الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال المصنف : وسيأتي كيفية قتل بدر في ولاية المكتفي بالله .

[ ص: 324 ] وقال عبيد الله بن سليمان : كنت يوما بحضرة المعتضد وخادم من خدمه بيده المذبة ، فبينا هو يذب إذ ضرب بالمذبة قلنسوة المعتضد ، فسقطت فكدت أختلط إعظاما للحال ، والمعتضد على حاله لم يتغير ولم ينكر شيئا ، ثم دعا غلاما فقال له : هذا الغلام قد نعس فزد في عدد خدم المذبة ولا تنكر عليه بفعله ، قال عبيد الله : فقبلت الأرض ، وقلت : والله يا أمير المؤمنين ما سمعت بمثل هذا ، ولا ظننت أن حلما يسع مثله . ثم دعوت له . فقال : هل يجوز غير هذا؟ أنا أعلم أن هذا البائس لو دار في خلده ما جرى لذهب عقله وتلف ، وإنما ينبغي أن يلحق الإنكار بالمتعمد لا بالساهي والغالط .

وذكر محمد بن عبد الملك الهمذاني أن المعتضد أراد تجهيز جيش ، فعجز عن ذلك بيت مال العامة ، فأخبر بمجوسي له مال عظيم ، فاستدعاه يستقرض منه ، وقال : إنا نعيد العوض ، فقال : مالي بين يدي أمير المؤمنين ، فليأخذ ما يشاء . فقال : من أين وقعت بنا أننا نرد [ العوض؟ ] فقال : يا أمير المؤمنين ، يأتمنك الله تعالى على عباده وبلاده فتؤدي الأمانة ، وتفيض العدل ، وتحكم بالحق ، وأخافك على جزء من مالي؟ فدمعت عيناه ، فقال : انصرف قد وفر الله عز وجل مالك وأغنانا عن القرض منك ، ومتى كانت لك حاجة فحجابنا مرفوع عنك ، ولم يستقرض منه شيئا .

فلما ولي المعتضد لم يكن في بيت المال إلا قراريط والحضرة مضطربة والأعراب عابثون فأصلح الأمور ، وحمى البيضة ، وبالغ في العمارة ، وأنصف في المعاملة ، واقتصد في النفقة ، فمات وفي بيت المال بضعة عشر ألف ألف دينار .

وخرج يوما فعسكر بباب الشماسية ، ونهى [ أحدا ] أن يأخذ من بستان أحد شيئا ، فأتي بأسود قد أخذ عذقا من بسر ، فتأمله فأمر بضرب عنقه ، ثم التفت إلى أصحابه فقال : ويلكم تدرون ما تقول العامة؟ قالوا : لا ! قال : يقولون ما في الدنيا أقسى قلبا [ ص: 325 ] من هذا الخليفة ، ولا أقل دينا منه ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لا قطع في ثمر ولا كثر" ، والكثر : الجمار ، فما رضي أن يقطع في هذا حتى قتل ، والله ما قتلت الأسود بسبب هذا ! ولكن لي معه خبر طريف ، استأمن هذا من عسكر الزنج إلى أبي الموفق ، فخلع عليه ووصله ، فرأيته يوما وقد نازع رجلا في شيء ، فضربه بفأس ، فقطع يده فمات الرجل ، فحمله الناس إلى أبي [ الموفق ] فأهدر دم المقطوع اليد ، وأطلق الأسود ليتألف الزنج بذلك الفعل ، فاغتظت ، وقلت : ترى أتمكن من قتل هذا الأسود وأنفذ حكم الله [ عز وجل ] فيه ، فو الله ما وقعت عيني عليه إلا في هذه الساعة ، فقتلته بذلك الرجل .

ورفع إلى المعتضد أن قوما يجتمعون ويرجفون ويخوضون في الفضول ، وقد تفاقم فسادهم ، فرمى بالرقعة إلى وزيره عبيد الله بن سليمان فقال : الرأي صلب بعضهم وإحراق بعضهم ! فقال : والله لقد بردت لهيب غضبي بقسوتك هذه ، ونقلتني إلى اللين من حيث أشرت بالحرق ، وما علمت أنك تستجيز هذا في دينك ، أما علمت أن الرعية وديعة الله عند سلطانها ، وأن الله تعالى سائله عنها؟ أما تدري أن أحدا من الرعية لا يقول ما يقول إلا لظلم قد لحقه أو لحق جاره أو داهية قد نالته أو نالت صاحبه؟ ثم قال : سل عن القوم ، فمن كان سيئ الحال فصله من بيت المال ، ومن كان يخرجه هذا إلى البطر فخوفه ، ففعل فصلحت الأحوال .

وكان للمعتضد جارية يحبها وتحبه غاية المحبة ، فماتت ، فجزع عليها جزعا منعه من الطعام والشراب فقال :


يا حبيبا لم يكن يعد له عندي حبيب [ ص: 326 ]     أنت عن عيني بعيد
ومن القلب قريب     ليس لي بعدك في شيء
من اللهو نصيب     لك من قلبي على قلبي
وإن بنت رقيب     وخيالي منك مذ غبت
خيال ما يغيب     لو تراني كيف لي
بعدك عول ونحيب     وفؤادي حشوة من
حرق الحزن لهيب     لتيقنت بأني
بك محزون كئيب     ما أرى نفسي وإن
وطئتها عنك تطيب     لي دمع ليس يعصيني
وصبر ما يجيب

وله :


لم أبك للدار ولكن لمن     قد كان فيها مرة ساكنا
فخانني الدهر بفقدانه     وكنت من قبل له آمنا
ودعت صبري عند توديعه     وسار قلبي معه ظاعنا

فقال له عبيد الله بن سليمان : مثلك يا أمير المؤمنين تهون عليه المصائب ، لأنه يجد من كل فقيد خلفا ، ويقدر على ما يريد ، والعوض منك لا يوجد ، ولا ابتلى الله [ عز وجل ] الإسلام بفقدك ، وعمره ببقائك ، فقد قال الشاعر في المعنى الذي ذكره :


يبكي علينا ولا نبكي على أحد     إنا لأغلظ أكبادا من الإبل

فضحك المعتضد ، وعاد إلى عاداته .

قال أبو عبيدة الإبل توصف بغلظ الأكباد .

وقال ثعلب : الناس في أمر الإبل على ضد هذا ، لأنهم يصفونها بالرقة والحنين .

وقال عبد الله بن المعتز يعزي المعتضد في هذه الجارية .


يا إمام الهدى بنا لا بك     الغم أفنيتنا وعشت سليما
[ ص: 327 ] أنت علمتنا على النعم الشكر     وعند المصائب التسليما
فسل عما مضى فإن التي     كانت سرورا صارت ثوابا عظيما
قد رضينا بأن نموت وتحيا     إن عندي في ذاك حظا جسيما
من يمت طائعا لديك فقد أعطي     نورا ومات موتا كريما

ولليلتين خلتا من شعبان [ في ] هذه السنة قدم على المعتضد رسول عمرو بن الليث بهدايا ، وسأل ولاية خراسان ، فوجه المعتضد عيسى النوشري مع الرسول ، ومعه خلع ولواء عقده له على خراسان ، فوصلوا إليه في رمضان ، وخلع عليه ، ونصب اللواء في صحن داره ثلاثة أيام .

وفي شوال : قدم الحسين بن عبد الله الجصاص من مصر رسولا لخمارويه ، ومعه هدايا من العين عشرين حملا على بغال ، وعشرة من الخدم ، وصندوقان فيهما طرائف ، وعشرون رجلا على عشرين نجيبا بالسروج المحلاة ، ومعهم جراب فضة ، وعليهم أقبية الديباج والمناطق المحلاة ، وسبع عشرة دابة بسروج ولجم ، منها خمسة بذهب والباقي بفضة ، وسبعة وثلاثون دابة بجلال مشهرة ، وخمسة أبغل وزرافة ، فخلع المعتضد على ابن الجصاص ، وعلى سبعة نفر معه وسعى ابن الجصاص في تزويج ابنة خمارويه من علي بن المعتضد ، فقال المعتضد : أنا أتزوجها ! [ فتزوجها ] .

وحج بالناس في هذه السنة : هارون بن محمد [ الهاشمي ] وهي آخر حجة حجها فإنه حج بالناس ست عشرة سنة [ من سنة أربع وستين إلى هذه السنة ] .

التالي السابق


الخدمات العلمية