الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب ذكر خلافة المعتمد على الله عز وجل

واسمه: أحمد بن جعفر المتوكل [على الله] بن المعتصم بن الرشيد ، ويكنى أبا العباس . ولد بسامراء سنة تسع وعشرين ومائتين [في أولها] ، وأمه أم ولد رومية ، يقال لها: فتيان ، وكان أسمر رقيق اللون أعين خفيفا ، لطيف اللحية ، جميلا ، بويع يوم الثلاثاء لأربع عشرة ليلة بقيت من رجب هذه السنة ، فولى الوزارة عبد الله بن يحيى بن خاقان .

وللمعتمد أشعار حسان منها قوله:


طال والله عذابي واهتمامي واكتئابي بغزال من بني الأصفر لا يغنيه ما بي     أنا مغرى بهواه وهو مغرى بعذابي
فإذا ما قلت صلني كان لا منه جوابي

وله:


عجل الحب بفرقه فبقلبي منه حرقه     ما لك بالحب رقي وأنا أملك رقه
إنما يستروح الصب إذا أظهر عشقه



[ ص: 104 ] ذكر طرف من سيرته

أخبرنا [محمد] بن ناصر [قال:] أخبرنا علي بن أحمد البسيري ، عن أبي عبد الله بن بطة ، حدثنا أبو حفص عمر بن أحمد بن شهاب ، حدثنا إبراهيم بن عبد السلام [قال:] حدثنا إسماعيل بن عبيد الله العسكري قال: كنا عند المعتمد أمير المؤمنين بسامراء في رمضان ، فلما أمسينا دعا بتمر فأفطر على تمرة ، ثم ناول من حضر تمرة تمرة ، ثم قال: حدثني أبي [قال:] حدثنا أحمد بن حنبل ، عن عبد الرزاق ، عن جعفر بن سليمان ، عن ثابت ، عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم: كان يفطر قبل أن يصلي على رطبات ، فإن لم يجد فتمرات ، فإن لم يجد تمرات حسا حسوات من ماء .

ثم قال: سمعت أبي يقول: سمعت أحمد بن حنبل يقول: حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن وهب بن منبه قال: إن الصائم يزيغ بصره ، فإذا أفطر على الحلاوة رجع إليه بصره .

وروى أبو بكر الصولي قال: حدثني أحمد بن يزيد المهلبي قال: حدثني أبي قال: كنا مرة بين يدي المعتمد ، فجعل يخفق نعاسا ، وقال: لا يبرحن أحد . ثم نام مقدار نصف ساعة ، وانتبه فقال: أحضروني من الحبس رجلا يعرف بمنصور الجمال ، فأحضر ، فقال: منذ كم أنت محبوس؟ فقال: منذ ثلاث سنين . قال: فأصدقني عن خبرك؟ قال: أنا رجل من أهل الموصل ، كان لي جمل أحمل عليه وأعود بكراه على عائلتي ، فضاق بالموصل المكسب ، فقلت: أخرج إلى سامراء ، فإن العمل فيها كثير ، فخرجت ، فلما قربت منها إذا جماعة من الجند قد ظفروا بقوم [ ص: 105 ] يقطعون الطريق قد كتب صاحب البريد بعددهم ، وكانوا عشرة ، فأعطاهم واحد من العشرة مالا على أن يطلقوه ، فأطلقوه وأخذوني مكانه ، وأخذوا جملي ، فسألتهم بالله وعرفتهم خبري ، فأبوا وحبسوني ، فمات بعض القوم ، وأطلق بعضهم ، وبقيت وحدي .

فقال المعتمد: أحضروني خمس مائة دينار . فجاءوا بها . فقال: ادفعوها إليه [قال:] فأخذها ، وأجرى عليه ثلاثين دينارا في كل شهر ، وقال: اجعلوا أمر جمالنا إليه ، ثم أقبل علينا ، وقال: رأيت الساعة النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي: يا أحمد ، وجه الساعة إلى الحبس فأخرج منصورا الجمال وأحسن إليه فإنه مظلوم . ففعلت ما رأيتم ، ثم نام من وقته فانصرفنا .

أخبرنا أبو بكر بن عبد الباقي [قال:] أخبرنا أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي ، عن أبيه قال ، حدثني أبو محمد الصلحي قال: حدثنا أبو علي الكاتب الأترحي قال: حدثني أبو محمد عبد الله بن أحمد بن حمدان قال:

انصرف جلساء المعتمد على الله ليلة عنه ، وانصرفت إلى حجرة مرسومة لي في الدار أختص بها ، فلما انتصف الليل وأنا نائم إذا أنا بالخدم يدقون باب حجرتي ويوقظونني بشدة ، فانزعجت فقالوا: أجب أمير المؤمنين . فأجبت وأنا مذعور ، وقلت: إنا لله بلاء تجدد ، فلما صرت بحضرته قائما لم يستجلسني وقال: يا غلام صاحب الشرطة ، الساعة قمت فزعا . فحضر ، فقال له: في حبسك رجل يقال له فلان بن فلان الجمال؟ فقال له: نعم . قال: أحضره . فحضر . فقال له المعتمد: [ ص: 106 ] بأي شيء تعرف؟ قال: أنا فلان بن فلان الجمال . قال: منذ كم حبست؟ قال: منذ كذا وكذا . قال: في أي شيء؟ قال: مظلوم . قال: فاشرح لي قصتك . قال: أنا رجل من أهل الجبل ، وكان يتقلدنا فلان بن فلان إلى الأمير ، فاستدعي إلى الحضرة يسخر جمالي ، فتظلمت إليه فلم ينفع ، فخرجت أمشي وراء الجمال إلى أن قربنا من حلوان ، فسل الأكراد منها جملا محملا ، فضربني مقارع كثيرة وقيدني ، فقلت: ما ذنبي؟ قال: أنت سرقت جملك وأخذت ما كان عليه . فقلت: غلمانك يعلمون أن الأكراد سلوه ، فقال: الأكراد ما جاءوا إلا بمواطأتك ثم أمر [بي] فحملت على بعض الجمال مقيدا ، فلما وردت هذا البلد طرحني في الحبس ، وملك الجمال ، فقال: يا فلان ، فحضر بعض الخدم ، فقال: امض الساعة إلى الأمير فلان واقعد على دماغه ، ولا تبرح أو يرد جمال هذا عليه ، أو قيمتها على ما يقوله الجمال ، وادفع ذلك إليه ، وقال للخادم: ادفع إلى هذا الجمال كذا وكذا دينارا أو كسوة ، وأدخله الحمام ، وأطعمه واسقه ، ثم قال لصاحب الشرطة: لا تعرض له .

ثم قال له: في حبسك فلان بن فلان الحداد؟ قال: نعم . قال: هاته . فأحضره ، فقال: ما قصتك؟ قال: أنا رجل حبست ظلما منذ كذا وكذا سنة . قال: وما كان سبب حبسك؟ فقص قصة طويلة . فقال لصاحب الشرطة: خل عنه ، وقال للخادم: خذه فغير من حاله ، وأطعمه واسقه ، وأدخله الحمام واكسه ، وادفع إليه كذا وكذا دينارا .

وقال للشرطي: انصرف ، ثم رفع [ ص: 107 ] رأسه وقال: الحمد لله الذي وفقني لهذا الفعل يا ابن حمدان . فقلت: كيف تكلف أمير المؤمنين النظر في هذا الأمر بنفسه في مثل هذا الوقت ، وانزعج من نومه؟ فقال: ويحك! جاءني رجل الساعة في النوم صفته كيت وكيت ، فقال: في حبسك رجلان مظلومان يقال لأحدهما فلان بن فلان الجمال ، والآخر فلان بن فلان الحداد ، فأطلقهما وأنصفهما من خصومهما ، وأحسن إليهما . فانتبهت مذعورا ، ولعنت إبليس ، وصليت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتحولت إلى الجانب الآخر وقمت فرأيت الشخص بعينه ، فقال لي: ويلك! آمرك أن تطلق رجلين محبوسين مظلومين من حبسك قد طال حبسهما ، وأن تنصفهما من خصومهما ولا تفعل ، وترجع إلى نومك؟ [لقد] هممت أن أفعل بك . قال: وكاد يمد يده إلي .

فقلت: يا هذا ، ارفق بي وقل لي من أنت؟ قال: [أنا] محمد رسول الله [قال:] فكأني [قد] قبلت يده ، وقلت: يا رسول الله ، ما عرفتك . ولو كنت عرفتك ما تجاسرت على مخالفتك . قال: فقم فعجل في أمرهما الساعة كما أمرتك . فانتبهت فاستدعيتك لتشاهد ما يجري ، [ ص: 108 ] وطلبت صاحب الشرطة ، فجرى ما رأيت . فدعوت له وعظمت في نفسه ما جرى ، وقلت: هذه عناية من رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أمير المؤمنين ، ومنة من الله عليه ، فليشكر الله . فقال: امض فقد أزعجتك . فمضيت إلى حجرتي .

ولخمس بقين من رجب: دخل الزنج إلى الأبلة ، فقتلوا فيها خلقا كثيرا ، منهم: عبد الله بن حميد الطوسي ، وأحرقوها .

وفي هذا الشهر: قدم سعيد بن صالح المعروف [بالحاجب] من قبل السلطان لحرب الزنج ، واستسلم أهل عبادان لصاحب الزنج ، فسلموا إليه حصنهم ، وذلك أنهم رأوا ما فعل بأهل الأبلة ، فضعفت قلوبهم ، وخافوا على أنفسهم ، فأعطوا بأيديهم ، فدخلها أصحابه فأخذوا من كان فيها من العبيد والسلاح ، ودخلوا الأهواز ، فهرب أهلها ، فدخلوا فأحرقوا وقتلوا ، ونهبوا وأخربوا ، وذلك يوم الاثنين لاثنتي عشرة خلت من رمضان ، فانزعج أهل البصرة لذلك ، ورعبوا رعبا شديدا ، وانتقل أكثر أهلها عنها .

وفي هذه السنة: ظهر بالكوفة علي بن زيد الطالبي ، فبعث إليه [الشاه بن ميكال في] عسكر كثيف ، فهزمهم ، ووثب محمد بن واصل بن إبراهيم التيمي من أهل فارس ورجل من أكرادها يقال له: أحمد بن الليث بعامل فارس فقتلاه .

وفيها: شخص موسى بن بغا لإحدى عشرة ليلة خلت من شوال من سامراء إلى الري ، وشيعه المعتمد .

[وحج بالناس في هذه السنة أحمد بن عيسى بن المنصور] .

[ ص: 109 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية