الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 173 ] 886 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله : لا يدخل النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان .

5551 - حدثنا يزيد بن سنان ، حدثنا حرمي بن حفص ، حدثنا عبد العزيز بن مسلم القسملي ، حدثنا الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر ، ولا يدخل النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان [ ص: 174 ] .

5552 - وحدثنا علي بن عبد الرحمن بن محمد بن المغيرة ، والحسين بن الحكم الكوفي الحبري ، ومحمد بن الورد بن زنجويه البغدادي ، قالوا : حدثنا عفان بن مسلم ، حدثنا عبد العزيز بن مسلم القسملي ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

5553 - وحدثنا إسماعيل بن حمدويه البيكندي ، حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس ، ويحيى بن عبد الحميد الحماني ، قالا : حدثنا أبو [ ص: 175 ] بكر بن عياش ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله .

5554 - وحدثنا الحسين بن نصر ، حدثنا يوسف بن عدي ، حدثنا علي بن مسهر ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مثله .

فقال قائل : في هذا الحديث أنه لا يدخل النار أحد في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان ، وأنتم تروون عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه يخرج من النار من قال : لا إله إلا الله ، ومن كان في قلبه من الخير ما يزن ذرة ، وذكر في ذلك : [ ص: 176 ]

5555 - ما قد حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، حدثنا عفان بن مسلم ، حدثنا عبد الواحد بن زياد ، حدثنا سليمان الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، وعبيدة ، عن عبد الله يرفع الحديث ، قال : إني لأعلم آخر أهل النار خروجا من النار ، وآخر أهل الجنة دخولا إلى الجنة ، رجل يخرج من النار حبوا فيقال له : ادخل الجنة ، فيدخل وقد أخذ الناس مساكنهم ، فيخرج فيقول : أي رب لم أجد فيها مسكنا ، فيقول الله عز وجل له : ادخل فإنا سنجعل لك فيها مسكنا ، فيقول : أي رب ، لم أجد فيها مسكنا فيدخل ثم يخرج فيقول : رب لم أجد فيها مسكنا ، فيقول الله عز وجل له : فإن لك مثل الدنيا وعشرة أضعافها ، أو قال : هل ترضى أن نجعل لك مثل الدنيا وعشرة أضعافها ، فيقول : أي رب أتسخر بي وأنت الملك ؟ قال : فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه عند ذلك .

[ ص: 177 ] وفي هذا الباب عن عبد الله بن مسعود آثار أخر ، أخرنا ذكرها لباب سوى هذا الباب ، إذ كان ما ذكرنا منها في هذا الباب جازيا عن بقيتها .

5556 - وما قد حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، حدثنا بشر بن عمر الزهراني ، حدثنا شعبة ، أخبرني قتادة ، قال : سمعت أنسا ، يقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : يخرج من النار من قال : لا إله إلا الله ، وكان في قلبه من الخير ما يزن برة ، ويخرج من النار من قال : لا إله إلا الله ، وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرة ، ولكل نبي دعوة دعا بها لأمته ، وأنا اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة .

[ ص: 178 ] [ ص: 179 ] قال هذا القائل : وهذا أيضا تضاد شديد ; لأن ما في الحديث الأول ، وما في هذا الحديث يتنافيان بما لا خفاء عند سامعهما ، إذ كان ما في أحدهما ينفي أن يدخل النار من في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان ، وفي الآخر منهما : أنه يخرج من النار من كان في قلبه ما يزن ذرة من الخير ، ولا يخرج منها إلا من قد أدخلها .

فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله وعونه : أنه لا تضاد في شيء من هذين الحديثين ، إذ كان كل واحد منهما مرادا به غير المراد بالآخر منهما ، وإن كان اللسان الذي خوطب به لسانا عربيا خاطب به قوما عربا نزل القرآن بلغتهم ، ومعهم الفهم لما يخاطبون به ، ويزيدهم مخاطبهم في خطابه إياهم ، فكان وجه ما في الحديث الأول هو الدخول الذي معه التخليد في النار ، وما في الحديث الثاني على الدخول الذي لا تخليد معه في النار . ،

والدليل على ذلك : أن يحيى بن عبد الرحمن بن عبد الصمد بن شعيب بن إسحاق الدمشقي ، حدثنا قال : حدثنا أبي ، حدثنا جدي ، قال : حدثنا أبو حنيفة ، عن سلمة بن كهيل ، عن أبي الزعراء ، عن ابن مسعود ، قال : يعذب الله عز وجل قوما من أهل الإيمان ، ثم يخرجهم بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم حتى لا يبقى في النار إلا من ذكرهم الله عز وجل : ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين فما تنفعهم شفاعة الشافعين .

[ ص: 180 ]

وإن علي بن الحسين بن حرب قد حدثنا ، قال : حدثنا الحسن بن أبي الربيع ، أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا سفيان ، عن سلمة بن كهيل ، عن أبي الزعراء قال : كنا عند عبد الله بن مسعود فذكر عنده الدجال ، فذكر حديثا طويلا قال في آخره : ثم يأذن الله عز وجل في الشفاعة ، فيكون أول شافع يوم القيامة روح القدس جبريل ، ثم إبراهيم خليل الله ، ثم موسى ، وعيسى لا أدري أيهما قال ، ثم يكون نبيكم رابعا لا يدفع فيما يشفع فيه ، وهو المقام المحمود الذي ذكر الله عز وجل ، قال : عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ، فليست نفس إلا وهي تنظر إلى بيت في الجنة وبيت في النار ، وهو يوم الحسرة . قال : فينظر أهل النار إلى البيت الذي في الجنة ، فيقال : لو [ ص: 181 ] علمتم ، وينظر أهل الجنة إلى البيت الذي في النار ، فيقال : لولا أن من الله عليكم . قال : ثم تشفع الملائكة والنبيون والشهداء والصالحون والمؤمنون فيشفعهم ، قال : ثم يقول الله تبارك وتعالى : أنا الرحمن ، أنا أرحم الراحمين ، فيخرج من النار أكثر مما أخرج جميع الخلق برحمته ، قال : حتى ما يترك أحدا فيه خير ، قال : ثم قرأ عبد الله : ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين إلى قوله : وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين ثم عقد بيده أربعا ، فقال : هل ترون في هؤلاء خيرا ؟ ألا لا يترك أحد فيه خير ، فإذا أراد الله عز وجل أن لا يخرج منها أحدا غير وجوههم وألوانهم ، فيجيء الرجل من المؤمنين ، فيقول : يا رب ، فيقول : من عرف أحدا فليخرجه ، فيجيء الرجل رجلا يعرفه فيقول : ما أعرفك ، فيقول : أنا فلان أنا فلان ، فيقول : ما أعرفك ، فيقول عند ذلك أهل النار : ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون . فيقول عند ذلك : اخسؤوا فيها ولا تكلمون ، قال : فتنطبق عليهم ، فلا يخرج منها أحد .

وإني سمعت فهد بن سليمان ، يقول : سمعت أبا نعيم ، يقول : كتب إلي الفريابي : إنك كنت استمليت لنا على سفيان حديث أبي [ ص: 182 ] الزعراء - يعني هذا الحديث - ، قال أبو نعيم : وما أعرفه - يعني الفريابي - .

ففي حديث أبي الزعراء هذا تحقيق ما قد ذكرنا في المرادين بما في الحديث الأول مما ذكرناه في هذا الباب ، وفي حديث أبي الزعراء هذا ما يدل على المرادين في الحديث الأول ، وفي الحديث الثاني .

فقال هذا القائل : أفيجوز أن يقال : لا يدخل النار من يدخل ؟

فكان جوابنا له في ذلك : أنه قد مضى منا في هذا الباب وصفنا اللسان الذي نزل به القرآن ، وعلم المخاطب بما يريد ، وعلم المخاطبون بذلك منه .

وقد وجدنا الله عز وجل ذكر مثل ذلك في كتابه بقوله عز وجل : إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة .

فلم يكن ذلك على كل من أشرك بالله عز وجل ، وإنما كان على من أشرك به ، فبقي على شركه به حتى خرج من الدنيا ، ولم يكن على من أشرك به ثم تاب من شركه حتى خرج من الدنيا وهو مؤمن به ، لما قد بين من ذلك في قوله عز وجل : والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما .

فعقلنا بذلك أن أهل الوعيد بما في الآية الأولى هم الذين لا تكون [ ص: 183 ] منهم التوبة ، والنزوع عن الشرك به عز وجل حتى يخرجوا من الدنيا ، وأن من تاب من شركه ، وآمن به وعمل عملا صالحا ليس بداخل في الوعيد الذي في الآية الأولى ، وإذا كان كذلك فيما ذكرنا كان مثله ما في الحديثين اللذين ذكرناهما في هذا الباب عن ابن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، الأول منهما على نفي دخول معه التخليد ، وإثبات التخليد لمن سواهم ، فبان بحمد الله أنه لا تضاد في شيء مما توهم هذا الجاهل في آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن الله تعالى قد تولاه فيها بما يمنع أن يكون منه فيها ما توهمه هو فيها ، والله الموفق .

التالي السابق


الخدمات العلمية