الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر

1916 - أحمد بن أصرم بن خزيمة بن عباد بن عبد الله بن حسان بن عبد الله بن مغفل ، أبو العباس المزني .

سمع أحمد بن حنبل ، ويحيى ، وغيرهما . روى عنه أبو بكر النجاد والحزمي وغيرهما وكان ثقة كبير الشأن .

توفي [ في جمادى الأولى من هذه السنة ] بدمشق .

1917 - إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم بن بشير بن عبد الله بن ديسم ، أبو إسحاق الحربي .

أصله من مرو ، ولد سنة ثمان وتسعين ومائة ، وسمع أبا نعيم ، وعفان بن [ ص: 380 ] مسلم ، [ وعلي بن الجعد ] ، وأحمد بن حنبل وخلقا كثيرا . روى عنه : ابن صاعد ، وابن أبي داود ، وابن الأنباري ، وغيرهم .

وكان إماما في العلم ، غاية في الزهد ، عارفا بالفقه ، بصيرا بالأحكام ، ماهرا في علم الحديث ، قيما بالأدب واللغة . وصنف كتبا كثيرة .

وقال الدارقطني : إبراهيم الحربي إمام مصنف ، عالم بكل شيء بارع في كل علم ، صدوق ، كان يقاس بأحمد بن حنبل في زهده وعلمه وورعه .

وقال إبراهيم الحربي : كان أخوالي نصارى ، وأمي تغلبية ، وصحبت قوما من الكرخ على سماع الحديث ، فسموني الحربي ، لأن عندهم من جاز القنطرة العتيقة من الحربية .

أخبرنا أبو منصور القزاز قال : أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت ، قال : أخبرني الجوهري قال : أخبرنا محمد بن العباس الخزاز ، قال : سمعت أبا عمر [ ص: 381 ] اللغوي يقول : سمعت ثعلبا ، يقول : ما فقدت إبراهيم الحربي من مجلس نحو أو لغة خمسين سنة .

[أنبأنا القزاز ، أنبأنا الخطيب ، قال : حدثني الأزهري ، قال : سمعت أبا سعد عبد الرحمن بن محمد] الإستراباذي يقول : سمعت أبا أحمد بن عدي ، يقول : سمعت أبا عمران الأشيب ، يقول : قال رجل لإبراهيم الحربي : كيف قويت على جمع هذه الكتب؟ فغضب وقال : بلحمي ودمي ، بلحمي ودمي ! ! .

أخبرنا أبو منصور القزاز ، قال : أخبرنا أبو بكر بن ثابت ، قال : حدثنا عبد العزيز بن علي الوراق ، قال : حدثنا علي بن عبد الله بن جهضم ، قال : حدثنا الخلدي ، قال : حدثنا أحمد بن عبد الله بن خالد بن ماهان ، قال : سمعت إبراهيم بن إسحاق يقول : أجمع عقلاء كل أمة أنه من لم يجر مع القدر لم يتهنأ بعيشة ، كأن يكون قميصي أنظف قميص ، وإزاري أوسخ إزار ، ما حدثت نفسي أنهما يستويان قط ، وفرد عقبي مقطوع ، والآخر صحيح ، أمشي بهما وأدور بغداد كلها ، هذا الجانب ، وذاك الجانب ، لا أحدث نفسي أن أصلحها . وما شكوت إلى أمي ، ولا إلى أختي ، ولا إلى امرأتي ، ولا إلى بناتي قط حمى وجدتها ، .

[ وكان يقول ] : الرجل [ هو ] الذي يدخل غمه على نفسه ولا يغم عياله ، وكان بي شقيقة خمسا وأربعين سنة ما أخبرت بها أحدا قط ، ولي عشر سنين أبصر [ ص: 382 ] بفرد عين ما أخبرت بها أحدا قط ، وأفنيت من عمرى ثلاثين سنة برغيفين ، إن جاءتني بهما أمي أو أختي أكلت ، وإلا بقيت جائعا عطشان إلى الليلة الثانية ، وأفنيت ثلاثين سنة من عمري برغيف في اليوم والليلة ، إن جاءتني امرأتي أو إحدى بناتي به أكلت والا بقيت جائعا عطشان إلى الليلة الأخرى ، والآن آكل نصف رغيف وأربع عشرة تمرة إن كانت برنيا ، أو نيفا وعشرين إن كانت دقلا ، ومرضت ابنتي فمضت امرأتي [ فأقامت ] عندها شهرا ، فقام إفطاري في هذا الشهر بدرهم ودانقين ونصف ، ودخلت الحمام واشتريت لهم صابونا بدانقين ، وكانت نفقة رمضان [ كله ] بدرهم وأربعة دوانيق ونصف .

أخبرنا عبد الرحمن بن محمد ، قال : أخبرنا أحمد بن علي ، قال : أخبرني عبيد الله بن أبي الفتح ، قال : أخبرنا عمر بن أحمد بن هارون المقرئ ، أن أبا القاسم [بن بكير] حدثه ، قال : سمعت إبراهيم الحربي يقول : ما كنا نعرف من هذه الأطبخة شيئا ، كنت أجيء من عشي إلى عشي ، وقد هيأت لي أمي باذنجانة مشوية ، أو لعقة بن ، أو باقة فجل .

قال عمر : سمعت أبا علي الخراط قال : كنت يوما جالسا مع إبراهيم [ ص: 383 ] [ الحربي ] على باب داره ، فلما أن أصبحنا قال لي : يا أبا علي ، قم إلى شغلك فإن عندي فجلة قد أكلت البارحة حضرتها أقوم أتغذى بجزرتها .

أخبرنا عبد الرحمن [بن محمد] القزاز ، قال : أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت ، قال : أخبرني أبو نصر : أحمد بن الحسين بن محمد بن عبد الله القاضي ، قال : حدثنا أبو بكر : أحمد بن محمد بن إسحاق السني ، قال : سمعت أبا عثمان الرازي يقول : جاء رجل من أصحاب المعتضد إلى إبراهيم الحربي بعشرة آلاف درهم من عند المعتضد ، يسأله عن أمر أمير المؤمنين تفرقة ذلك ، فرده فانصرف الرسول ، ثم عاد فقال [ له ] : إن أمير المؤمنين يسألك أن تفرقه في جيرانك ، فقال : عافاك الله ، هذا مال لم نشغل أنفسنا بجمعه ، فلا نشغلها بتفرقته ، قل لأمير المؤمنين إن تركتنا وإلا تحولنا من جوارك .

أخبرنا عبد الرحمن [بن محمد] ، قال : أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت ، قال : حدثني الأزهري ، قال : أخبرنا أحمد بن إبراهيم بن الحسن ، قال : حدثنا أحمد بن مروان ، قال : أخبرنا أبو القاسم بن الجبلي ، قال : اعتل إبراهيم الحربي علة حتى أشرف على الموت ، فدخلت إليه يوما ، فقال لي : يا أبا القاسم ، أنا في أمر عظيم مع ابنتي ، ثم قال لها : قومي اخرجي إلى عمك ، فخرجت فألقت على وجهها خمارها ، فقال : إبراهيم هذا عمك فكلميه ، فقالت [ لي ] : يا عم نحن في أمر عظيم ، لا في الدنيا ولا في الآخرة ، الشهر والدهر ما لنا طعام إلا كسر يابسة وملح ، وربما عدمنا [ ص: 384 ] الملح ، وبالأمس [ قد ] وجه إليه المعتضد مع بدر ألف دينار فلم يأخذها ، ووجه إليه فلان وفلان فلم يأخذ منهما شيئا وهو عليل . فالتفت الحربي إليها وتبسم وقال : يا بنية إنما خفت الفقر؟ قالت : نعم ! قال : انظري إلى تلك الزاوية ، فنظرت فإذا كتب ، فقال : هناك اثنا عشر ألف جزء لغة وغريب كتبتها بخطي ، إذا مت فوجهي كل يوم بجزء فبيعيه بدرهم ، فمن كان عنده اثنا عشر ألف درهم ليس بفقير .

قال محمد بن عبد الله الكاتب : كنت يوما عند المبرد فأنشد:

جسمي معي غير أن الروح عندكم فالجسم في غربة والروح في وطن     فليعجب الناس مني أن لي بدنا
لا روح فيه ولي روح بلا بدن

وأنشد ثعلب :


غابوا فصار الجسم من بعدهم     لا تنظر العين له فيا
بأي وجه أتلقاهم     إذا رأوني بعدهم حيا؟
يا خجلتي منهم ومن قولهم     ما ضرك الفقد لنا شيا

قال : فأتيت [ إبراهيم ] الحربي فأنشدته ، فقال : ألا أنشدته :


يا حيائي ممن أحب إذا ما     قال بعد الفراق أنى حييت

وقال الحسن بن زكريا العدوي : أنشدني إبراهيم الحربي :

أنكرت ذلي فأي شيء     أحسن من ذلة المحب؟
[ ص: 385 ] أليس شوقي وفيض دمعي     وضعف جسمي شهود حبي؟

أخبرنا القزاز ، قال : أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت ، قال : حدثني عبد الغفار بن عبد الواحد الأرموي ، قال : سمعت أبا يعلى الحافظ ، يقول : سمعت [حمزة] بن محمد العلوي ، يقول : سمعت عيسى بن محمد الطوماري ، يقول : دخلنا على إبراهيم الحربي - وهو مريض - وقد كان يحمل ماؤه إلى الطبيب وكان يجيء إليه ويعالجه ، فجاءت الجارية فردت الماء وقالت : مات الطبيب ، فبكى وأنشأ يقول :


إذا مات المعالج من سقام     فيوشك للمعالج أن يموتا

أخبرنا القزاز ، قال : أخبرنا أحمد بن علي [بن ثابت] قال : حدثني الحسن بن أبي طالب ، قال : حدثنا عمر بن أحمد الواعظ ، قال : حدثنا علي بن الحسن البزاز ، قال : سمعت إبراهيم الحربي يقول وقد دخل عليه قوم يعودونه ، فقالوا : كيف تجدك؟

فقال : أجدني كما قال الشاعر :


دب في البلاء علوا وسفلا     وأراني أموت عضوا فعضوا
ذهبت جدتي بطاعة نفسي     فتذكرت طاعة الله نضوا

توفي إبراهيم الحربي يوم الإثنين لتسع [ ليال ] بقين من ذي الحجة ، ودفن يوم [ ص: 386 ] الثلاثاء لثمان بقين من ذي الحجة سنة خمس وثمانين [ ومائتين ] وصلى عليه يوسف بن يعقوب القاضي في شارع باب الأنبار ، وكان الجمع كثيرا جدا ودفن في بيته .

1918 - إسحاق بن المأمون بن إسحاق بن إبراهيم ، أبو سهل الطالقاني : .

حدث عن الكوسج ، والربيع بن سليمان . روى عنه ابن مخلد ، وكتب الناس عنه كتاب الشافعي بروايته عن الربيع ، ومن الحديث شيئا صالحا .

وتوفي في جمادى الأولى من هذه السنة .

1919 - بدر بن عبد الله ، أبو الحسن الجصاص الرومي .

حدث عن عاصم بن على ، وخليفة بن خياط . روى عنه الخطبي ، والنقاش .

وتوفي في محرم هذه السنة .

1920 - زكريا بن يحيى بن عبد الملك بن مروان ، أبو يحيى الناقد .

سمع خالد بن خداش ، وأحمد بن حنبل ، وغيرهما . روى عنه أبو الخلال ، ومحمد بن مخلد ، وأبو سهل بن زياد ، وغيرهم .

وكان أحد العباد المجتهدين ، ومن أثبات المحدثين . قال فيه أحمد بن حنبل : هذا رجل صالح . وقال الدارقطني : هو فاضل ثقة .

أخبرنا عبد الرحمن بن محمد ، قال : أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت ، قال : حدثنا أبو نصر إبراهيم بن هبة الله الجرباذقاني ، قال : حدثنا معمر بن أحمد بن محمد بن زياد الأصبهاني ، قال : قال أبو زرعة الطبري : قال أبو يحيى الناقد : اشتريت من الله تعالى حوراء بأربعة آلاف ختمة ، فلما كان آخر ختمة سمعت الخطاب من الحوراء وهي [ ص: 387 ] تقول : وفيت بعهدك فها أنا التي [ قد ] اشتريتني ! فيقال : إنه مات .

توفي أبو يحيى الناقد ليلة الجمعة ، [ ودفن يوم الجمعة ] لثمان بقين من ربيع الآخر من هذه السنة .

1921 - سعيد بن محمد بن سعيد ، أبو عثمان الأنجداني .

سمع أبا عمر الحوضي روى عنه أبو بكر الشافعي ، وكان صدوقا .

توفي في شوال هذه السنة .

1922 - عبد الله بن أحمد بن سوادة أبو طالب مولى بني هاشم .

حدث عن مجاهد بن موسى ، وطالوت في جماعة . روى عنه أبو بكر بن مجاهد ، وابن مخلد ، وابن عقدة ، وكان صدوقا .

وتوفي في هذه السنة بطرسوس .

1923 - عبيد الله بن عبد الواحد بن شريك أبو محمد البزار .

حدث عن آدم بن أبي إياس ، ونعيم بن حماد . روى عنه النجاد ، والمحاملي ، وقال الدارقطني : هو صدوق . [ ص: 388 ] وتوفي في رجب هذه السنة ، ودفن عند قبر أحمد .

1924 - محمد بن بشر بن مطر ، أبو بكر الوراق ، أخو خطاب بن بشر المذكر .

سمع عاصم بن علي ، ومحمد بن عبد الله بن نمير ، ويحيى بن يوسف الزمي ، وغيرهم . [ روى عنه ابن صاعد ، وأبو جعفر بن بريه ، وأبو بكر الشافعي ، وغيرهم . و ] قال إبراهيم الحربي : أخو خطاب صدوق لا يكذب ، وقال الدارقطني : ثقة .

وتوفي في رمضان هذه السنة .

1925 - محمد بن حماد بن ماهان بن زياد ، أبو جعفر الدباغ .

سمع علي بن المديني ، وغيره . وكان ثقة .

وتوفي في جمادى الآخرة من هذه السنة .

1926 - محمد بن يزيد بن عبد الأكبر ، أبو العباس الأزدي الثمالي - وثمالة قبيلة من الأزد - المعروف بالمبرد .

[ ص: 389 ] [ له المعرفة التامة باللغة ، وكان في نحو البصريين آية ] ولد سنة عشر ومائتين ، وقيل : سنة ست ومائتين وذكر ابن المرزبان أنه سئل : لم سميت المبرد ؟ فقال : كان سبب ذلك أن صاحب الشرطة طلبني للمنادمة فكرهت الذهاب إليه ، فدخلت على أبي حاتم السجستاني ، فجاء رسول صاحب الشرطة يطلبني ، فقال لي أبو حاتم : ادخل [ في هذا ] يعني غلاف المزملة فارغ ، فدخلت فيه وغطى رأسه ثم خرج إلى الرسول ، فقال أبو حاتم للرسول : ليس هو عندي ، فقال : أخبرت أنه دخل إليك ، فقال : فادخل الدار ففتشها . فدخل فطاف كل موضع من الدار ولم يفطن بغلاف المزملة ، ثم خرج فجعل أبو حاتم يصفق بيديه وينادي على المزملة : المبرد المبرد ، وتسامع الناس ذلك فلهجوا به . وللمبرد المعرفة التامة باللغة ، وهو أوحد في نحو البصريين .

و روى عن المازني ، وأبى حاتم ، وغيرهما . وكان موثوقا به في الرواية ، وكان بينه وبين ثعلب مفارقة .

أخبرنا عبد الرحمن بن محمد ، قال : أخبرنا أحمد بن علي الخطيب ، قال : أخبرنا الجوهري ، قال : أخبرنا محمد بن العباس ، قال : أنشدنا محمد بن المرزبان لبعض أصحاب المبرد يمدحه :


بنفسي أنت يا ابن يزيد من ذا     يساوي ثعلبا بك غير قين
إذا مازتكما العلماء يوما     رأت شأويكما متفاوتين
[ ص: 390 ] تفسر كل معضلة بحذق     ويستر كل واضحة بعين
كأن الشمس ما تمليه شرحا     وما يمليه همزة بين بين

توفي المبرد في هذه السنة .

أخبرنا عبد الرحمن بن محمد ، قال : أخبرنا أحمد بن علي ، قال : أخبرنا أحمد بن محمد العتيقي ، قال : حدثنا محمد بن الحسين بن عمر التميمي ، قال : أنشدنا أحمد بن مروان المالكي ، قال : أنشدني بعض أصحابنا لثعلب بن المبرد حين مات :


مات المبرد وانقضت أيامه     وسينقضي بعد المبرد ثعلب
بيت من الآداب أصبح نصفه     خربا وباقي نصفه فسيخرب

قال المصنف : هذا [ قدر ] ما روي لنا من هذه الطريق ، وأنها لثعلب ، وقد روى لنا من طريق آخر أنها للحسين بن علي المعروف بابن العلاف ، قالها يرثي المبرد [ ويمدح ثعلبا ، وهي ] :


مات المبرد وانقضت أيامه     وليذهبن مع المبرد ثعلب
بيت من الآداب أصبح نصفه     خربا وباقي بيته فسيخرب
فابكوا لما سلب الزمان ووطنوا     للدهر أنفسكم على ما يسلب
غاب المبرد حيث لا ترجونه     أبدا ومن ترجونه فمغيب
شملتكم أيدي الردى بمصيبة     وتوعدت بمصيبة تترقب
[ ص: 391 ] فتزودوا من ثعلب فبكاس ما     شرب المبرد عن قليل يشرب
وأرى لكم أن تكتبوا أنفاسه     إن كانت الأنفاس مما يكتب
فليلحقن بمن مضى متخلف     من بعده وليذهبن ونذهب

قال المبرد : خرجت ومعي أصحاب لي نحو الرقة ، فإذا نحن بدير كبير ، فأقبل إلي بعض أصحابي [ فقال ] : مل بنا إلى هذا الدير لننظر من فيه ، ونحمد الله سبحانه وتعالى على ما رزقنا من السلامة ، فلما دخلنا الدير رأينا مجانين مغللين ، [ وهم ] في نهاية القذارة وإذا بينهم شاب [ عليه بقية ثياب ] ناعمة ، فلما بصر بنا قال : من أين أنتم يا فتيان حياكم الله؟ فقلنا : من العراق ، فقال : يا بأبي العراق وأهلها ! بالله أنشدوني - أو أنشدكم – فقال المبرد : والله إن الشعر من هذا لظريف ، فقلنا : أنشدنا ، فأنشأ يقول :


الله يعلم أنني كمد     لا استطيع أبث ما أجد
روحان لي روح تضمنها     بلد وأخرى حازها بلد
وأرى المقيمة ليس ينفعها     صبر ولا يقوى لها جلد
وأظن غائبتي كشاهدتي     بمكانها تجد الذي أجد

قال المبرد [ والله ] إن هذا لظريف ، بالله زدنا ، فأنشأ يقول :


لما أناخوا قبيل الصبح عيرهم     ورحلوها فثارت بالهوى الإبل
وأبرزت من خلال السجف ناظرها     ترنو إلي ودمع العين منهمل
وودعت ببنان عقدها عنم     ناديت لا حملت رجلاك يا جمل
ويلي من البين ماذا حل بي وبهم     من نازل البين حان البين وارتحلوا
[ ص: 392 ] يا راحل العيس عجل كي أودعهم     يا راحل العيس في ترحالك الأجل
إني على العهد لم أنقض مودتهم     فليت شعري لطول العهد ما فعلوا

[ قال المبرد ] فقال رجل من البغضاء الذين معى : ماتوا ! قال : إذن فأموت؟

فقال له : إن شئت [ فمت ] فتمطى واستند إلى السارية التي كان مشدودا فيها [ ومات ] ، فما برحنا حتى دفناه .

[ وتوفي المبرد في هذه السنة ] .

التالي السابق


الخدمات العلمية