الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال أبو عبد الله : ويقال لهم : خبرونا عمن اعتقد أن لله ولدا ، ثم عبر بلسان عما في قلبه ، هل العقد منه ، كفر منه ؟ !

فإن قالوا : نعم ، قيل لهم : فهل قوله : لله ولد ، أو شريك ، أو ليس بإله ، إذا قاله مقرا بلسانه ، عما في قلبه ، هل يكون العبارة منه بذلك كفرا ؟

فإن قالوا : لا ، قيل لهم : فكذلك إقراره بلا إله إلا الله ، يكون إيمانا .

فإن قالوا : إن إقراره الأول إيمان ، وتكراره ليس بإيمان . [ ص: 795 ]



قيل لهم : وكذلك الكفر .

فإن قالوا : نعم ، قيل لهم : عبارة كعبارة أولها المبتدأ بها كفر ، والثاني : لا كفر ، وهذا التناقض .

فإن قالوا : إن جميع ذلك إيمان ، لأنه من جنس الإقرار ، قيل لهم : فقد ازداد العبد إيمانا ، فإذا أمسك عن التكرار ، وكرر غيره ، كان هذا المكرر أكثر إيمانا من الذي لم يكرره ، وقد دخلتم في أعظم مما عبتم على مخالفيكم ، إذ زعموا أن الفرض من الإيمان ، وجعلتم أنتم النافلة من الإيمان ، فقد ثبتم التطوع إيمانا ، فيجب أن يكون في قوله : تركه كفر ، إذ كان ضده إيمانا .

فإن قالوا : إن تكراره في الفرائض : لا إله إلا الله إيمان ، ولا يكون التكرار في التطوع إيمانا .

قيل لهم : وإذا جاء بفريضة كالصلاة ، فيها التشهد ، والذكر ، حمله على ذلك خوف الله ، وطلب رضاه ، ثم ضيعها من الغد ، أيضيعها ، وهو على خوفه الأول وخضوعه لله بأداء الفرائض ؟

فإن قالوا : لا ، قيل لهم : فهل نقص من إيمانه ، إذ زال خوفه الأول ، ورغبته التي هاجته على الصلاة ؟

فإن قالوا : ليس تكراره من إيمانه في فرض ، ولا غيره . [ ص: 796 ]

قيل لهم : فكذلك ليس تكرار الكافر الجحد بلسانه ، وإضافته إلى الله الولد ، والشريك من كفره .

فإن قالوا : ليس هو من كفره ، قيل لهم : فما جعل أول الجحد بلسانه كفرا ، ولم يجعل الجحد الثاني بلسانه كفرا ، وهما واحد في معناهما ، لا يختلفان ، والنهي عنهما ثابت ، وإنما هما عبارة عن الجحد ، فلئن كان كلاهما جحدا ، واحدهما كفر ، والآخر ليس بكفر ، ليجوز أن يكونا كلاهما كفرا ، واحدهما جحد ، والآخر ليس بجحد ، إذ لا معنى للكفر إلا الجحد ، وهل يختلف الناس في اللغة ، أن رجلا لو جحد رجلا حقه ، ثم عاد إليه ، فسأله ، فجحده أن يقال : كلما سأله حقه جحده ، وكذلك يقال : كفره حقه ، فلا فرقان بين الجحدين .

فإن زعمتم أن الأول كفر ، والثاني ليس بكفر ، فقد خرجتم من اللغة ، ولا بد من أن تأتوا بحجة .

فإن قالوا : إن الأول ، والآخر ليس بكفر ، فقد ثبت أن الكفر عقد في القلب ، وليس الجحد باللسان من الكفر في شيء ، فكذلك المعرفة بالقلب إيمان ، وليس الإقرار باللسان من الإيمان في شيء .

فإن قالوا : بينهما فرقان ، سئلوا عن الفرقان ، ولن يأتوا به . [ ص: 797 ]

ويقال لهم : أخبرونا عمن كان يوحد الله في الفترة ، كزيد بن عمرو بن نفيل ، وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم ، فآمن به ، هل ازداد إيمانا ؟

فإن قالوا : نعم ، قيل كذلك من كان يكفر بالله ، قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم ، فكفر به ، فقد ازداد كفرا ؟ !

فإن قالوا : نعم ، كلاهما يزداد ، هذا الكافر يزداد كفرا ، وهذا المؤمن يزداد إيمانا ، لأنهما لم يخرجا من باب تصديق ، وجحد .

قيل لهم : أليس هو جحد بعد جحد ، فكذلك إذا كرر الجحد ، فتكراره كله كفر ؟

فإن قالوا : إذا أتى بجحدين في أول البداية لمعنيين مفترقين كان كفرا ، فإذا أتى بجحدين لمعنى واحد ، كانت البداية كفرا ، والثاني ليس بكفر .

قيل لهم : هذا تحكم ، فأتوا بلغة ، أو معقول ، ونحن موجدوهم في اللغة ، مثل ذلك : أن العامة إذا سمعت النصراني تشهد أن لله ولدا ، قالوا له : تكلمت بالكفر ، وهذا يا عدو الله الكفر ، وإن كان يكررها إن بلغ مائة سنة ، فهو متكلم بالكفر مكرر ، فكذلك المكرر للشهادة لله بالتوحيد ، ولرسوله صلى الله عليه وسلم بالرسالة ، يتكلم بالإيمان أبدا . [ ص: 798 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية