الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 66 ] ( فصل في التوكيل بشراء نفس العبد ) [ ص: 67 ] قال ( وإذا قال العبد لرجل : اشتر لي نفسي من المولى بألف ودفعها إليه ، فإن قال الرجل للمولى : اشتريته لنفسه فباعه على هذا فهو حر والولاء للمولى ) ; لأن بيع نفس العبد منه إعتاق وشراء العبد نفسه قبول الإعتاق ببدل والمأمور سفير عنه إذ لا يرجع عليه الحقوق فصار كأنه اشترى بنفسه ، وإذا كان إعتاقا أعقب الولاء ( وإن لم يعين للمولى فهو عبد للمشتري ) [ ص: 68 ] لأن اللفظ حقيقة للمعاوضة وأمكن العمل بها إذا لم يعين فيحافظ عليها . بخلاف شراء العبد نفسه ; لأن المجاز فيه متعين ، وإذا كان معاوضة يثبت الملك له ( والألف للمولى ) ; لأنه كسب عبده ( وعلى المشتري ألف مثله ) ثمنا للعبد فإنه في ذمته حيث لم يصح الأداء ، بخلاف الوكيل بشراء العبد من غيره حيث لا يشترط بيانه ; لأن العقدين هناك على نمط واحد ، وفي الحالين المطالبة تتوجه نحو العاقد ، أما هاهنا فأحدهما إعتاق معقب للولاء ولا مطالبة على الوكيل والمولى عساه لا يرضاه ويرغب في المعارضة المحضة فلا بد من البيان

التالي السابق


( فصل في التوكيل بشراء نفس العبد )

لما كان شراء العبد نفسه من مولاه إعتاقا على مال لم يكن من مسائل فصل التوكيل بالشراء لكنه شراء صورة فناسب أن يذكر في فصل على حدة ، كذا في العناية وكثير من الشروح . واستشكله بعض الفضلاء بأن الكلام لا يتناول إلا للمسألة الأولى إن أريد الشراء وكالة ، وإلا فللثانية لا غير فيحتاج إلى أن يكون تقدير الكلام في قوله لم يكن من مسائل لم يكن التوكيل به من مسائل إلخ انتهى .

أقول : ليس هذا بشيء ، إذ المراد بالشراء ما هو عام للشراء وكالة وللشراء أصالة فيتناول الكلام المسألتين معا . وأما الاحتياج إلى أن يكون تقدير الكلام في قوله لم يكن التوكيل به من مسائل فصل التوكيل بالشراء فأمر ضروري على كل حال ; لأن المحذور أن لا يكون التوكيل به من مسائل فصل التوكيل بالشراء لا أن يكون نفس شراء العبد نفسه من مسائل ذلك ، إذ نفس الشراء مطلقا ليس من مسائل التوكيل بالشراء قطعا . ثم أقول في استشكال ما في الشروح : التوجيه الذي ذكروه لا يتناول المسألة الثانية ، بل إنما يتمشى في المسألة الأولى ; لأن شراء العبد نفسه من مولاه إنما يصير إعتاقا على مال أن لو كان شراؤه نفسه من مولاه لنفسه . وأما إذا كان لغيره فلا .

والتوكيل في المسألة الثانية إنما هو بشراء العبد نفسه من مولاه للموكل ، فإن وافق العبد أمر الآمر فشراؤه ليس بإعتاق على مال لا صورة ولا معنى بل هو شراء محض ، وإن خالف أمره فيكون شراؤه إعتاقا على مال ، ولا ينافي كون التوكيل في هاتيك المسألة من مسائل فصل التوكيل بالشراء ، إذ المسألة لا تتغير عن وضعها بمخالفة المأمور ; لأمر الآمر كما في كثير من مسائل هذا الفصل وغيره . وأما التوكيل في المسألة الأولى فإنما هو بشراء رجل نفس العبد الموكل من مولاه لذلك العبد ، فإذا وافق وكيله أمره فاشترى نفسه من مولاه له يصير ذلك الشراء إعتاقا على مال معني ، وإن كان شراء صورة فجرى التوجيه المذكور في هذه المسألة دون الأخرى فكان قاصرا . قال في النهاية ومعراج الدراية : ثم إن الألف واللام في قول المصنف في التوكيل بشراء نفس العبد بدل الإضافة وتلك الإضافة إضافة المصدر إلى الفاعل والفاعل [ ص: 67 ] هو العبد بالنظر إلى المسألة الأولى : أي توكيل العبد الأجنبي بشراء نفسه ، والأجنبي بالنظر إلى المسألة الثانية : أي توكيل الأجنبي العبد بشراء نفسه انتهى . وقال في العناية : والتوكيل بشراء نفس العبد من مولاه على وجهين : أن يوكل العبد رجلا ليشتريه من مولاه وهو المسألة الأولى ، وأن يوكل العبد رجل ليشتري نفسه من مولاه . فالعبد في الأول موكل ، وفي الثاني وكيل . وكلام المصنف يتناولهما بجعل الألف واللام بدلا من المضاف إليه ، وجعل المصدر مضافا إلى الفاعل أو المفعول ، وذكر أحدهما متروك مثل أن يقول في توكيل العبد رجلا أو في توكيل العبد رجل انتهى .

أقول : تناول قول المصنف فصل في التوكيل بشراء نفس العبد للمسألتين على كلا التقديرين إنما يكون على سبيل البدل وفي ذلك تعسف لا يخفى ، فالأوجه أن يقدر كل واحد من المضاف إليه والمتروك أمرا عاما ، مثل أن يقال : فصل في توكيل أحد آخر بشراء نفس العبد ليتناول عنوان هذا الفصل كل واحدة من المسألتين المذكورتين فيه على سبيل الشمول لا على سبيل البدل ( قال ) أي محمد في الجامع الصغير ( وإذا قال العبد لرجل اشتر لي نفسي من المولى ) أي من مولاي ( بألف ودفعها ) أي دفع العبد الألف ( إليه ) أي إلى الرجل الذي وكله ( فإن قال الرجل ) أي الوكيل ( للمولى اشتريته أي العبد لنفسه ) أي لنفس العبد ( فباعه على هذا ) أي فباع المولى ذلك العبد على هذا الوجه ( فهو حر ) أي فذلك العبد حر يعني صار حرا ( والولاء للمولى ) أي وولاء ذلك العبد للمولى ( لأن بيع نفس العبد منه ) أي من العبد ( إعتاق ) أي إعتاق على مال ، والإعتاق على المال يتوقف على وجود القبول من المعتق ، وقد وجد ذلك كما أشار إليه بقوله .

( وشراء العبد نفسه قبول الإعتاق ببدل والمأمور سفير عنه ) أي عن العبد حيث أضاف العقد إليه ( إذ لا يرجع إليه الحقوق ) أي لا يرجع إلى المأمور حقوق العقد ; لأنه متى أضاف العقد إلى العبد فقد جعل نفسه رسولا ، ولا عهدة على الرسول ، وإذا كان كذلك ( فصار كأنه ) أي العبد ( اشترى ) نفسه ( بنفسه ) أي بلا واسطة ( وإذا كان إعتاقا ) أي وإذا كان بيع نفس العبد من العبد إعتاقا لذلك العبد ( أعقب الولاء ) أي أعقب الولاء للمعتق فثبت أن العبد في هذه الصورة صار حرا وكان ولاؤه للمولى ( وإن لم يعين للمولى ) أي وإن لم يقل الوكيل اشتريت العبد لنفس العبد ( فهو عبد للمشتري ) يعني صار ملكا له [ ص: 68 ] لأن اللفظ ) أي ; لأن قوله اشتريت عبدك بكذا ( حقيقة للمعاوضة ) أي موضوع للمعاوضة دون الإعتاق ( وأمكن العمل بها ) يعني أن الحقيقة يجب العمل بها مهما أمكن وقد أمكن العمل بها ( إذا لم يبين ) أي إذا لم يعين فلم يقل اشتريت عبدك لأجل نفسه ( فيحافظ عليها ) أي فيحافظ اللفظ على الحقيقة . فإن قيل : لا نسلم أن العمل بالحقيقة ممكن هنا ; لأنه توكيل بشراء شيء بعينه فليس للوكيل أن يشتريه لنفسه . قلنا : قد أتى الوكيل هاهنا بجنس تصرف آخر ; لأن ما وكل به كان من جنس الإعتاق على مال ، وما أتى به إنما هو من جنس الشراء المحض فكان مخالفا للآمر فينفذ عليه .

وستجيء الإشارة من المصنف إلى نظير هذا في المسألة الثانية ( بخلاف شراء العبد نفسه ) حيث يجعل للإعتاق لتعذر العمل بالحقيقة ( لأن المجاز ) وهو كون الشراء مستعارا للإعتاق ( فيه ) أي في شراء العبد نفسه ( متعين ) ; لأن العبد ليس بأهل أن يملك مالا فصار شراؤه نفسه مجازا عن الإعتاق ، أو لأن نفس العبد ليست بمال في حقه حتى يملك نفسه ثم يعتق ; لأنه آدمي في حق نفسه حتى وجب الحد والقصاص عليه بإقراره ، والمال غير الآدمي خلق لمصالح الآدمي فلم يمكن العمل بالمعاوضة فجعل مجازا عن الإعتاق والمجوز معنى إزالة الملك فإن البيع يزيل الملك بعوض إلى آخر ، والإعتاق يزيله لا إلى آخر ( وإذا كان معاوضة ) يعني إذا كان العقد معاوضة فيما إذا لم يعين للمولى ( يثبت الملك له ) أي للمشتري ( والألف للمولى ) أي والألف التي دفعها العبد إلى المشتري حين أن وكله تكون للمولى ( لأنه كسب عبده وعلى المشتري ألف مثله ) أي مثل ذلك الألف ( ثمنا للعبد ) قوله ثمنا نصب على التمييز : أي من جهة أنه ثمن للعبد ( فإنه ) أي الثمن ( في ذمة ) أي في ذمة المشتري ( حيث لم يصح الأداء ) لأن المشتري أدى تلك الألف إلى المولى من كسب عبده وكسبه ملك المولى فلا يقع ثمنا .

قال في النهاية : وهذا ظاهر فيما إذا وقع الشراء للمشتري ، وأما إذا وقع الشراء للعبد نفسه حتى عتق هل يجب على العبد ألف أخرى ؟ قال الإمام قاضي خان : وفيما إذا بين الوكيل للمولى أنه يشتريه للعبد هل يجب على العبد ألف أخرى ؟ لم يذكر في الكتاب . وينبغي أن تجب ; لأن الأول مال المولى فلا يصلح بدلا عن ملكه انتهى .

وقال في العناية بعد نقل ذلك عن النهاية : قلت وفي كلام المصنف ما يشير إليه فإنه جعل شراء نفسه قبوله الإعتاق ببدل ، فلو لم يجب عليه ألف أخرى كان إعتاقا بلا بدل انتهى فتأمل .

( بخلاف الوكيل بشراء العبد من غيره ) أي من غير العبد بأن يوكل أجنبي أجنبيا بشراء العبد من مولاه ( حيث لا يشترط بيانه ) أي بيان الشراء : يعني لا يشترط على الوكيل أن يقول وقت الشراء اشتريته لموكلي في وقوع الشراء للموكل ( لأن العقدين ) يعني الذي يقع له والذي يقع للموكل ( هناك ) أي في تلك الصورة ( على نمط واحد ) أي على نوع واحد وهو المبايعة ، والنمط النوع والطريقة أيضا ( وفي الحالين ) أي حال الإضافة إلى نفسه وحال الإضافة إلى موكله ( المطالبة تتوجه نحو العاقد ) فلا يحتاج إلى البيان ( وأما هاهنا ) أي فيما نحن فيه ( فأحدهما ) أي أحد العقدين ( إعتاق معقب للولاء ولا مطالبة على الوكيل ) أي لا مطالبة في الإعتاق على الوكيل ; لأنه سفير ( والمولى عساه ) أي لعله ( لا يرضاه ) أي لا يرضى الإعتاق ; لأنه يعقب الولاء وموجب الجناية عليه حينئذ فربما يتضرر به ( ويرغب في المعاوضة المحضة ) أي والمولى عساه يرغب في المعاوضة المحضة ( فلا بد من البيان ) اعلم أن قول المصنف ولا مطالبة على الوكيل على رواية كتاب الوكالة في باب الوكالة بالعتق ، فإن [ ص: 69 ] محمدا رحمه الله ذكر فيه أن العبد يعتق والمال على العبد دون الوكيل . وذكر في باب وكالة المأذون والمكاتب من كتاب الوكالة أن العبد يعتق والمال على الوكيل ، وهكذا في وكالة الجامع الكبير .

وجه رواية الجامع أن توكله بشراء العبد للعبد كتوكله بشرائه لغيره ، وهناك يصير هو المطالب بتسليم الثمن فكذا هاهنا . وعن عيسى بن أبان قال : الصحيح أن الثمن على العبد ; لأن الوكيل من جانب العبد في العتق سفير ومعبر ، فإنه لا يستغنى عن إضافة العقد إلى الآمر ، وليس إليه من قبض المعقود عليه شيء فلا تتوجه عليه المطالبة بتسليم البدل ، ألا يرى أن المولى لو كان هو الذي أمر الرجل ببيع نفس العبد من العبد بألف درهم إلى العطاء فباعه الوكيل بهذه الصفة يجوز البيع والألف عليه إلى ذلك الأجل ، والذي يلي قبض الألف هو المولى دون الوكيل فكذا هاهنا ، كذا ذكره الإمام المحبوبي




الخدمات العلمية