الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 32 ] ( قال : ومن دفع إلى آخر دراهم وقال اشتر لي بها طعاما فهو على الحنطة ودقيقها ) استحسانا . والقياس أن يكون على كل مطعوم اعتبارا للحقيقة كما في اليمين على الأكل إذ الطعام اسم لما يطعم .

وجه الاستحسان أن العرف أملك وهو على ما ذكرناه إذا ذكر مقرونا بالبيع والشراء [ ص: 33 ] ولا عرف في الأكل فبقي على الوضع ، وقيل إن كثرت الدراهم فعلى الحنطة ، وإن قلت فعلى الخبز ، وإن كان فيما بين ذلك فعلى الدقيق .

التالي السابق


( قال ) أي محمد في الجامع الصغير ( ومن دفع إلى آخر دراهم وقال اشتر لي بها طعاما فهو على الحنطة ودقيقها ) وإنما قيد بدفع الدراهم إلخ ; لأنه إذا لم يدفع إليه دراهم ، وقال اشترى لي طعاما لم يجز على الآمر ; لأنه لم يبين له المقدار وجهالة القدر في المكيلات والموزونات كجهالة الجنس من حيث إن الوكيل لا يقدر على تحصيل مقصود الآمر بما سمى له كذا في الكافي وغيره .

وما ذكر في الكتاب استحسان ( والقياس أن يكون على كل مطعوم اعتبارا للحقيقة ) أي لحقيقة الطعام ( كما في اليمين على الأكل ) يعني إذا حلف لا يأكل طعاما يحنث بأكل أي طعام كان ( إذ الطعام اسم لما يطعم ) بحسب الحقيقة ( وجه الاستحسان أن العرف أملك ) أي أقوى وأرجح بالاعتبار من الحقيقة ( وهو ) أي العرف ( على ما ذكرناه ) أي على الحنطة ودقيقها ( إذا ذكر ) أي الطعام ( مقرونا بالبيع والشراء ) يعني أن العرف في شراء الطعام إنما يقع على الحنطة ودقيقها ، وبائع الطعام في الناس من يبيع الحنطة ودقيقها دون من يبيع الفواكه فصار التقييد الثابت بالعرف كالثابت بالنص ، وكذا في المبسوط . قال في الكافي : ولهذا لو حلف لا يشتري طعاما لا يحنث إلا بشراء البر ودقيقه [ ص: 33 ] ولا عرف في الأكل فبقي على الوضع ) أي فبقي الطعام في حق الأكل على الوضع والحقيقة ، ولهذا يحنث في اليمين على الأكل بأكل أي مطعوم كان . قالوا : هذا الذي ذكر في شراء الطعام من انصرافه إلى الحنطة ودقيقها إنما هو عرف أهل الكوفة فإن سوق الحنطة ودقيقها عندهم يسمى سوق الطعام ، وأما في عرف غيرهم فينصرف إلى شراء كل مطعوم . وقال بعض مشايخ ما وراء النهر : الطعام في عرف ديارنا ما يمكن أكله من غير إدام كاللحم المطبوخ والمشوي وغير ذلك فينصرف التوكيل إليه .

قال الصدر الشهيد : وعليه الفتوى ، كذا في الذخيرة وغيرها ( وقيل إن كثرت الدراهم فعلى الحنطة ، وإن قلت فعلى الخبز ، وإن كان فيما بين ذلك فعلى الدقيق ) هذا بظاهره يدل على أن ما ذكره أولا مطلق : أي سواء كانت الدراهم قليلة أو كثيرة إذا وكل بشراء الطعام ينصرف إلى شراء الحنطة ودقيقها ، وهذا الذي ذكره ثانيا وعبر عنه بلفظ قيل مخالف للأول وهو قول الفقيه أبي جعفر الهندواني كما ذكره الصدر الشهيد في أول باب الوكالة بالبيع والشراء من بيوع الجامع الصغير وعزاه الإمام قاضي خان في فتاواه إلى شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده ، ولكن قال صاحب النهاية : إنه ليس بقول مخالف للأول بل هو داخل في الأول ، وإليه أشار في المبسوط والذخيرة فقال في المبسوط بعد ذكر ما قلنا : ثم إن قلت الدراهم فله أن يشتري بها خبزا ، وإن كثرت فليس له أن يشتري بها الخبز ; لأن ادخاره غير ممكن ، وإنما يمكن الادخار في الحنطة .

وذكر في الذخيرة : وإذا وكل رجلا بأن يشتري له طعاما ودفع إليه الدراهم صح التوكيل استحسانا . وينصرف التوكيل إلى الحنطة ودقيقها وخبزها وتحكم الدراهم في تعيين واحد منها إن كانت الدراهم قليلة بحيث لا يشتري بمثلها في العرف إلا الخبز ، فالتوكيل ينصرف إلى الخبز إلى آخره . ثم قال : قال القدوري : إذا كان الرجل قد اتخذ وليمة يعلم أن مراده من التوكيل الخبز وإن كثرت الدراهم ، فإذا اشترى الخبز في هذه الصورة يجوز على الآمر إلى هاهنا كلام صاحب النهاية .

وقال صاحب العناية بعد نقل رأي صاحب النهاية هاهنا من أن المعبر عنه بقيل غير مخالف للأول بل هو داخل فيه . وأقول : في تحقيق ذلك : العرف يصرف إطلاق اللفظ المتناول لكل مطعوم إلى الحنطة ودقيقها ، والدراهم بقلتها وكثرتها وسطتها تعين أفراد ما عينه العرف . وقد يعرض ما يترجح على ذلك ويصرفه إلى خلاف ما حمل عليه مثل الرجل اتخذ الوليمة ودفع دراهم كثيرة ليشتري بها طعاما فاشترى بها خبزا وقع على الوكالة للعلم بأن المراد ذلك انتهى .

وطعن فيه بعض الفضلاء حيث قال : نسبة هذا الكلام إلى نفسه عجيب ، فإن صاحب النهاية ذكر ما يدل على ما قاله من المبسوط والذخيرة . ولا يذهب عليك أن ما ذكره بقوله أقول هو ما في الذخيرة بعينه انتهى .

وأقول : لا يذهب على المتأمل في كلام صاحب العناية أن نسبته إلى نفسه ليست بمحل التعجب ; لأنه أراد بيان وجه ما ذكر أولا من أصل المسألة وبيان طريق دخول ما ذكر ثانيا بقيل في الأول وبيان التوفيق بين ما ذكره القدوري وبين ما ذكر هاهنا بقيل . وفي الذخيرة بتحكم الدراهم ، وقصد إفادة هذه المعاني الثلاثة بقيل داخل في الأول ، وقد ذكر فيه الخبز أيضا دون الأول ، [ ص: 34 ] وكيف يصح ما ذكر في التحقيق المزبور من أن الدراهم بقلتها وكثرتها وسطتها تعين أفراد ما عينه العرف ، والخبز لم يدخل فيما عينه العرف على ما ذكر فيه . لا يقال : يجوز أن يدرج الخبز في الحنطة ودقيقها المذكورين أو أن يجعل في حكمهما فيكتفي بذكرهما عن ذكره ; لأنا نقول : لا مجال لشيء من ذلك ; لأنهم جعلوا الخبز قسيما للحنطة ودقيقها في الذكر والحكم حيث قالوا : إن كثرت الدراهم فعلى الحنطة ، وإن قلت فعلى الخبز ، وإن كان فيما بين ذلك فعلى الدقيق فأنى يتيسر ذلك . نعم قد ذكر الخبز مع الحنطة ودقيقها في الذخيرة في أصل المسألة وبيان تحكيم الدراهم كما مر تفصيله عند نقل كلام صاحب النهاية ، فحينئذ لا إشكال ، ولكن الكلام في تصحيح مسألة الكتاب ومسألة المبسوط على القول بكون الكلام الثاني داخلا في الأول فتأمل




الخدمات العلمية