الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 181 ] قال ( وإن كانت الدعوى نكاحا لم يستحلف المنكر ) عند أبي حنيفة رحمه الله ، ولا يستحلف عنده في النكاح والرجعة والفيء في الإيلاء والرق والاستيلاد والنسب والولاء والحدود واللعان . وقالا : يستحلف في ذلك كله إلا في الحدود واللعان [ ص: 182 ] وصورة الاستيلاد أن تقول الجارية أنا أم ولد لمولاي وهذا ابني منه وأنكر المولى ، لأنه لو ادعى المولى ثبت الاستيلاد بإقراره ولا يلتفت إلى إنكارها . لهما أن النكول إقرار لأنه يدل على كونه كاذبا في الإنكار على ما قدمناه ، إذ لولا ذلك لأقدم على اليمين الصادقة إقامة للواجب فكان إقرارا أو بدلا عنه ، والإقرار يجري في هذه الأشياء لكنه إقرار فيه شبهة ، والحدود تندرئ بالشبهات ، واللعان في معنى الحد [ ص: 183 - 184 ] ولأبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه بذل لأن معه لا تبقى اليمين واجبة لحصول المقصود وإنزاله باذلا أولى كي لا يصير كاذبا في الإنكار [ ص: 185 ] والبذل لا يجري في هذه الأشياء . وفائدة الاستحلاف القضاء بالنكول فلا يستحلف ، إلا أن هذا بذل لدفع الخصومة فيملكه المكاتب والعبد المأذون بمنزلة الضيافة اليسيرة ، [ ص: 186 ] وصحته في الدين بناء على زعم المدعي وهو ما يقبضه حقا لنفسه ، والبذل معناه هاهنا ترك المنع وأمر المال هين

التالي السابق


( قال ) أي القدوري في مختصره ( وإن كانت الدعوى نكاحا لم يستحلف المنكر عند أبي حنيفة ولا يستحلف عنده ) يريد به التعميم بعد تخصيص النكاح بالذكر ( في النكاح ) أي لا يستحلف عنده في دعوى النكاح بأن ادعى رجل على امرأة أنه تزوجها أو بالعكس ( والرجعة ) أي لا يستحلف عنده في دعوى الرجعة أيضا بأن ادعى بعد الطلاق وانقضاء العدة أنه كان راجعها في العدة وأنكرت أو بالعكس ( والفيء في الإيلاء ) أي في دعوى الفيء بالإيلاء أيضا بأن ادعى بعد انقضاء مدة الإيلاء أنه كان فاء إليها في المدة وأنكرت أو بالعكس ( والرق ) أي وفي دعوى الرق أيضا بأن ادعى على مجهول النسب أنه عبده وأنكر المجهول أو بالعكس ( والاستيلاد ) أي وفي دعوى الاستيلاد أيضا بأن ادعت أمة على مولاها أنها ولدت منه ولدا وأنكر المولى ولا يجري فيه العكس كما سيذكره المصنف ( والنسب ) أي وفي دعوى النسب أيضا بأن ادعى على مجهول أنه ولده أو والده وأنكر المجهول أو بالعكس .

( والولاء ) أي وفي دعوى الولاء أيضا بأن ادعى على مجهول النسب أنه معتقه ومولاه وأنكر المجهول أو بالعكس أو كان ذلك في ولاء الموالاة ، إذ الولاء يشمل ولاء العتاقة وولاء الموالاة ( والحدود ) أي وفي دعوى الحدود أيضا بأن ادعى على آخر ما يوجب حدا من الحدود وأنكره الآخر ( واللعان ) أي وفي دعوى اللعان أيضا بأن ادعت على زوجها أنه قذفها بما يوجب اللعان وأنكر الزوج .

واعلم أن هذه الأشياء كلها مذكورة في مختصر القدوري هاهنا ، إلا اللعان فإنه غير مذكور فيه ولكنه مذكور في الجامع الصغير في كتاب القضاء ( وقال أبو يوسف ومحمد : يستحلف في ذلك كله إلا في الحدود واللعان ) فتقرر أنه لا يستحلف في الحدود واللعان على قولهم جميعا ، وإنما اختلافهم في الأشياء السبعة الباقية .

وفي الكافي قال القاضي فخر الدين في الجامع الصغير : والفتوى على قولهما ، وقيل ينبغي للقاضي أن ينظر في حال المدعى عليه ، فإن رآه متعنتا يحلفه ويأخذه بقولهما ، وإن كان مظلوما لا يحلفه أخذا بقوله انتهى . وفي النهاية : هذا كله إذا لم يكن المقصود مالا ، وإن كان المقصود دعوى مال بأن ادعت المرأة على رجل أنه تزوجها وطلقها قبل الدخول ولها عليه نصف المهر وأنكر يستحلف في قولهم ، فإن نكل يقضى عليه ببينة بنصف المهر على ما يجيء بعد هذا في الكتاب . وسئل الشيخ الإمام عبد الواحد الشيباني عن المرأة إذا كانت تعلم بالنكاح ولا تجد بينة تقيمها لإثبات النكاح والزوج ينكر ماذا يصنع القاضي حتى لا تبقى هذه المرأة معلقة أبد الدهر ؟ قال يستحلفه القاضي إن كانت هذه امرأة لك فهي طالق حتى يقع الطلاق إن كانت امرأته فتتخلص منه وتحل للأزواج .

وذكر الصدر الشهيد في أدب القاضي في باب اليمين أن الفقيه أبا الليث أخذ بقوله في هذه المسألة ، وهكذا [ ص: 182 ] في الواقعات أيضا . وكيفية الاستحلاف عندهما أن يحلف على الحاصل إن كانت المرأة هي المدعية بالله ما هذه امرأتك بهذا النكاح الذي ادعته ، وإن كان الزوج هو المدعي تحلف بالله ما هذا زوجك على ما ادعى . والمتأخرون من مشايخنا على أنه ينبغي للقاضي أن ينظر في حال المدعى عليه ، فإن رآه متعنتا يحلفه ويأخذ بقولهما ، وإن رآه مظلوما لا يحلفه أخذا بقول أبي حنيفة وهو كما اختاره شمس الأئمة في التوكيل بالخصومة بغير محضر من الخصم وبغير رضاه أن القاضي إن علم بالمدعي التعنت في إباء التوكيل لا يمكنه من ذلك ويقبل التوكيل بغير محضر من الخصم ، وإن علم بالموكل القصد إلى الإضرار بالمدعي في التوكيل لا يقبل ذلك إلا برضا الخصم حتى يكون دافعا للضرر من الجانبين ، كذا في الجامع الصغير لقاضي خان والمحبوبي .

وفي الحدود : لا يستحلف بالإجماع إلا إذا تضمن حقا بأن علق عتق عبده بالزنا وقال إن زنيت فأنت حر فادعى العبد أنه قد زنى ولا بينة له عليه يستحلف المولى ، حتى إذا نكل ثبت العتق دون الزنا ، كذا ذكره الصدر الشهيد في أدب القاضي ، إلى هنا لفظ النهاية ( وصورة الاستيلاد أن تقول الجارية أنا أم ولد لمولاي وهذا ابني منه وأنكر المولى ; لأنه لو ادعى المولى يثبت الاستيلاد بإقراره ولا يلتفت إلى إنكارها ) وإنما خص صورة الاستيلاد بالذكر من بين أخواته تنبيها على أنه لا مساغ للدعوى في هذه الصورة إلا من جانب واحد ، بخلاف أخواته الخلافية فإن للدعوى فيها مساغا من الجانبين كما صورناه فيما مر ( لهما ) أي لأبي يوسف ومحمد رحمهما الله ( أن النكول إقرار لأنه يدل على كونه كاذبا في الإنكار ) أي في إنكاره السابق ( على ما قدمناه ) يعني قوله إذ لولا ذلك لأقدم على اليمين إقامة للواجب ودفعا للضرر عن نفسه ، وفيها تحصيل الثواب بإجراء ذكر اسم الله تعالى على لسانه تعظيما له ودفع تهمة الكذب عن نفسه وإبقاء ماله على ملكه ، فلولا هو كاذب في يمينه لما ترك هذه الفوائد الثلاث ، كذا في العناية وغيرها ( فكان ) أي النكول ( إقرارا أو بدلا عنه ) بفتح الدال : أي خلفا عن الإقرار : يعني أنه قائم مقام الإقرار .

أقول : لا يخفى على ذي فطرة سليمة ركاكة تحرير المصنف هاهنا ، عين أولا كون النكول إقرارا ، ثم فرع على دليله كونه إقرارا أو بدلا عنه بالترديد ، ولا يدفعها ما ذكر في النهاية والكفاية من أنه جاز أن يكون هذا الترديد لدفع بعض الشبهات التي ترد عليهما في القول بالإقرار انتهى . إذ كان يمكن دفع ذلك بذكر الترديد أولا أيضا أو بالاكتفاء بذكر كونه بدلا عنه في الموضعين معا ، بل كان هذا : أي الاكتفاء به هو الذي ينبغي كما ستقف عليه ( والإقرار يجري في هذه الأشياء ) هذا كبرى دليلهما على جواز الاستحلاف في الأشياء المذكورة ، تقريره أن النكول إقرار والإقرار يجري في هذه الأشياء ينتج أن النكول يجري في هذه الأشياء ، فإذا جرى النكول فيها جرى الاستحلاف فيها أيضا لحصول فائدة الاستحلاف وهي القضاء بالنكول كما في سائر مواضع الاستحلاف ( لكنه ) أي لكن النكول ( إقرار فيه شبهة ) لأنه في نفسه سكوت ( والحدود تندرئ بالشبهات ) فلا يجري النكول فيها ( واللعان في معنى الحد ) لأنه قائم مقام حد القذف في حق الزوج ، حتى أن كل قذف يوجب حد القذف على الأجنبي إذا قذف الأجنبيات فكذلك يوجب اللعان على الزوج ، وقائم مقام حد الزنا في حق المرأة كما تقرر [ ص: 183 ] في باب اللعان فلا يجري النكول فيه أيضا . قال صاحب العناية : وعليه نقوض إجمالية : الأول ما ذكره في الجامع : رجل اشترى نصف عبد ثم اشترى النصف الباقي ثم وجد به عيبا فخاصمه في النصف الأول فأنكر البائع ونكل عن اليمين فرد عليه ثم خاصمه في النصف الثاني فأنكر لم يلزمه ويستحلف ، ولو كان النكول إقرارا لزمه النصف الآخر بنكوله في المرة الأولى كما لو أقر في تلك المرة . والثاني الوكيل بالبيع إذا ادعى عليه عيبا في المبيع واستحلف فنكل لزم الموكل ، ولو كان إقرارا لزم الوكيل .

الثالث ما ذكره في المبسوط أن الرجل إذا قال تكفلت لك بما يقر لك به فلان فادعى المكفول له على فلان مالا فأنكر ونكل عن اليمين فقضى عليه بالنكول لا يقضى به على الكفيل ، ولو كان النكول إقرارا لقضى به . والجواب أن النكول إما إقرار أو بدل منه . فوجه الإقرار ما تقدم ، ووجه كونه بدلا أن المدعي يستحق بدعواه جوابا يفصل الخصومة وذكر بالإقرار والإنكار ، فإن أقر فقد انقطعت ، وإن أنكر لم تنقطع إلا بيمين ، فإذا نكل كان بدلا عن الإقرار بقطع الخصومة . فالنقوض المذكورة إن وردت على اعتبار كونه إقرارا لا ترد على تقدير كونه بدلا منه ، ومثل هذا يسمى في علم النظر تغيير المدعي ، إلى هاهنا كلامه .

أقول : ما ذكره في الجواب منظور فيه من وجوه : الأول أن الظاهر من قوله فوجه الإقرار ما تقدم ، ووجه كونه بدلا كيت وكيت أن ما تقدم إنما يصلح لأن يكون وجه الإقرار لا لأن يكون وجه كونه بدلا منه مع أنه صالح لهما ، ولهذا فرعهما المصنف عليه حيث قال : فكان إقرارا أو بدلا عنه . الثاني أن الوجه الذي ذكره لكونه بدلا منه غير تام ، إذ يرد عليه منع قوله فإذا نكل كان بدلا عن الإقرار بقطع الخصومة لجواز أن يكون بذلا كما ذهب إليه أبو حنيفة رحمه الله لا بدلا عن الإقرار ، وقطعه الخصومة لا يدل على كونه بدلا عنه لتحقق القطع المزبور بكونه بذلا أيضا ، ولجواز أن يكون نفس الإقرار بدلا عنه ، فحينئذ أيضا لا يتم التقريب . الثالث أن الإقرار إذا كان مخالفا في الأحكام لما هو بدل عنه كما هو في صورة النقوض المذكورة فمن أين يعرف جريان بدل الإقرار أيضا في الأشياء المذكورة حتى يتم دليلهما المذكور في الكتاب .

الرابع أن قوله ومثل هذا يسمى في علم النظر تغيير المدعي إنما يتم لو كان المذكور في دليلهما المسفور كون النكول إقرارا فقط . ولما كان المذكور فيه كونه إقرارا أو بدلا عنه بالترديد كما ترى لم يحتج في دفع النقوض المزبورة بما ذكر إلى تغيير شيء أصلا فلم يتم قوله المذكور . ثم إن لبعض الفضلاء كلامين في تحرير صاحب العناية هاهنا : أحدهما في جانب السؤال والآخر في جانب الجواب . أما الأول ففي قوله وعليه نقوض إجمالية حيث قال : بل الظاهر أن تلك الأسئلة الثلاثة معارضات كما لا يخفى على من له أدنى تأمل ودراية انتهى . وأما الثاني ففي قوله ومثل هذا يسمى في علم النظر تغيير المدعي حيث قال : بل هو تغيير الدليل والمدعي جواز الاستحلاف انتهى . أقول : كل واحد منهما ساقط . أما الأول فلأن كون تلك الأسئلة معارضات مما لا يكاد يحسن لأن حاصل كل واحد [ ص: 184 ] منها بيان تخلف الحكم وهو كون النكول إقرارا في صورة جزئية عن الدليل المذكور من قبل الإمامين ، وهو صريح نقض إجمالي ، ولا لطف للحمل على المعارضة في شيء منها لأن المدعي هاهنا وهو كون النكول إقرارا كليا ، وما ذكر في كل واحد منها صورة جزئية لا تدل على خلاف المدعي بالكلية ، وإنما غر ذلك البعض قول السائل في ذيل كل واحد من تلك الأسئلة ، ولو كان النكول إقرارا لكان جواب المسألة خلاف ما ذكر ، والحال أن المراد مجرد بيان تخلف الحكم عن الدليل لا إقامة الدليل على خلاف المدعي كما لا يخفى .

وأما الثاني فلأن مراد صاحب العناية بالمدعي هاهنا قولهما إن النكول إقرار المستدل عليه في كلام المصنف بقوله لأنه يدل على كونه كاذبا في الإنكار على ما قدمناه ، فإذا صير في الجواب عن النقوض المذكورة إلى كون النكول بدلا عن الإقرار لا نفس الإقرار فقد غير ذلك المدعي قطعا ، وكون قولهما إن النكول إقرار مقدمة الدليل بالنظر إلى أصل المسألة وهو جواز الاستحلاف عندهما لا ينافي كونه مدعي بالنظر إلى كونه مستدلا عليه بالدليل المستقل . والعجب من ذلك القائل أنه جعل الأسئلة المذكورة معارضات والمعارضة إقامة الدليل على خلاف مدعي الخصم ، وهذا لا يتصور إلا بأن يكون المدعي هاهنا قولهما إن النكول إقرار ، إذا لا مساس لتلك الأسئلة بأصل المسألة كما لا يخفى ( ولأبي حنيفة أنه ) أي النكول ( بذل ) وتفسير البذل عنده ترك المنازعة والإعراض عنها لا الهبة والتمليك ، ولهذا قلنا : إن الرجل إذا ادعى نصف الدار شائعا فأنكر المدعى عليه يقضي فيه بالنكول ، وهبة نصف الدار شائعا لا تصح ، كذا في النهاية ومعراج الدراية نقلا عن الفوائد الظهيرية ( لأن معه ) أي مع البذل ( لا تبقى اليمين واجبة لحصول المقصود به ) أي لحصول المقصود من اليمين وهو قطع الخصومة بالبذل فيكون ذلك باعثا على ترك الإقدام على اليمين ، هذا هو العلة المجوزة لكون النكول بذلا ، وأما العلة المرجحة لكونه بذلا على كونه إقرارا فهي ما أشار إليه بقوله ( وإنزاله باذلا أولى ) أي من إنزاله مقرا ( كي لا يصير كاذبا في الإنكار ) أي في إنكاره السابق : يعني لو حملناه على الإقرار لكذبناه في إنكاره السابق ، ولو جعلناه بذلا لقطعنا الخصومة بلا تكذيب ، فكان هذا أولى صيانة للمسلم عن أن يظن به الكذب .

قيل عليه لو كان النكول بذلا لما ضمن شيئا آخر إذا استحق ما أدى بقضاء ، كما لو صالح عن إنكار واستحق بدل الصلح فإنه لا يضمن شيئا ولكن المدعي يرجع إلى الدعوى . وأجيب عنه بأن بذل الصلح وجب بالعقد ، فإذا استحق بطل العقد فعاد الحكم إلى الأصل وهو الدعوى ، وأما هاهنا فالمدعي يقول أنا آخذ هذا بإزاء ما وجب لي في ذمته بالقضاء ، فإذا استحق رجعت بما في الذمة . وقيل عليه إن الحكم واجب على الحاكم بالنكول ، والبذل لا يجب به الحكم عليه فلم يكن النكول بذلا . وأجيب عنه بأن الحكم لا يجب بالبذل الصريح . وأما ما كان بذلا بحكم الشرع كالنكول فلا نسلم أنه لا يجب به بل هو موجب له قطعا للمنازعة . وقيل عليه يقضي بالقصاص في الأطراف بالنكول ، ولو كان بذلا لما قضى به لأن البذل لا يعمل فيها .

وأجيب عنه بأنا لا نسلم أن البذل فيها غير عامل بل هو عامل إذا كان مفيدا نحو أن يقول اقطع يدي وبها أكلة حيث لم يأثم بقطعها ، وفيما نحن فيه النكول مفيد لأنه يحترز به عن اليمين وله ولاية الاحتراز عن اليمين [ ص: 185 ] هذه خلاصة ما في الشروح هاهنا من الأسئلة والأجوبة ( والبذل لا يجري في هذه الأشياء ) فإنه لو قالت مثلا لا نكاح بيني وبينك ولكني بذلت لك نفسي لم يصح بذلها ; وكذا لو قال أنا حر الأصل ولكن هذا يؤذيني بالدعوى فبذلت له نفسي ليسترقني ، أو قال أنا ابن فلان ولكن هذا يؤذيني بالدعوى فأبحت له أن يدعي نسبي لم يصح بذله ، بخلاف الأموال فإنه لو قال هذا المال ليس له ولكني أبحته وبذلته له لأتخلص من خصومته صح بذله ( وفائدة الاستحلاف القضاء بالنكول ) ولما لم يجز البذل في هذه الأشياء لم يتصور فيها القضاء بالنكول الذي هو البذل ( فلا يستحلف ) فيها لعدم الفائدة .

قال صاحب الكافي : فإن قيل : هذا التعليل مخالف للحديث المشهور وهو قوله عليه الصلاة والسلام { واليمين على من أنكر } قلنا : خص منه الحدود واللعان ، فجاز تخصيص هذه الصور بالقياس انتهى . وقال صاحب العناية : لا يقال أبو حنيفة رحمه الله ترك الحديث المشهور وهو قوله صلى الله عليه وسلم { اليمين على من أنكر } بالرأي ، وهو لا يجوز لأن أبا حنيفة رحمه الله لم ينف وجوب اليمين فيها ، لكنه يقول : لما لم تفد اليمين فائدتها وهو القضاء بالنكول لكونه بذلا لا يجري فيها سقطت كسقوط الوجوب عن معذور لا يتحقق منه أداء الصلاة لفوات المقصود انتهى .

وقال بعض الفضلاء : وأجاب العلامة الكاكي بأنه خص من الحديث الحدود بالإجماع ، فجاز تخصيص هذه الصور بالقياس ، ولم يذكره الشارح : يعني العناية لأن المخصص يجب أن يكون مقارنا والإجماع ليس كذلك انتهى . أقول : مدار كلامه على ما فهمه من أن يكون مراد العلامة الكاكي أن تخصيص الحدود من الحديث هو إجماع الأمة ، والظاهر أن مراده بالإجماع اتفاق الأئمة ، فالمعنى كون الحديث مما خص منه البعض وهو الحدود متفق عليه ، ولا ينافي هذا كون المخصص نصا ومقارنا ، على أن قاعدة الأصول هي أنه إذا لم يعلم المقارنة وعدمها يحمل على المقارنة فيتم المطلوب ، ويؤيد كون مراده بالإجماع اتفاق الأئمة في كون الحديث مخصوصا أن الجواب الذي ذكره وقع في الكافي والكفاية من غير ذكر قيد الإجماع فتأمل ( إلا أن هذا بذل لدفع الخصومة فيملكه المكاتب والعبد المأذون بمنزلة الضيافة اليسيرة ) هذا جواب سؤال [ ص: 186 ] مقدر ، وهو أن النكول لو كان بذلا لما ملكه المكاتب والعبد المأذون لما أن في البذل معنى التبرع وهما لا يملكانه .

فأجاب بأنهما يملكان ما لا بد له من التجارة كما في الضيافة اليسيرة ، وبذلهما بالنكول من جملة ذلك ، كذا في عامة الشروح . أقول : لمانع أن يمنع كون بذلهما من جملة ذلك إذ الخصومة تندفع بدون ذلك من غير ضرورة بأن أقدما على اليمين إن كانا صادقين في إنكارهما ، وبأن أقرا إن كان المدعي هو الصادق فليتأمل ( وصحته ) أي حصة البذل ( في الدين بناء على زعم المدعي وهو ما يقبضه حقا لنفسه ، والبذل معناه هاهنا ترك المنع وأمر المال هين ) هذا أيضا جواب سؤال مقدر وهو أن النكول لو كان بذلا لما جرى في الدين لأن محله الأعيان لا الديون ، إذ الدين وصف في الذمة والبذل والإعطاء لا يجريان في الأوصاف . فأجاب بأن معنى البذل هاهنا ترك المنع ، فكان المدعي يأخذه منه بناء على زعمه أنه يأخذ حق نفسه ولا مانع له ، وترك المنع جائز في الأموال لأن أمر المال هين حيث تجري فيه الإباحة ، بخلاف تلك الأشياء فإنه لا تجري فيها الإباحة ، كذا في الشروح وسائر المعتبرات ، حتى أن صاحب الكافي أتى بصريح السؤال والجواب حيث قال : فإن قيل : لو كان بذلا لما جرى في الدين ; لأن محله الأعيان لا الديون ، إذ البذل والإعطاء لا يجريان في الأوصاف والدين وصف في الذمة .

قلنا : البذل هاهنا ترك المنع كأن المدعي يأخذه منه بناء على زعمه أنه يأخذ حق نفسه ولا مانع له ، وأمر المال هين ، بخلاف النكاح ونحوه انتهى .

وأقول : لا يخفى على ذي فطرة سليمة بعد التأمل الصادق أن الجواب المذكور لا يدفع السؤال المزبور وإن تلقته الثقات بالقبول ، لأن الدين لما كان وصفا ثابتا في الذمة غير منتقل عنها لم يكن قابلا للأخذ والإعطاء ، وأن ترك المنع إنما يتصور في الأموال المتحققة في الأعيان لا في الأوصاف الثابتة في الذمم ; لأن ترك المنع فرع جواز الأخذ ، فما لم يكن قابلا للأخذ لم يتصور فيه ترك المنع ، فلم يكن الذي يأخذه المدعي من المدعى عليه بناء على زعمه أنه حق نفسه الدين بل كان العين ، وكذا لم يكن الذي ترك المدعى عليه منعه أخذ الدين بل كان أخذ العين والسؤال بالدين لا بالعين ، فالجواب المذكور لا يدفعه .

والحق عندي في الجواب أن يقال : معنى البذل في الدين إحداث مثله في ذمة المدعي بإعطاء عين يماثل معياره معيار الدين المدعى وحصول المقاصة به من الطرفين ، كما أن معنى قضاء الدين هذا ولهذا قالوا : الديون تقضى بأمثالها على ما حقق في موضعه ، فإذا قال المدعي مثلا لي عليه عشرة دراهم كان معناه حصل لي في ذمته وصف معياره عشرة دراهم ، فالذي يلزم المدعى عليه عند نكوله عن اليمين إعطاء عين يماثل معياره معيار ما ادعاه المدعي من الدين وهو عشرة دراهم ، فالمبذول حقيقة هو العين الذي يعطى لا الدين نفسه وإن كان المدعى دينا




الخدمات العلمية