الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قول طائفة ثانية في مغايرة الإيمان

* قال أبو عبد الله : وقالت طائفة أخرى أيضا من أصحاب الحديث بمثل مقالة هؤلاء ، إلا أنهم سموه مسلما لخروجه من ملل الكفر ، ولإقراره بالله ، وبما قال ، ولم يسموه مؤمنا ، وزعموا أنه مع تسميتهم إياه بالإسلام كافر لا كافر بالله ، ولكن كافر من طريق العمل ، وقالوا : كفر لا ينقله عن الملة ، وقالوا : محال أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " ، والكفر ضد الإيمان ، فيزيل عنه اسم الإيمان إلا واسم الكفر لازم له ، لأن الكفر ضد الإيمان إلا أن الكفر كفران : كفر هو جحد بالله ، وبما قال ، فذلك [ ص: 518 ] ضده الإقرار بالله ، والتصديق به ، وبما قال ، وكفر هو عمل ضد الإيمان الذي هو عمل ، ألا ترى ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه " قالوا : فإذا لم يؤمن ، فقد كفر ، ولا يجوز غير ذلك إلا أنه كفر من جهة العمل ، إذ لم يؤمن من جهة العمل ، لأنه لا يضيع المفترض عليه ، ويركب الكبائر إلا من خوفه ، وإنما يقل خوفه من قلة تعظيمه لله ، ووعيده ، فقد ترك من الإيمان التعظيم الذي صدر عنه الخوف ، والورع ، عن الخوف ، فأقسم النبي صلى الله عليه وسلم أنه : " لا يؤمن إذا لم يأمن جاره بوائقه " .

ثم قد روى جماعة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " قتال المسلم كفر " ، وأنه قال : " إذا قال المسلم لأخيه يا كافر ، ولم يكن كذلك ، فقد باء بالكفر ، فقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم بقتاله أخاه كافرا ، وبقوله له : يا كافر ؛ كافرا ، وهذه الكلمة دون الزنا ، والسرقة ، وشرب الخمر .

قالوا : وأما قول من احتج علينا ، فزعم أنا إذا سميناه كافرا لزمنا أن نحكم عليه بحكم الكافرين بالله ، فنستتيبه ، ونبطل الحدود عنه ، لأنه إذا كفر ، فقد زالت عنه أحكام المؤمنين ، وحدودهم ، وفي ذلك إسقاط الحدود ، وأحكام المؤمنين عن كل [ ص: 519 ] من أتى كبيرة ، فإنا لم نذهب في ذلك إلى حيث ذهبوا ، ولكنا نقول : للإيمان أصل ، وفرع ، وضد الإيمان الكفر في كل معنى ، فأصل الإيمان : الإقرار ، والتصديق ، وفرعه إكمال العمل بالقلب ، والبدن ، فضد الإقرار والتصديق الذي هو أصل الإيمان : الكفر بالله ، وبما قال ، وترك التصديق به ، وله .

وضد الإيمان الذي هو عمل ، وليس هو إقرار ، كفر ، ليس بكفر بالله ينقل عن الملة ، ولكن كفر يضيع العمل كما كان العمل إيمانا ، وليس هو الإيمان الذي هو إقرار بالله ، فكما كان من ترك الإيمان الذي هو إقرار بالله كافرا يستتاب ، ومن ترك الإيمان الذي هو عمل مثل الزكاة ، والحج ، والصوم ، أو ترك الورع عن شرب الخمر ، والزنا ، فقد زال عنه بعض الإيمان ، ولا يجب أن يستتاب عندنا ، ولا عند من خالفنا من أهل السنة ، وأهل البدع ممن قال : إن الإيمان تصديق وعمل إلا الخوارج وحدها ، فكذلك لا يجب بقولنا : كافر من جهة تضييع العمل أن يستتاب ، ولا يزول عنه الحدود ، وكما لم يكن بزوال الإيمان الذي هو عمل استتابته ، ولا إزالة الحدود عنه ، إذ لم يزل أصل الإيمان عنه ، فكذلك لا يجب علينا استتابته ، وإزالة الحدود ، والأحكام عنه بإثباتنا له اسم الكفر من قبل العمل ، إذ لم يأت بأصل الكفر الذي هو جحد بالله ، أو بما قال . [ ص: 520 ]

قالوا : ولما كان العلم بالله إيمانا ، والجهل به كفرا ، وكان العمل بالفرائض إيمانا ، والجهل بها قبل نزولها ليس بكفر ، وبعد نزولها من لم يعملها ليس بكفر ، لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقروا بالله في أول ما بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم إليهم ، ولم يعملوا الفرائض التي افترضت عليهم بعد ذلك ، فلم يكن جهلهم ذلك كفرا ، ثم أنزل الله عليهم هذه الفرائض ، فكان إقرارهم بها ، والقيام بها إيمانا ، وإنما يكفر من جحدها لتكذيبه خبر الله ، ولو لم يأت خبر من الله ، ما كان بجهلها كافرا ، وبعد مجيء الخبر من لم يسمع بالخبر من المسلمين ، لم يكن بجهلها كافرا ، والجهل بالله في كل حال كفر قبل الخبر ، وبعد الخبر .

قالوا : فمن ثم قلنا : إن ترك التصديق بالله كفر به ، وإن ترك الفرائض مع تصديق الله أنه أوجبها ، كفر ليس بكفر بالله ، إنما هو كفر من جهة ترك الحق ، كما يقول القائل : كفرتني حقي ، ونعمتي ، يريد ضيعت حقي ، وضيعت شكر نعمتي .

قالوا : ولنا في هذا قدوة بمن روي عنهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والتابعين ، إذ جعلوا للكفر فروعا ، دون أصله ، لا تنقل صاحبه عن ملة الإسلام ، كما ثبتوا للإيمان من جهة العمل فرعا للأصل ، لا ينقل تركه عن ملة الإسلام ، من ذلك قول ابن عباس في قوله : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) . [ ص: 521 ]

569 - حدثنا يحيى بن يحيى ، ثنا سفيان بن عيينة ، عن هشام يعني ابن حجير ، عن طاوس ، عن ابن عباس : " ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) ليس بالكفر الذي يذهبون إليه " .

التالي السابق


الخدمات العلمية