الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال ( ومن ادعى قصاصا على غيره فجحده استحلف ) بالإجماع ( ثم إن نكل عن اليمين فيما دون النفس يلزمه القصاص ، وإن نكل في النفس حبس حتى يحلف أو يقر ) وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله ، وقالا : لزمه الأرش فيهما لأن النكول إقرار فيه شبهة عندهما فلا يثبت به القصاص ويجب به المال ، خصوصا إذا كان امتناع القصاص لمعنى من جهة من عليه [ ص: 191 ] كما إذا أقر بالخطأ والولي يدعي العمد . ولأبي حنيفة رحمه الله أن الأطراف يسلك بها مسلك الأموال فيجري فيها البذل ، بخلاف الأنفس فإنه لو قال اقطع يدي فقطعها لا يجب الضمان ، وهذا إعمال للبذل إلا أنه لا يباح لعدم الفائدة ، وهذا البذل مفيد لاندفاع الخصومة به فصار كقطع اليد للآكلة وقلع السن للوجع [ ص: 192 ] وإذا امتنع القصاص في النفس واليمين حق مستحق يحبس به كما في القسامة

التالي السابق


( قال ) أي القدوري في مختصره ( ومن ادعى قصاصا على غيره فجحده ) وليس للمدعي بينة ( استحلف ) المدعى عليه ( بالإجماع ) سواء كانت الدعوى في النفس بها أو فيما دونها ، وهذه المسألة مذكورة في الجامع الصغير أيضا في كتاب القضاء ( ثم إن نكل عن اليمين فيما دون النفس لزمه القصاص ، وإن نكل في النفس حبس حتى يحلف أو يقر ، وهذا ) أي الحكم المذكور ( عند أبي حنيفة ، وقالا : لزمه الأرش فيهما ) أي في النفس وفيما دونها ( لأن النكول إقرار فيه شبهة عندهما ) لأنه إن امتنع عن اليمين تورعا عن اليمين الصادقة لا يكون إقرارا بل يكون بذلا ، كذا في الكافي ( فلا يثبت به القصاص ويجب به المال خصوصا ) أي خاصة ( إذا كان امتناع القصاص لمعنى من جهة من عليه ) أي من جهة من عليه القصاص ، وقيد امتناع القصاص لمعنى [ ص: 191 ] من جهة من عليه القصاص ; لأنه لو كان امتناعه من جهة من له القصاص لا يجب القصاص ولا المال أيضا ، كما إذا أقام مدعي القصاص رجلا وامرأتين أو الشهادة على الشهادة حيث لا يقضى بشيء ; لأن الحجة قامت بالقصاص ولكن تعذر استيفاؤه فلا يجب شيء كذا في الشروح ، ونظير هذا ما أشار إليه المصنف بقوله ( كما إذا أقر بالخطإ والولي يدعي العمد ) فإنه يجب فيه المال وبالعكس لا يجب فيه شيء ( ولأبي حنيفة أن الأطراف يسلك بها مسلك الأموال ) لأنها خلقت وقاية للنفس كالأموال ( فيجري فيها البذل ) كما يجري في الأموال ( بخلاف الأنفس ) حيث لا يجري فيها البذل ( فإنه لو قال : اقطع يدي ) أي لو قال الآخر اقطع يدي ( فقطعها لا يجب الضمان ) أي على القاطع ( وهذا ) أي عدم وجود الضمان ( إعمال للبذل ) في الأطراف ، وأما لو قال اقتلني فقتله فإنه يجب عليه القصاص في رواية والدية في أخرى ، وهذا دليل على عدم جريان البذل في الأنفس .

ولما استشعر أن يقال لو كانت الأطراف يسلك بها مسلك الأموال لكان ينبغي أن يباح قطع يده إذا قال اقطع يدي كما يباح أخذ ماله إذا قال خذ مالي ، أجاب عنه بقوله ( إلا أنه لا يباح لعدم الفائدة ) أي لا يباح القطع لعدم الفائدة فيه كما أن إتلاف المال لا يباح عند عدم الفائدة بأن قال ألق مالي في البحر أو أحرقه بالنار ( وهذا البذل ) أي الذي بالنكول ( مفيد لاندفاع الخصومة به فصار كقطع اليد للآكلة وقطع السن للوجع ) قال صاحب العناية : وفيه بحث من وجهين : أحدهما أنه مناقض لما قال في السرقة إن القطع [ ص: 192 ] لا يثبت بالنكول . والثاني أن الخصومة تندفع بالأرش وهو أهون ، فالمصير إليه أولى . وأجيب عن الأول بأن الأطراف يسلك بها مسلك الأموال في حقوق العباد لأنهم المحتاجون إليها فتثبت بالشبهات كالأموال ، والقطع في السرقة خالص حق الله تعالى وهو لا يثبت بالشبهات .

وعن الثاني بأن دفع الخصومة بالأرش إنما يصار إليه بعد تعذر ما هو الأصل وهو القصاص ولم يتعذر فلا يعدل عنه انتهى .

واعترض بعض الفضلاء على قوله في جواب البحث الأول والقطع في السرقة خالص حق الله تعالى ، وهو لا يثبت بالشبهات بعد أن بين المراد حيث قال : يعني أن في كون النكول بذلا شبهة لكن فيه بحث ، فإنه لو صرح بالبذل في حقوق الله تعالى لا يثبت القطع أيضا ، فالأولى طرح الشبهة من البين والاكتفاء بعدم تأتي البذل فيه انتهى .

أقول : مدار بحثه على أن يكون المراد ما بينه ، وذلك ممنوع إذ يجوز أن يكون المراد أن في كون الأطراف مما يسلك به مسلك الأموال شبهة لاحتمال كونها في حكم الأنفس كما ذهب إليه الشافعي رحمه الله وبنى عليه تجويزه القصاص بين الرجل والمرأة وبين الحر والعبد وبين العبدين فيما دون النفس على ما يأتي في كتاب الجنايات ، فمع هذه الشبهة لا يتأتى البذل في قطع الأطراف في حقوق الله تعالى ، بخلاف حقوق العبد فيتم الجواب .

ثم إن في ذكر هذه الشبهة إيماء إلى سبب عدم تأتي البذل فيه في حقوق الله تعالى فكان ذكرها أولى من طرحها والاكتفاء بعدم تأتي البذل فيه كما لا يخفى ( وإذا امتنع القصاص في النفس ) أي بالنكول لعدم جريان البذل فيها كما مر ( واليمين حق مستحق ) أي والحال أن اليمين حق مستحق ( يحبس به ) أي يحبس الناكل بذلك الحق ( كما في القسامة ) فإنهم إذا نكلوا عن اليمين يحبسون حتى يقروا أو يحلفوا




الخدمات العلمية