الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال ( ومن أقر بدار واستثنى بناءها لنفسه فللمقر له الدار والبناء ) لأن البناء داخل في هذا الإقرار معنى لا لفظا ، والاستثناء تصرف في الملفوظ ، [ ص: 359 ] والفص في الخاتم والنخلة في البستان نظير البناء في الدار لأنه يدخل فيه تبعا لا لفظا ، [ ص: 360 ] بخلاف ما إذا قال إلا ثلثها أو إلا بيتا منها لأنه داخل فيه لفظا ( ولو قال بناء هذا الدار لي والعرصة لفلان فهو كما قال ) لأن العرصة عبارة عن البقعة دون البناء ، فكأنه قال بياض هذه الأرض دون البناء لفلان ، بخلاف ما إذا قال مكان العرصة أرضا حيث يكون البناء للمقر له لأن الإقرار بالأرض إقرار بالبناء كالإقرار بالدار .

التالي السابق


( قال ) أي القدوري في مختصره ( ومن أقر بدار واستثنى بناءها لنفسه ) بأن قال هذه الدار لفلان إلا بناءها ( فللمقر له الدار والبناء لأن البناء داخل في هذا الإقرار معنى ) أي تبعا ( لا لفظا ) أي لا مقصودا باللفظ ; لأن البناء وصف في الدار والوصف يدخل تبعا لا قصدا ، ولهذا لو استحق البناء قبل القبض في بيع الدار لا يسقط شيء من الثمن بمقابلته بل يتخير المشتري ( والاستثناء تصرف في الملفوظ ) يجعل الملفوظ عبارة عما وراء المستثنى ، فما لا يتناوله اسم الدار لا يتحقق فيه عمل الاستثناء ، كذا قالوا .

أقول : هذا وإن كان موافقا لما ذكره المصنف وغيره في كتاب الأيمان من أن الدار اسم للعرصة عند العرب والعجم والبناء وصف فيها إلا أنه مخالف لما ذكر في كتب اللغة ، فإنه قال في المغرب : الدار اسم جامع للبناء والعرصة . وقال في القاموس : الدار المحل الذي يجمع البناء والعرصة ، ولا يخفى أن الظاهر المتبادر من ذلك أن تكون الدار اسما لمجموع البناء [ ص: 359 ] والعرصة لا اسما للعرصة وحدها فتأمل . قال صدر الشريعة : فإن قلت : يشكل ما ذكر بما إذا قال لفلان علي ألف درهم إلا قفيز حنطة فإن الحنطة دخلت في الدراهم معنى لا لفظا حتى صح استثناؤه .

قلت : الدراهم تتناول الحنطة من حيث المعنى فيتناولها اللفظ من جهة المعنى فيصح الاستثناء ، ولا كذلك الدار فإنها ليست باسم للعرصة والبناء حتى يكون ذكر الدار ذكرا للبناء بطريق التناول قصدا ، بل الدار اسم للعرصة والبناء صفة له على ما ذكرنا ، والوصف يدخل تبعا لا قصدا فلا يصح استثناء الوصف فافترقا ، انتهى كلامه .

واقتفى أثره الشارح العيني . أقول : التعرض للفرق بين المسألتين مما لا بد منه جدا وقد أهمله أكثر الشراح ، ولكن المرتبة التي ذكرها الشارحان المزبوران لا تقطع الكلام هاهنا ، إذ لقائل أن يقول : إن أريد بتناول الدراهم الحنطة من حيث المعنى تناولها إياها من حيث المعنى الوضعي للفظ الدراهم فهو ممنوع جدا ، ألا يرى إلى ما مر في تلك المسألة من أن التحقيق أن عدم تناول الدراهم غيرها لفظا لا يرتاب فيه أحد ، وإنما الكلام في تناولها إياه حكما فقلنا بتناول ما كان على أخص أوصافها الذي هو الثمنية ، وإن أريد بذلك تناولها إياها من حيث الحكم فهو مسلم ولكن لا يجدي نفعا ، إذ المصنف مصرح هاهنا بأن الاستثناء تصرف في الملفوظ فتناول لفظ الدراهم الحنطة من جهة الحكم لا يكفي في صحة الاستثناء ، كيف ولو كفى تناول لفظ الدراهم الحنطة من حيث الحكم فقط في صحة استثناء الحنطة من الدراهم لكفى تناول اسم الدار البناء من حيث الحكم فقط أيضا في صحة استثناء البناء من الدار

فإن البناء داخل في حكم بيع الدار وفي حكم الإقرار بالدار ونحوهما حتى يملك المشتري والمقر له البناء أيضا فلا بد من زيادة إيضاح وتقرير فنقول : المراد بذلك هو التناول من حيث الحكم لكن قصدا لا تبعا ، والدراهم تتناول الحنطة باعتبار كونها على أخص أوصافها الذي هو الثمنية تناولا قصديا لا تبعيا ، فإن ما يتحقق فيه الثمنية كالدنانير والمكيل والموزون والعددي المتقارب من قبيل الذوات فيجوز أن يكون مقصودا من الدراهم لمشاركته إياها في أخص أوصافها وهو الثمنية وكونه باعتبار ذلك بمنزلة جنس واحد ، ولا كذلك الدار مع البناء فإن البناء وصف للدار فلا يدخل في حكمها إلا تبعا .

وبالجملة فرق بين ما يتناوله اللفظ حكما وبين ما يتبع متناوله في الحكم ، فإن الأول مدلول حكمي للفظ مقصود منه أصالة فيكون استثناؤه تصرفا في الملفوظ : أي في مدلول اللفظ حكما فيصح ، والثاني خارج عن مدلول اللفظ وضعا وحكما غير مقصود منه أصلا لكنه تابع لمدلوله في الحكم الثابت له فلا يكون استثناؤه تصرفا في الملفوظ فلا يصح . قال المصنف ( والفص في الخاتم والنخلة في البستان نظير البناء في الدار ) يعني لا يصح استثناء الفص في الإقرار بالخاتم ولا استثناء النخلة في الإقرار بالبستان ، كما لا يصح استثناء البناء في الإقرار بالدار ( لأنه ) أي لأن كل واحد من الفص والنخلة ( يدخل فيه ) أي يدخل في الصدر ( تبعا لا لفظا ) والاستثناء تصرف في الملفوظ كما مر .

قال بعض العلماء : قول المصنف هاهنا إن الفص يدخل تبعا لا لفظا ينافي قوله فيما مر أن اسم الخاتم يشمل الكل . أقول : يمكن أن يقال إن مراده بشمول اسم الخاتم الكل في قوله السابق أعم من الشمول القصدي والتبعي ، ومراده بنفي دخول الفص في الخاتم في قوله اللاحق نفي الدخول القصدي فلا منافاة بينهما . قال في البدائع : ولو أقر لإنسان بدار واستثنى بناءها لنفسه فالاستثناء باطل ; لأن اسم الدار لا يتناول البناء لغة بل وضع دلالة على العرصة في اللغة ، وإنما البناء فيها بمنزلة الصفة فلم يكن المستثنى من جنس المستثنى منه فلم يصح الاستثناء ويكون الدار مع البناء للمقر له لأنه وإن لم يكن اسما عاما لكنه يتناول هذه الأجزاء بطريق التضمين كمن أقر لغيره بخاتم كان له الحلقة والفص لا لأنه اسم عام ، بل هو اسم لمسمى واحد وهو المركب من الحلقة والفص ولكنه يتناوله بطريق التضمين ، انتهى كلامه .

أقول : فيه نظر ، أما أولا فلأن قوله لأن اسم الدار لا يتناول البناء لغة بل وضع دلالة على العرصة مما لا يساعده كتب اللغة ، ألا يرى إلى ما قال في المغرب : الدار اسم جامع للبناء والعرصة ، وإلى ما قاله في القاموس : الدار المحل يجمع البناء [ ص: 360 ] والعرصة .

وأما ثانيا فلأن قوله لكنه يتناول هذه الأجزاء بطريق التضمين يدل على أن البناء جزء من معنى اسم الدار ، وهذا مع كونه مخالفا لما قاله أولا من أن اسم الدار لا يتناول البناء لغة يقتضي صحة استثناء البناء لنفسه للقطع بصحة استثناء الجزء من الكل كما لو قال له علي عشرة إلا واحدا . لا يقال : يجوز أن يكون مراده بالتضمين معنى التبعية لا الجزئية فيئول إلى ما قاله المصنف وغيره ; لأنا نقول : مع إباء قوله هذه الأجزاء عن ذلك التوجيه جدا يمنعه قوله في تنظيره بمسألة الإقرار بالخاتم بل هو اسم لمسمى واحد وهو المركب من الحلقة والفص ولكنه يتناوله بطريق التضمين ، فإنه نص في دخول الفص كالحلقة بطريق الأصالة دون التبعية ، وهو خلاف ما صرح به المصنف وسائر الثقات ( بخلاف ما إذا قال إلا ثلثها ) أي إذا قال هذه الدار لفلان إلا ثلثها ( أو إلا بيتا منها ) حيث يصح الاستثناء ويكون للمقر له ما عدا ثلث الدار وما عدا البيت ( لأنه ) أي لأن كل واحد من الثلث والبيت ( داخل فيه ) أي في الصدر الذي هو الدار ( لفظا ) ومقصودا حتى لو استحق البيت في بيع الدار سقط حصته من الثمن كذا قالوا . أقول : كون البيت داخلا في الدار لفظا ومقصودا مشكل على القول بأن الدار اسم للعرصة كما ذكروه في كتاب الأيمان ، واستدلوا به على أن من حلف لا يدخل هذه الدار فدخلها بعدما انهدمت وصارت صحراء حنث ، إذ على تقدير أن يكون البيت داخلا في الدار لفظا ومقصودا يكون جزءا من مدلول لفظ الدار فلا يكون الدار حينئذ اسما للعرصة فقط بل لمجموع العرصة والبيوت ، فإذا انهدمت وصارت صحراء لزم أن تنعدم بانعدام بعض أجزائها فلم يظهر وجه الحنث في المسألة المذكورة ، والعجب من صاحب البدائع أنه قال هاهنا بخلاف ما إذا استثنى ربع الدار أو ثلثها أو بيتا منها أنه يصح الاستثناء لما بينا أن الدار اسم للعرصة فكان المستثنى من جنس المستثنى منه فصح انتهى .

فإن كون الدار اسما للعرصة يقتضي عدم صحة الاستثناء في صورة استثناء البيت من الدار ; لأن البيت ليس من جنس العرصة إذ البيت اسم لبناء مسقف له حوائط أربعة على قول أو ثلاثة على قول آخر كما عرف في الأيمان في مسألة ما لو حلف لا يدخل بيتا فدخل صفة ، والعرصة هي البقعة كما سيأتي فأنى هذه من ذلك ؟ فما ذكره يكون حجة عليه لا له في هاتيك الصورة ( ولو قال بناء هذه الدار لي والعرصة لفلان فهو كما قال ) وهذا لفظ القدوري أيضا في مختصره : يعني يكون البناء للمقر والعرصة لفلان .

قال المصنف في تعليله ( لأن العرصة عبارة عن البقعة دون البناء ) يعني أن العرصة في اللغة عبارة عن بقعة ليس فيها بناء ، فلما اعتبر في معناها الخلو عن البناء لم يتبعها البناء في الحكم ( فكأنه قال : بياض هذه الأرض دون البناء لفلان ) قال المصنف ( بخلاف ما إذا قال مكان العرصة أرضا ) أي بخلاف ما إذا قال بناء هذه الدار لي والأرض لفلان ( حيث يكون البناء للمقر له ) مع الأرض ( لأن الإقرار بالأرض إقرار بالبناء ) بناء على أن الأرض أصل والبناء تبع ، والإقرار إقرار بالتبع ( كالإقرار بالدار ) حيث يكون البناء أيضا للمقر له هناك وإن استثناه لنفسه كما مر . فإن قلت : يشكل على هذا ما لو قال البناء لفلان والأرض لآخر فإنه كما [ ص: 361 ] قال حتى يكون البناء للأول والأرض للثاني ، ولم يقل هناك الإقرار بالأرض إقرار بالبناء فما وجه الفرق بينهما ؟ قلت : الفرق بينهما من حيث إن أول كلامه فيما أوردت إقرار معتبر بالبناء للأول فهب أن آخر كلامه إقرار بالأرض والبناء لكن إقراره فيما صار مستحقا لغيره لا يصح فكان للثاني الأرض خاصة ، وأما فيما نحن فيه فآخر كلامه إقرار بالأرض والبناء وهما جميعا ملكه فصح إقراره بهما للمقر له ، وذلك لأن أول كلامه وهو قوله : بناء هذه الدار لي غير معتبر لأنه قد كان له قبل أن يذكره فبقي قوله وأرضها لفلان ، والإقرار بالأصل يوجب ثبوت حق المقر له في التبع .

توضيح الفرق أن البناء في تلك المسألة لما صار للمقر له الأول خرج من أن يكون تبعا للأرض حكما فإقراره بالأرض للثاني بعد ذلك لا يتعدى إلى البناء ، وفي مسألتنا البناء باق على ملك المقر فكان تبعا للأرض ، فإقراره بالأرض يثبت الحق للمقر له في البناء تبعا ، كذا في المبسوط .

اعلم أن هذا الجنس خمس مسائل وتخريجها على أصلين : أحدهما أن الإقرار بعد الدعوى صحيح دون العكس . والثاني أن إقرار الإنسان حجة على نفسه وليس بحجة على غيره .

إذا عرفت هذا فنقول : إذا قال بناء هذه الدار لي وأرضها لفلان كانت الأرض والبناء لفلان ; لأن بقوله : البناء لي ادعى البناء وبقوله : الأرض لفلان أقر لفلان بالبناء تبعا للإقرار بالأرض ، والإقرار بعد الدعوى صحيح .

وإذا قال أرضها لي وبناؤها لفلان فهو على ما أقر لأن بقوله أرضها لي ادعى البناء لنفسه تبعا وبقوله : والبناء لفلان أقر بالبناء لفلان ، والإقرار بعد الدعوى صحيح ، ويؤمر المقر له بنقل البناء من أرضه . وإذا قال أرض هذه الدار لفلان وبناؤها لي فالأرض والبناء للمقر له ; لأن بقوله : أرضها لفلان أقر لفلان بالبناء تبعا وبقوله وبناؤها لي ادعى البناء لنفسه ، والدعوى بعد الإقرار لا تصح وإذا قال : أرض هذه الدار لفلان وبناؤها لفلان آخر فالأرض والبناء للمقر له الأول ; لأن بقوله : أرض هذه الدار لفلان صار مقرا لفلان بالبناء تبعا للأرض وبقوله وبناؤها لفلان آخر كان مقرا على الأول ، والإقرار على الغير لا يصح . وإذا قال بناء هذه الدار لفلان وأرضها لفلان آخر فهو كما قال ; لأن بقوله أولا بناء هذا الدار لفلان صار مقرا بالبناء له وبقوله وأرضها لفلان آخر صار مقرا على الأول بالبناء للثاني ، والإقرار على الغير باطل ، كذا في الذخيرة .




الخدمات العلمية