الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وفي الجامع الصغير : وإذا حبلت الجارية في ملك رجل فباعها فولدت في يد المشتري فادعى البائع الولد وقد أعتق المشتري الأم فهو ابنه يرد عليه بحصته من الثمن . ولو كان المشتري إنما أعتق الولد فدعواه باطلة .

ووجه الفرق أن الأصل في هذا الباب الولد ، والأم تابعة له على ما مر . وفي الفصل الأول قام المانع من الدعوة والاستيلاد وهو العتق في التبع وهو الأم فلا يمتنع ثبوته في الأصل وهو الولد ، [ ص: 298 ] وليس من ضروراته . كما في ولد المغرور فإنه حر وأمه أمة لمولاها ، وكما في المستولدة بالنكاح . وفي الفصل الثاني قام المانع بالأصل وهو الولد فيمتنع ثبوته فيه وفي التبع ، وإنما كان الإعتاق مانعا [ ص: 299 ] لأنه لا يحتمل النقض كحق استلحاق النسب وحق الاستيلاد فاستويا من هذا الوجه ، [ ص: 300 ] ثم الثابت من المشتري حقيقة الإعتاق والثابت في الأم حق الحرية ، وفي الولد للبائع حق الدعوة والحق لا يعارض الحقيقة ، [ ص: 301 ] والتدبير بمنزلة الإعتاق لأنه لا يحتمل النقض وقد ثبت به بعض آثار الحرية . وقوله في الفصل الأول يرد عليه بحصته من الثمن قولهما وعنده يرد بكل الثمن هو الصحيح كما ذكرنا في فصل الموت .

التالي السابق


( وفي الجامع الصغير ) ذكر رواية الجامع الصغير إعلاما بأن حكم الإعتاق فيما نحن فيه حكم الموت . ( وإذا حبلت الجارية في ملك رجل فباعها فولدت في يد المشتري فادعى البائع الولد وقد أعتق المشتري الأم فهو ابنه ) أي فالولد ابن البائع ( يرد عليه بحصته من الثمن ) أي يرد على البائع بحصة الولد من الثمن الذي كان نقده البائع فيقسم الثمن على قيمة الأم يوم العقد وعلى قيمة الولد يوم الولادة ، فما أصاب الأم يلزم المشتري ، وما أصاب الولد سقط عنه ، ولا تصير الجارية أم ولد للبائع لأنه ثبت فيها للمشتري ما لا يحتمل الإبطال وهو الولاء ، كذا في الشروح وسائر المعتبرات ( ولو كان المشتري إنما أعتق الولد فدعوته ) أي دعوة البائع ( باطلة ) أي إذا لم يصدقه المشتري في دعواه ، كذا في الشروح ( ووجه الفرق ) إنما ذكره استظهارا ، إذ قد كان معلوما من مسألة الموت ( أن الأصل في هذا الباب الولد ) قال صاحب النهاية : أي الأصل في باب ثبوت حق العتق للأم بطريق الاستيلاد وهو ثبوت حقيقة العتق للولد بالنسب ، وقد اقتفى أثره في هذا التفسير صاحب معراج الدراية وصاحب العناية .

أقول : لا يخفى ما فيه من الركاكة من جهة اللفظ والمعنى ، فالأوجه في التفسير أن يقال : أي الأصل في باب الدعوة والاستيلاد هو الولد ( والأم تابعة له على ما مر ) في مسألة الموت آنفا ( وفي الفصل الأول ) وهو ما إذا ادعى البائع الولد وقد أعتق المشتري الأم ، وفي بعض النسخ : وفي الوجه الأول ( قام المانع من الدعوة والاستيلاد وهو ) أي المانع منهما ( العتق في التبع وهو الأم فلا يمتنع ثبوته ) أي ثبوت ما ذكره من الدعوة والاستيلاد ( في الأصل وهو الولد ) لأن امتناع الحكم في التبع لا يوجب [ ص: 298 ] امتناعه في الأصل فإن قيل : إذا لم يمنع ثبوت الدعوة والاستيلاد للبائع في الولد ثبت نسب الولد من البائع لكون العلوق في ملكه بيقين ; لأن الكلام فيما إذا حبلت الجارية في ملك البائع ، ومن حكم ثبوت نسب الولد صيرورة أمه أم ولد للبائع فينبغي أن يبطل البيع وإعتاق المشتري .

أجاب بقوله : ( وليس من ضروراته ) أي وليس ثبوت الاستيلاد في حق الأم من ضرورات ثبوت نسب الولد وحريته : يعني أن ذلك وإن كان من أحكامه إلا أنه ليس من ضروراته بحيث لا ينفصل عنه لجواز انفكاكه عنه ( كما في ولد المغرور ) وهو ولد من يطأ امرأة معتمدا على ملك يمين أو نكاح فتلد منه ثم تستحق ، كذا ذكره المصنف فيما سيجيء في آخر هذا الباب ( فإنه ) أي ولد المغرور ( حر ) أي حر الأصل ثابت النسب من المستولد ( وأمه أمة لمولاها ) فلا تصير أم ولد للمستولد بل تكون رقيقة حتى تباع في السوق ( وكما في المستولدة بالنكاح ) يعني إذا تزوج جارية الغير فولدت له يثبت نسب الولد ولا تثبت أمية الولد ، كذا في غاية البيان ، ويطابقه ما ذكره صاحب الكافي حيث قال : وكما في المستولدة بالنكاح فإنه إذا استولد أمة الغير بنكاح يثبت نسبه ولا تصير الأمة أم ولده انتهى .

وكذا ما ذكره صاحب البدائع حيث قال : كمن استولد جارية الغير بالنكاح يثبت نسب الولد منه ، ولا تصير الجارية أم ولد له للحال إلا أن يملكها بوجه من الوجوه ا هـ . قال صاحب النهاية والعناية في شرح قول المصنف : وكما في المستولدة بالنكاح بأن تزوج امرأة على أنها حرة فولدت فإذا هي أمة انتهى . أقول : هذا المعنى هاهنا غير صحيح ; لأن الصورة التي ذكراها قسم من قسمي ولد المغرور كما سيظهر مما ذكره المصنف في آخر هذا الباب ونبهت عليه فيما مر آنفا ، فلا وجه لأن يذكرها المصنف في مقابلة ولد المغرور كما لا يخفى . فإن قلت : إن صاحبي النهاية والعناية فسرا ولد المغرور في قول المصنف كما في ولد المغرور بقولهما : وهو ما إذا اشترى رجل أمة من رجل يزعم أنها ملكه فاستولدها ثم استحقت انتهى . فحينئذ يكون المراد بولد المغرور في كلام المصنف أحد قسميه ، وهو ما حصل بالاعتماد على ملك اليمين ، وبالمذكور في مقابلته قسمة الآخر وهو ما حصل بالاعتماد على ملك النكاح فلا محذور . قلت : ذلك التفسير منهما تقصير آخر ، فإنه مع كونه تقييدا للكلام المطلق بلا مقتض له مؤد إلى تقليل الأمثلة في مقام يطلب فيه التكثير فلا يندفع به المحذور بل يتأكد ( وفي الفصل الثاني ) وهو ما إذا أعتق المشتري الولد ثم ادعاه البائع ( قام المانع بالأصل وهو الولد فيمتنع ثبوته ) أي ثبوت ما ذكر من الدعوة والاستيلاد ( فيه ) أي في الأصل ( وفي التبع ) لأن امتناع الحكم في الأصل يوجب امتناعه في التبع أيضا ( وإنما كان الإعتاق مانعا ) . قال متقدمو الشراح : أي وإنما كان إعتاق [ ص: 299 ] المشتري الولد مانعا لدعوة البائع إياه . وقال صاحب العناية أخذا منهم : قوله : وإنما كان الإعتاق مانعا بيانا لمانعية عتق الولد عن ثبوت النسب بدعوة البائع انتهى . أقول : بل هذا بيان لمانعية عتق الأم عن ثبوت الاستيلاد في حقها بدعوة البائع ، ولمانعية عتق الولد عن ثبوت النسب في حقه بدعوة البائع أيضا .

والمعنى : إنما كان إعتاق المشتري الأم والولد مانعا من دعوة الاستيلاد ، وأما دعوة النسب فيشمل الفصلين معه ، كما ينادي عليه عبارات المصنف في أثناء البيان على ما ترى ، وفيما ذهب إليه الشراح تخصيص البيان بالفصل الثاني وهو تقصير في حق المقام وشرح الكلام ( لأنه ) أي لأن الإعتاق ( لا يحتمل النقض كحق استلحاق الولد وحق الاستيلاد ) يعني أن الإعتاق من المشتري كحق استلحاق النسب من البائع في الولد وحق الاستيلاد من البائع في الأم في أن كل واحد منهما لا يحتمل النقض ( فاستويا ) أي استوى إعتاق المشتري وحق البائع استلحاقا واستيلادا ( من هذا الوجه ) أي من حيث إنهما لا يحتملان النقض فليس لفعل أحدهما ترجيح على فعل الآخر من هذا الوجه .

قال صاحب العناية : ورد بما إذا باع جارية حبلى فولدت ولدين في بطن واحد لأقل من ستة أشهر فأعتق المشتري أحدهما ثم ادعى البائع الولد الآخر صحت دعوته فيهما جميعا حتى يبطل عتق المشتري وذلك نقض للعتق كما ترى .

وأجيب بأن التوأمين في حكم ولد واحد ، فمن ضرورة ثبوت نسب واحد منهما والحكم بصيرورته حر الأصل ثبوت النسب للآخر . ولقائل أن يقول : إذا كان كذلك وقد ثبت العتق في أحدهما فمن ضرورة ثبوت العتق في أحدهما ثبوته في الآخر وإلا لزم ترجيح الدعوة على العتق وهو المطلوب والفرض خلافه . ويمكن أن يجاب عنه بأنه إن ثبت العتق في الآخر لزمه ضمان قيمته وفي ذلك ضرر زائد انتهى . أقول : السؤال الأول وجوابه مما ذكره بعض الشراح أيضا ولهما وجه وجيه . وأما السؤال الثاني وجوابه فمن مخترعاته وليس بشيء .

أما السؤال فلأن مراد المجيب عن السؤال الأول أن التوأمين في حكم ولد واحد في باب النسب بناء على أن مدار النسب على العلوق وعلوقهما واحد لكونهما من ماء واحد ، فمن ضرورة ثبوت نسب أحدهما ثبوت نسب الآخر ، وليس مراده أنهما في حكم ولد واحد في جميع الأحوال حتى يتوجه السؤال ، كيف ومدار العتق على الرقبة ، ولا شك أن رقبتيهما متغايرتان فما يترتب على إحداهما لا يلزم أن يترتب على الأخرى كما لا يخفى . وأما الجواب فلأنه إن أراد أنه إن ثبت العتق في الآخر لزم الآخر ضمان قيمته ، كما إذا أعتق المولى بعض عبده على قول أبي حنيفة حيث يلزم العبد عنده ضمان قيمة بعضه الآخر : أي السعاية في بقية قيمته لمولاه فلا نسلم أن في ذلك ضررا زائدا ، إذ الضمان في مقابلة العتق لا يعد ضررا أصلا ، ولو سلم ذلك فيعارض [ ص: 300 ] بالنسب أيضا قطعا ، فإنه إذا ثبت النسب في الآخر لزم البائع ضمان قيمته : أي رد حصته من الثمن على المشتري فيلزم أن يتحقق هناك أيضا ضرر زائد .

وإن أراد أنه يثبت العتق في الآخر لزم المشتري ضمان قيمته : أي إتلاف قيمته فيعارض بالنسب أيضا قطعا ، فإنه إذا ثبت النسب في الآخر لزم البائع ضمان حصته من الثمن كما يلزم المشتري على تقدير ثبوت العتق في الآخر ضمان قيمته فيلزم أن يتحقق هناك أيضا ضرر زائد فلا يتصور الترجيح في صورة التوأمين أيضا والفرض خلافه . ثم أقول : بدل السؤال الثاني وجوابه : ولقائل أن يقول : إذا كان الحكم في التوأمين كذا كان عتق المشتري مما يحتمل النقض وهو المطلوب والفرض خلافه . ويمكن أن يجاب عنه بأن مرادنا من قولنا : العتق لا يحتمل النقض أنه لا يحتمله قصدا واللازم في مسألة التوأمين احتماله النقض ضمنا ، وكم من شيء لا يثبت قصدا ويثبت ضمنا ، وسيجيء في الكتاب هذا الفرق بين المسألتين . ثم إن صاحب العناية قال بعدما سبق من سؤاله الثاني وجوابه : فإن عورض بأن البائع إذا ادعى النسب في الذي عنده كان ذلك سعيا في نقض ما تم من جهته .

أجيب بأنه غير مقصود فلا معتبر به انتهى .

أقول : فيعارض بأن الضرر الزائد الذي يلزم على تقدير ثبوت العتق في الآخر غير مقصود أيضا فلا معتبر به أيضا فلا يخلو الجواب عن معارضة ما ( ثم الثابت من المشتري حقيقة الإعتاق ) يريد بيان رجحان ما في جانب المشتري بأن الثابت من المشتري حقيقة الإعتاق ( والثابت في الأم حق الحرية ، وفي الولد للبائع حق الدعوة والحق لا يعارض الحقيقة ) لأن الحقيقة أقوى من الحق . قال صاحب العناية : ونوقض بالمالك القديم مع المشتري من العدو ، فإن المالك القديم يأخذه بالقيمة وإن كان له حق الملك وللمشتري حقيقته . وأجيب بأنه ليس بترجيح بل هو جمع بينهما ، وفيه نظر لأن الفرض أن الحقيقة أولى فالجمع بينهما تسوية بين الراجح والمرجوح . ويمكن أن يجاب عنه بأن هذه الحقيقة فيها شبهة لأن مبناها على تملك أهل الحرب ما استولوا عليه من أموالنا بدراهم وهو مجتهد فيه فانحطت عن درجة الحقائق ، فقلنا : يأخذه بالقيمة جمعا بينهما انتهى .

أقول : النقض مع جوابه ما ذكره الشارح وتاج الشريعة ولهما وجه صحيح . وأما النظر مع جوابه فمن عند نفسه وليسا بصحيحين ، أما النظر فلأنا لا نسلم أن مجرد الجمع بينهما تسوية بين الراجح والمرجوح ، ألا يرى أنا نجمع بين الفرائض والواجبات والمستحبات في العمل مع تقرر بقاء رجحان البعض على البعض بحاله . وإنما يظهر أثر الرجحان عند تعارض الراجح والمرجوح بأن لا يمكن العمل بهما والجمع بينهما كما لا يخفى .

وأما الجواب فلأن المجتهد بخلافنا في مسألة تملك أهل الحرب ما استولوا عليه من أموالنا بدراهم هو الشافعي وهو متأخر الزمان عن اجتهاد أئمتنا فكيف يوقع اجتهاده شبهة فيما اجتهدوا فيه حتى تنحط بها هذه الحقيقة من درجة الحقائق عند [ ص: 301 ] أئمتنا فيصح بناء الجواب عليه ( والتدبير بمنزلة الإعتاق ) أي في الحكم المذكور ، وكذا الاستيلاد بمنزلته في ذلك الحكم على ما صرح به صاحبا النهاية ومعراج الدراية في صدر مسألتنا هذه نقلا عن الإمام التمرتاشي ( لأنه لا يحتمل النقض وقد ثبت به بعض آثار الحرية ) وهو عدم جواز النقل من ملك إلى ملك ( وقوله في الفصل الأول يرد عليه بحصته من الثمن قولهما ) يعني أن ما ذكر في الجامع الصغير من قوله : وقد أعتق المشتري الأم فهو ابنه يرد عليه بحصته من الثمن وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله ( وعنده ) أي عند أبي حنيفة ( يرد بكل الثمن هو الصحيح كما ذكرنا في فصل الموت ) قوله هو الصحيح احتراز عما ذكره شمس الأئمة في المبسوط والإمام قاضي خان والإمام المحبوبي في الجامع الصغير أنه يرد بما يخص الولد من الثمن لا بكل الثمن عند أبي حنيفة أيضا . بخلاف فصل الموت .

وذكرنا الفرق بينهما بأن في الإعتاق كذب القاضي البائع فيما زعم أنها أم ولده حين جعلها معتقة المشتري أو مدبرته فلم يبق لزعمه عبرة . وأما في فصل الموت فبموتها لم يجد الحكم بخلاف ما زعم البائع فبقي زعمه معتبرا في حقه فرد جميع الثمن . ثم اعلم أن الذي اختاره المصنف وصححه هو ما ذكره شمس الأئمة في الجامع الصغير بناء على أن أم الولد لا قيمة لها ، ولكن قالوا : إنه مخالف لرواية الأصول ، وكيف يسترد كل الثمن والبيع لم يبطل في الجارية ولهذا لم يبطل إعتاق المشتري . فإن قيل : ينبغي أن لا يكون للولد حصة من الثمن لحدوثه بعد قبض المشتري ولا حصة للولد الحادث بعد القبض . قلنا : الولد إنما حدث بعد القبض من حيث الصورة ، وأما من حيث المعنى فهو حادث قبل القبض لثبوت علوقه في ملك البائع ولهذا كان للبائع سبيل من فسخ هذا البيع بالدعوة وإن قبضه المشتري ، وما هو كذلك فله حصة من الثمن إذا استهلكه البائع وقد استهلكه هاهنا بالدعوة ، كذا في الشروح .




الخدمات العلمية