيء فوصلاه بشعر إنسان أو شعورهما لم يصليا فيه، فإن فعلا أعادا إن شاء الله. وقال إسحاق بن راهويه مثل معنى قول الشافعي، وإن اختلفت ألفاظهما [ ص: 410 ]

                                                                                                                                                                              واحتج الشافعي بخبر أسماء:

                                                                                                                                                                              859 - أخبرنا الربيع، أبنا الشافعي، ثنا ابن عيينة، عن هشام بن عروة، عن فاطمة، عن أسماء قالت: " أتت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن ابنة لي أصابتها الحصبة فتمزق شعرها أفأصل فيه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لعنت الواصلة والموصولة".

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر: وقد أجاب عن هذا بعض أصحابنا ممن يرى أن الشعر طاهر، بأن الخبر الذي فيه ذكر لعن الواصلة والموصولة لم يخص شعر ميت دون شعر حي، ولا شعر حي دون شعر ميت، ولا شعر ما يؤكل لحمه دون ما لا يؤكل لحمه، بل أجابها النبي صلى الله عليه وسلم جوابا عاما مطلقا لم يخص شيئا دون شيء، فقال: "لعن الله الواصلة والمستوصلة"، فذلك عام مطلق على ما جاء به الخبر، لا يحل لامرأة أن تصل شعرها بشعر شيء مما يؤكل لحمه، ولا مما لا يؤكل حيا ولا ميتا على ظاهر الخبر، ليس لأحد أن يخص من ذلك شيئا دون شيء إلا بخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وليس ذلك لنجاسة في الشعر الموصول، ولكنه تعبد تعبد به النساء، وذلك كلعنه النامصة والمتنمصة، والواشمة والمستوشمة، والمتفلجة للحسن.

                                                                                                                                                                              860 - حدثنا يحيى بن محمد، ثنا مسدد، ثنا يحيى، عن عبيد الله بن عمر، أخبرني نافع، عن عبد الله، قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواشمة والمستوشمة، والواصلة والمستوصلة" . [ ص: 411 ]

                                                                                                                                                                              861 - حدثنا علي بن الحسن، ثنا علي بن قادم، ثنا سفيان بن سعيد الثوري، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، قال: " لعن الله الواشمات والموشومات، والمتنمصات والمتفلجات، المغيرات خلق الله، فقالت امرأة من بني أسد، يقال لها أم يعقوب: إنك لعنت كيت، وكيت، قال: وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله عز وجل قالت: قد قرأت ما بين اللوحين فما وجدته، فقال لها: أقرأت ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى عنه. فقالت: إن أهلك أظنه تفعله. قال: فاذهبي وانظري، فذهبت فلم تر شيئا من حاجتها، فقال عبد الله: لو كان كذلك ما جامعتنا " .

                                                                                                                                                                              862 - حدثنا إسحاق، عن عبد الرزاق، عن ابن جريج، أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: "زجر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تصل المرأة في شعرها شيئا" قال أبو عبيد: قال الفراء: النامصة التي تنتف الشعر من الوجه، والمتنمصة التي تفعل ذلك بها.

                                                                                                                                                                              وقال غير الفراء: الواشرة التي تشر أسنانها، وذلك أنها تفلجها وتحددها حتى يكون لها أشر، والأشر: تحدد ورقة في أطراف الأسنان، وإنما يكون في أسنان الأحداث تفعله الكبيرة لتتشبه بأولئك، وأما الواصلة والمستوصلة، فإنه في الشعر، [ ص: 412 ] وذلك ؛ لأنها تصله بشعر آخر، وأما الواشمة والمستوشمة، فإن الوشم في اليد، كانت المرأة تغرز ظهر كفها أو معصمها بإبرة أو مسلة حتى تؤثر فيه ثم تحشوه بالكحل، فيخضر يفعل ذلك بدارات .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر: فاللازم لمن يقول بظاهر الأخبار أن يكون النهي عن ذلك على الظاهر، وكل امرأة وصلت شعرها بشعور بني آدم أو شعور البهائم، وهي عالمة بنهي النبي صلى الله عليه وسلم أن المعصية تلحقها، إلا أن تدل حجة من كتاب أو سنة على إباحة بعض ذلك، فيستثنى من ذلك ما دلت عليه الحجة، ولا نعلم خبرا يوجب أن يستثنى به من جملة ما جاء به النهي عن النبي صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                                                                              وكان النعمان يقول: لا خير في بيع شعر بني آدم، ولا يجوز بيعه ولا ينتفع به، وكذلك قال يعقوب، قال: ولا بأس أن تصل المرأة شعرها بالصوف، والله أعلم.

                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية