الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال أبو عبد الله : ثم فسر النبي صلى الله عليه وسلم بسنته الإيمان ، إذ فهم عن الله عز وجل مثله ، فأخبر أن الإيمان ذو شعب أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله ، فجعل أصله الإقرار [ ص: 707 ] بالقلب واللسان ، وجعل شعبه الإيمان ، ثم جعل في غير حديث الأعمال شعبا من الإيمان ، فاستعجم على المرجئ الفهم ، فضرب المثل بخلاف ما ضربه الله ، والرسول ، وقال : " مثل عشرة دراهم " ليبطل سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ويجعل قوله هو الحق بخلاف الآثار ، لأن الذي سمى الإيمان التصديق هو الذي أخبر أن الإيمان ذو شعب ، فمن لم يسم الأعمال شعبا كما جعله الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكما ضرب الله المثل به ، فقد خالف سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وليس له أن يفرق بين صفات النبي صلى الله عليه وسلم للإيمان ، فيؤمن ببعضها ، ويكفر ببعضها ، لأنه صلى الله عليه وسلم حين سأله جبريل : ما الإيمان ؟ قال : " أن تؤمن بالله " إلى آخر القول ، ثم قال في حديث ابن عباس لوفد عبد القيس : " آمركم بالإيمان " ، ثم قال : " أتدرون ما الإيمان بالله ؟ شهادة أن لا إله إلا الله " فبدأ بأصله ، والشاهد بلا إله إلا الله هو المصدق المقر بقلبه يشهد بها لله بقلبه ، ولسانه ، يبتدئ بشهادة قلبه ، والإقرار به ، ثم يثني بالشهادة بلسانه ، والإقرار به كما قال من قال : لا إله إلا الله ، يرجع بها إلى القلب مخلصا يعني مخلصا بالشهادة قلبه ليس كما شهدت المنافقون إذ : ( قالوا نشهد إنك لرسول الله ) قال الله : [ ص: 708 ] ( والله يشهد إن المنافقين لكاذبون ) ، فلم يكذب قلوبهم أنه حق في عينه ، ولكن كذبهم من قولهم ، فقال : ( والله يعلم إنك لرسوله ) ، أي كما قالوا ، ثم قال : ( والله يشهد إن المنافقين لكاذبون ) ، فكذبهم من قولهم ، لا أنهم قالوا بألسنتهم باطلا ، ولا كذبا ، وكذلك حين أجاب النبي صلى الله عليه وسلم جبريل بقوله : " الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله " ، لم يرد شهادة باللسان كشهادة المنافقين ، ولكن أراد شهادة بدؤها من القلب بالتصديق بالله بأنه واحد .

وليس هذا مما ينقص قوله : " تؤمن بالله " ، لأنه بدأه بأول الإيمان ، فقال : أن تؤمن بالله ، ثم تقر بقلبك ، ولسانك ، فتشهد له بذلك ، فابتدأ الإسلام بالشهادة ، والإيمان بالتصديق ، وهم مجامعونا أنهما جميعا إيمان ، لا يفرقون بين الشهادة التي جعل النبي صلى الله عليه وسلم أول الإسلام ، وبين التصديق الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم إسلاما ، فهم يجعلونهما جميعا إيمانا ، فما بال ما بقي لما سماه النبي صلى الله عليه وسلم إسلاما لا يكون إيمانا ، كيف نقصوه ؟ فأضافوا بعض الإسلام إلى الإيمان ، ونفوا باقيه عن الإيمان ، وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم إسلاما كله ، ثم أكد ذلك في قوله لوفد عبد القيس : " أتدرون ما الإيمان بالله وحده " ، ينبئهم [ ص: 709 ] للفهم عنه ، ثم قال : " شهادة أن لا إله إلا الله " ، وما ذكر معها من الإيمان ، ثم فسر ذلك في حديث أبي هريرة ، فقال : " الإيمان بضع وسبعون شعبة " .

فالعجب لمن طلب الحديث منهم ، أو سمع الآثار ، وإن لم يطلبها ، كيف يسمع أن النبي صلى الله عليه وسلم وصف الإيمان بصفات ، ثم يفرق بينها ، فيؤمن ببعض صفاته ، ويجحد بعضا ، وليست التفرقة بالذي يزيل الاسم ، لأنا قد وجدنا الله ، والرسول يفرقان الصفة في أشياء ، ويوجبان على المؤمنين أن يجمعوها لمن سمى بها باسم واحد .

من ذلك قول الله عز وجل : ( والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون ) ، ولم يذكر عملا .

وقال : ( وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ، ورسله ) ، ولم يذكر عملا .

وقال : ( إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ) إلى قوله : ( لهم درجات ) ، فذكر الوجل ، وإقام الصلاة ، والإيمان لله ، والإنفاق لله ، والتوكل عليه ، وأوجب لهم الجنة بذلك . [ ص: 710 ]

وقال : ( قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون ) إلى قوله : ( أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون ) .

فأوجب لهم الجنة بالأعمال التي ذكرها ، ولم يذكر في هذه الآية الوجل ، والتوكل ، ولم يذكر في الآية التي في الأنفال كل ما ذكر في هذه من الأعمال .

وقال : ( وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا ) .

وقال في موضع آخر : ( ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات ) فعم الأعمال في هذه الآية .

وقال الله عز وجل : ( والذين كفروا لهم نار جهنم ) .

وقال في موضع آخر : ( الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ) .

وقال : ( وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة ) .

وقال : ( الذين هم يراؤون ويمنعون الماعون ) . [ ص: 711 ]

فقد علمنا أن الكافرين في النار ، وإن لم يصدوا عن سبيل الله .

وقال : ( ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين ) ، فالكافر في النار ، ويزداد عذابا بهذه الأفعال ، فهذه صفات أهل النار ، وأعمالهم ، وتلك صفات أهل الجنة ، وإن اختلفت ، فكذلك وصف النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان بصفات ، فكلها صفات الإيمان ، وإن اختلفت .

فلو قال قائل : لا يدخل الجنة أحد إلا من جمع هذه الأعمال كلها ، أو قال : ليست هذه بأعمال يستحق بها الجنة ، لأنه قد فرقها ، فيرجع إلى الأصل ، يشهد أن من صدق بالله ، وبصفاته كلها ، فهو في الجنة ، فيشهد بالأصل ، ويدع الفروع ، لكان رادا على الله ، قائلا بغير الحق إذا اقتصر على الأصل ، وألقى الفروع .

فكذلك من شهد بأن الإيمان هو الأصل الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم ، وألقى سائره ، فلم يشهد أنه إيمان ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد سمى الإيمان بالأصل ، وبالفروع ، وهو الإقرار ، والأعمال ، فسماه في حديث جبريل بالتصديق ، وسمى الشهادة ، والقيام بما أسمى من الفرائض إسلاما ، وسمى [ ص: 712 ] فيما قال لوفد عبد القيس الشهادة ، وما سمى معها من الفرائض إيمانا ، ثم فسر ذلك في حديث أبي هريرة ، فجعل أصل الإيمان الشهادة ، وسائر الأعمال شعبا ، ثم أخبر أن الإيمان يكمل بعد أصله بالأعمال الصالحة ، فقال في حديث عائشة ، وأبي هريرة : " أكمل المؤمنين أحسنهم خلقا " في الإيمان ، كأحسنهم خلقا ، فإنه مساوية في الكمال ، فقد عاند سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقلب ما شهد به بأحسن المؤمنين خلقا ، فجعله لأسوئهم خلقا ، لو كان كما قال ، لكان قول النبي صلى الله عليه وسلم هذا لا معنى له ، وهو أعلم بالله من ذلك ، ثم حد الإيمان في قلوب أهل النار من المؤمنين ، فأخبر عن الله عز وجل أنه يقول : " أخرجوا من في قلبه مثقال دينار من إيمان ، مثقال نصف دينار ، مثقال شعيرة ، مثقال ذرة ، مثقال خردلة " .

فمن زعم أن ما كان في قلوبهم من الإيمان مستويا في الوزن ، فقد عارض قول النبي صلى الله عليه وسلم بالرد ، ومن قال : الذي في قلبه مثقال ذرة ليس بمؤمن ، ولا مسلم ، فقد رد على الله ، وعلى رسوله ، إذ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : " لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة مؤمنة " ، فقد حرم الله الجنة على الكافرين ، وقد جزأ النبي صلى الله عليه وسلم ما في قلوبهم من الإيمان بالقلة ، والكثرة ، ثم أخبر أن أقلهم إيمانا قد أدخل الجنة ، [ ص: 713 ] فثبت له بذلك اسم الإيمان ، فإذا كان أقلهم إيمانا يستحق الاسم ، والآخرون أكثر منه إيمانا ، دل ذلك أن له أصلا ، وفرعا يستحق اسمه من يأتي بأصله ، ويتأولون في الزيادة بعد أصله ، فتركوا أن يضربوا النخلة مثلا للإيمان ، مثلا كما ضربه الله عز وجل ، ويجعل الإيمان له شعبا كما جعله الرسول صلى الله عليه وسلم ، فيشهدوا بالأصل ، وبالفروع ، ويشهدوا بالزيادة إذا أتى بالأعمال ، كما أن النخلة فروعها ، وشعبها أكمل لها ، وهي مزدادة بعد ما ثبت الأصل شعبا ، وفرعا ، فقد كان يحق عليهم أن ينزلوا المؤمن بهذه المنزلة ، فيشهدوا له بالإيمان ، إذ أتى بالإقرار بالقلب ، واللسان ، ويشهدوا له بالزيادة ، كلما ازداد عملا من الأعمال التي سماها النبي صلى الله عليه وسلم شعبا للإيمان ، وكان كلما ضيع منها شعبة ، علموا أنه من الكمال ، أنقص من غيره ممن قام بها ، فلا يزيلوا عنه اسم الإيمان حتى يزول الأصل ، وليست العشرة مثل الإيمان ، لأنه ليس لها أصل إلا كالفرع : العاشر درهم ، والأول درهم ، فإنما مثل أصلها مثل الفضة ، والفضة كمثل التصديق ، فلو كانت نقرة فيها عشرة ، ثم نقصت حبة لسميت فضة ، لأن الفضة جامع لاسمها ، قلت أم كثرت ، لأنها أصل قائم أبدا ما دام منها شيء ، وليست [ ص: 714 ] العشرة كذلك ليس أولها بأولى من أن يكون أصلا لها من آخرها ، لأنها أجزاء متفرقة ، فكما بدئ بالدرهم الأول بالعدد ، فيجعل الأول هو العاشر ، فليس بعضها بأحق بأن يكون أصلا لبعض من الآخر ، إنما أصلها الفضة .

التالي السابق


الخدمات العلمية