الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال ( وإذا كان الصبي في يد رجل فقال : هو ابن عبدي [ ص: 306 ] فلان الغائب ثم قال : هو ابني لم يكن ابنه أبدا وإن جحد العبد أن يكون ابنه ) وهذا عند أبي حنيفة ( وقالا : إذا جحد العبد فهو ابن المولى ) وعلى هذا الخلاف إذا قال : هو ابن فلان ولد على فراشه ثم ادعاه لنفسه . لهما أن الإقرار ارتد برد العبد فصار كأن لم يكن الإقرار ، والإقرار بالنسب يرتد بالرد وإن كان لا يحتمل النقض ; ألا يرى أنه يعمل فيه الإكراه والهزل [ ص: 307 ] فصار كما إذا أقر المشتري على البائع بإعتاق المشترى فكذبه البائع ثم قال أنا أعتقته يتحول الولاء إليه ، بخلاف ما إذا صدقه لأنه يدعي بعد ذلك نسبا ثابتا من الغير ، وبخلاف ما إذا لم يصدقه ولم يكذبه لأنه تعلق به حق المقر له على اعتبار تصديقه فيصير كولد الملاعنة فإنه لا يثبت نسبه من غير الملاعن ; لأن له أن يكذب نفسه .

ولأبي حنيفة أن النسب مما لا يحتمل النقض بعد ثبوته والإقرار بمثله لا يرتد بالرد فبقي فتمتنع دعوته ، كمن شهد على رجل بنسب صغير فردت شهادته لتهمة ثم ادعاه لنفسه ، وهذا لأنه تعلق به حق المقر له على اعتبار تصديقه ، حتى لو صدقه بعد التكذيب يثبت النسب منه ، [ ص: 308 ] وكذا تعلق به حق الولد فلا يرتد برد المقر له . ومسألة الولاء على هذا الخلاف ، ولو سلم فالولاء قد يبطل باعتراض الأقوى كجر الولاء من جانب الأم إلى قوم الأب .

وقد اعترض على الولاء الموقوف ما هو أقوى وهو دعوى المشتري فيبطل به ، بخلاف النسب على ما مر . [ ص: 309 ] وهذا يصلح مخرجا على أصله فيمن يبيع الولد ويخاف عليه الدعوة بعد ذلك فيقطع دعواه إقراره بالنسب لغيره .

التالي السابق


( قال ) أي محمد في الجامع الصغير : ( وإذا كان الصبي في يد رجل قال ) أي ذلك الرجل ( هو ) أي الصبي ( ابن عبدي [ ص: 306 ] فلان الغائب ثم قال : هو ابني لم يكن ابنه ) أي لم يكن ذلك الصبي ابن ذلك الرجل ( أبدا ) قال صاحب النهاية ومعراج الدراية : يعني سواء صدقه العبد الغائب أو كذبه أو لم يعرف منه تصديق ولا تكذيب . وقال تاج الشريعة : يعني وإن جحد العبد أن يكون هو ابنه . أقول : لا يخفى على الفطن أنه يلزم على هذا المعنى استدراك قول المصنف ( وإن جحد العبد أن يكون ابنه ) سيما على ما قاله تاج الشريعة ، اللهم إلا أن يحمل على التأكيد تقريرا لكون المعنى هذا لكن فيه ما فيه ، وقد أشار صاحب العناية إلى كون المعنى لم يكن ابنه أبدا : أي في وقت من الأوقات لا حالا ولا مستقبلا حيث قال في تقرير المسألتين : وإذا كان الصبي في يد رجل أقر أنه ابن عبده فلان أو ابن فلان الغائب ولد على فراشه ثم ادعاه لنفسه لم تصح دعوته في وقت من الأوقات لا حالا ولا مستقبلا انتهى .

أقول : الحق أن المراد هاهنا هذا المعنى لوجوه : أحدها اندفاع الاستدراك المذكور به وهو ظاهر . وثانيها أن الأبد على هذا المعنى يكون على أصل معناه وهو عموم الأوقات وعلى المعنى الأول يصير مصروفا عنه إلى عموم الأحوال كما ترى . وثالثها أنه يظهر حينئذ فائدة تقييد فلان بالغائب في وضع مسألتنا دون المعنى الأول فإن المقر له الحاضر والغائب سيان بالنظر إلى الأحوال المذكورة في المعنى الأول : أعني التصديق والتكذيب والسكوت عنهما ، إذ يتصور من كل واحد منهما كل واحد من تلك الأحوال في وقت ما فلا فائدة في التقييد بالغائب على إرادة عموم الأحوال .

وأما بالنظر إلى الأوقات المذكورة في هذا المعنى : أعني الحال والأوقات المستقبلة فهما : أي المقر له الحاضر والغائب متفاوتان حيث لا يتصور الجحود من الغائب في حال لعدم علمه فيها ما أقر به المقر ، ويتصور ذلك منه في الاستقبال بأن يعلمه بعد أن يحضر ، بخلاف الحاضر فإنه يتصور منه الجحود في الحال والاستقبال بلا فرق بينهما ، فاحتمل في حق الغائب اختصاص الحكم بعدم كون الصبي ابن المقر بوقت لا يتصور فيه الجحود من المقر له وهو الحال ولم يحتمل ذلك في حق الحاضر ، فلو أطلق فلانا ولم يقيد بالغائب على إرادة عموم الأوقات لتبادر إلى الفهم كون الحكم المذكور عند كون المقر له حاضرا فقط ، ولما قيدنا بالغائب علم ثبوت الحكم المذكور عند كون المقر له غائبا عبارة ، وثبوته عند كونه حاضرا أيضا دلالة ; فظهر فائدة التقييد بالغائب على هذا المعنى .

ثم اعلم أنه لا يشترط لهذا الحكم أن يكون الصبي في يده ، وذكره في الكتاب وقع اتفاقا نص عليه الإمام الزيلعي في التبيين ( وهذا عند أبي حنيفة ) أي حكم المسألة المذكورة على إطلاقه إنما هو عند أبي حنيفة رحمه الله . وفي المبسوط لكن يعتق عليه وإن لم يثبت نسبه من المولى ، كذا في النهاية ومعراج الدراية ( وقالا : إذا جحد العبد فهو ) أي الصبي ( ابن المولى ) يعني ادعى المولى لنفسه بعد جحود العبد نسبة كذا في النهاية .

قال المصنف : ( وعلى هذا الخلاف إذا قال ) أي إذا قال الذي في يده الصبي : ( هو ابن فلان ولد على فراشه ثم ادعاه لنفسه ) هذه من مسائل المبسوط ذكرها المصنف تفريعا ، كذا في غاية البيان ( لهما أن الإقرار ) أي الإقرار بالنسب وهو قوله هو ابن عبدي فلان الغائب ( ارتد برد العبد فصار كأن لم يكن الإقرار ) أي فصار كأنه لم يقر لأحد وادعاه لنفسه ( والإقرار بالنسب يرتد بالرد وإن كان لا يحتمل النقض ) أي وإن كان النسب لا يحتمل النقض ( ألا يرى أنه ) أي الإقرار بالنسب ( يعمل فيه الإكراه والهزل ) حتى لو أكره ببنوة عبد فأقر بها لا يثبت النسب ، وكذا لو [ ص: 307 ] أقر بها هازلا ( فصار ) أي فصار حكم هذه المسألة ( كما إذا أقر المشتري على البائع بإعتاق المشترى ) بفتح الراء ( فكذبه البائع ثم قال ) أي المشتري : ( أنا أعتقته يتحول الولاء إليه ) أي فإنه يتحول الولاء إلى المشتري وصار كأنه لم يقر أصلا ( بخلاف ما إذا صدقه ) أي بخلاف ما إذا صدق المقر له المقر في مسألتنا حيث لا يصح فيه دعوة المولى بالاتفاق ( لأنه ) أي المقر ( يدعي بعد ذلك ) أي بعد تصديق المقر له إياه ( نسبا ثابتا من الغير ) وهو لا يصح ( وبخلاف ما إذا لم يصدقه ولم يكذبه ) بل سكت عن التصديق والتكذيب حيث لا يصح فيه أيضا دعوة المولى بالاتفاق ( لأنه تعلق به ) أي بالصبي ( حق المقر له على اعتبار تصديقه ) أي على اعتبار احتمال تصديقه ( فيصير كولد الملاعنة ، فإنه لا يثبت نسبه من غير الملاعن لأن له أن يكذب نفسه ) يعني أن الاحتمال جانب التصديق تأثيرا فيما نحن فيه .

كما أن الاحتمال جانب التكذيب تأثيرا في ولد الملاعنة ( ولأبي حنيفة أن النسب مما لا يحتمل النقض بعد ثبوته ) وهذا بالاتفاق ( والإقرار بمثله ) أي بمثل ما لا يحتمل النقض بعد ثبوته ( لا يرتد بالرد ) يعني وما كان كذلك فالإقرار به لا يرتد بالرد : أي لا يبطل بالتكذيب ، كمن أقر به بحرية عبد إنسان وكذبه المولى لا يبطل إقراره ، حتى لو اشتراه بعد ذلك يعتق عليه كما ذكره الإمام قاضي خان وذكر في الشروح ( فبقي ) أي فبقي الإقرار في حق المقر وإن لم يثبت في حق المقر له ، كذا في الكفاية وشرح تاج الشريعة ( فتمتنع دعوته ) أي فتمتنع دعوة المقر بعد الرد أيضا ( كمن شهد على رجل بنسب صغير فردت شهادته لتهمة ) كالعتق والقرابة ( ثم ادعاه ) أي ثم ادعاه الشاهد ( لنفسه ) حيث لا تصح دعوته .

واعلم أن الإمام فخر الإسلام ذكر هذه المسألة في شرح الجامع الصغير على هذا المنوال حيث قال : وكذلك من شهد على رجل بنسب صغير فردت شهادته بعذر ثم ادعاه الشاهد لم تصح انتهى .

فاقتفى المصنف أثره فأوردها هاهنا كذلك . وأما شيخ الإسلام علاء الدين الإسبيجابي فقد ذكر أنها أيضا على هذا الخلاف حيث قال في شرح الكافي للحاكم الشهيد : وعلى هذا الخلاف إذا شهد أنه ابن فلان فلم تقبل هذه الشهادة ثم ادعاه لنفسه لا تقبل عند أبي حنيفة خلافا لهما انتهى ( وهذا ) إشارة إلى قوله والإقرار بمثله لا يرتد بالرد ( لأنه متعلق به ) أي بالنسب ( حق المقر له على اعتبار تصديقه ، حتى لو صدقه بعد التكذيب يثبت النسب منه ) أي من المقر له ، [ ص: 308 ] ولما جاز أن يثبت النسب منه بعد التكذيب بقي له حق الدعوة ومع بقاء حقه لا تصح دعوة المقر كما إذا لم يصدقه ولم يكذبه ، ( وكذا تعلق به حق الولد ) من جهة احتياجه إلى النسب ( فلا يرتد برد المقر له ) لتعلق حقه وحق الولد .

هكذا ينبغي أن يشرح هذا المقام ، ولا يلتفت إلى ما في العناية وغيرها ما لا يساعده تقرير المصنف ولا يطابقه تحريره كما لا يخفى على ذي فطرة سليمة ( ومسألة الولاء على هذا الخلاف ) إشارة إلى الجواب عن استشهادهما بمسألة الولاء بأنها أيضا على هذا الخلاف فلا تنتهض شاهدة لما قالاه وحجة على ما قاله ( ولو سلم ) أي ولو سلم كون مسألة الولاء على الاتفاق ( فالولاء قد يبطل باعتراض الأقوى كجر الولاء من جانب الأم إلى قوم الأب ) .

صورته : معتقة تزوجت بعبد وولدت منه أولادا فجنى الأولاد كان عقل جنايتهم على موالي الأم لأن الأب ليس من أهل الولاء فكان الولد ملحقا بقوم الأم ، فإن أعتق العبد جر ولاء الأولاد إلى نفسه ، كذا روي عن عمر رضي الله عنه ، ذكره قاضي خان ، كذا في النهاية ومعراج الدراية ( وقد اعترض على الولاء الموقوف ) وهو الولاء من جانب البائع ، وإنما سماه موقوفا لأنه على عرضية التصديق بعد التكذيب ، كذا في النهاية وغيرها ( ما هو أقوى وهو دعوى المشتري ) لأن الملك له قائم في الحال فكان دعوى الولاء مصادفا لمحله لوجود شرطه وهو قيام الملك ، كذا في العناية وأكثر الشراح . وقال بعض الفضلاء : فيه بحث ; لأنه كيف يقوم الملك وهو مقر بأنه معتق . قال في الكافي : إن المشترى إذا أقر أن البائع كان أعتق ما باعه وكذبه البائع فإنه لا يبطل ذلك ولكنه يعتق عن المقر انتهى .

ولا يخفى دلالته على ما قلناه إلى هنا كلام ذلك البعض . أقول : بحثه ظاهر السقوط ; لأن المشتري إنما أقر أولا بأن ما اشتراه معتق البائع لا بأنه معتق نفسه وقد كذبه البائع ، وهذا لا ينافي قيام الملك له في الحال : أي في حال الإعتاق لنفسه ثانيا ، وإنما لا يقوم الملك له في الحال لو كان أقر ابتداء بأنه معتق نفسه ، أو كان أقر بأنه معتق البائع وصدقه البائع وليس فليس .

وأما ما ذكره في الكافي فعلى تقدير تمامه يجوز أن يكون مبنيا على كون مسألة الولاء أيضا على هذا الخلاف كما ذكره المصنف أولا حيث قال : ومسألة الولاء على هذا الخلاف . ولا يخفى أن مبني الكلام هاهنا على تسليم كون بطلان الإقرار وتحول الولاء في مسألة الولاء متفقا عليه كما يفصح عنه قول المصنف ولو سلم إلخ ، وحينئذ لا شك في قيام الملك للمشتري إلى حال دعوى الإعتاق لنفسه فلا وجه لاشتباه المقام وخلط الكلام ( فبطل به ) أي بطل الولاء الموقوف باعتراض ما هو الأقوى الذي هو دعوى المشتري ( بخلاف النسب ) يعني أنه لا يبطل باعتراض شيء أصلا ( على ما مر ) وهذا إشارة إلى قوله : إن النسب بما لا يحتمل النقض بعد ثبوته ، وعليه أخذ أكثر الشراح . قال في الكافي : بخلاف النسب كما مر في ولد الملاعنة فإنه لا يثبت نسبه من غير الملاعن لاحتمال ثبوته من الملاعن انتهى .

[ ص: 309 ] وحمل عليه صاحب الكفاية مراد المصنف أيضا . والحاصل أن النسب ألزم من الولاء ، فإن الولاء يقبل البطلان في الجملة والنسب لا يقبله أصلا فلا يصح قياس النسب على الولاء ( وهذا ) أي إقرار البائع بنسب ما باعه لغيره ( يصلح مخرجا ) أي حيلة ( على أصله ) أي على أصل أبي حنيفة ( فيمن يبيع الولد ويخاف عليه ) أي يخاف المشتري على الولد ( الدعوة بعد ذلك ) من البائع ( فيقطع دعواه ) أي فإنه يقطع دعوى البائع ( بإقراره بالنسب لغيره ) قال الإمام المحبوبي : صورته رجل في يده صبي ولد في ملكه وهو يبيعه ولا يأمن المشتري أن يدعيه البائع يوما فينتقض البيع فيقر البائع بكون الصبي ابن عبده الغائب حتى يأمن المشتري من انتقاض البيع بالدعوى عند أبي حنيفة فإن هذا يكون حيلة عنده .

وفي الفوائد الظهيرية : الحيلة في هذه المسألة على قول الكل أن يقر البائع أن هذا ابن عبده الميت حتى لا يتأتى فيه تكذيب فيكون مخرجا عن قول الكل ، كذا في النهاية .




الخدمات العلمية