الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 367 ] ( ولو قال له علي ألف من ثمن متاع أو قال أقرضني ألف درهم ثم قال هي زيوف أو نبهرجة وقال المقر له جياد لزمه الجياد في قول أبي حنيفة وقالا : إن قال موصولا يصدق ، وإن قال مفصولا لا يصدق )

وعلى هذا الخلاف إذا قال هي ستوقة أو رصاص ، [ ص: 368 ] وعلى هذا إذا قال إلا إنها زيوف ، وعلى هذا إذا قال : لفلان علي ألف درهم زيوف من ثمن متاع . لهما أنه بيان مغير فيصح بشرط الوصل كالشرط والاستثناء . وهذا لأن اسم الدراهم يحتمل الزيوف بحقيقته والستوقة بمجازه ، إلا أن مطلقه ينصرف إلى الجياد فكان بيانا مغيرا من هذا الوجه وصار كما إذا قال إلا أنها وزن خمسة .

ولأبي حنيفة أن هذا رجوع لأن مطلق العقد يقتضي وصف السلامة عن العيب ، والزيافة عيب ودعوى العيب رجوع عن بعض موجبه وصار كما إذا قال بعتكه معيبا وقال المشتري بعتنيه سليما فالقول للمشتري لما بينا ، [ ص: 369 ] والستوقة ليست من الأثمان والبيع يرد على الثمن فكان رجوعا . وقوله إلا أنها وزن خمسة يصح استثناء لأنه مقدار بخلاف الجودة لأن استثناء الوصف لا يجوز كاستثناء البناء في الدار ، [ ص: 370 ] بخلاف ما إذا قال علي كر حنطة من ثمن عبد إلا أنها رديئة لأن الرداءة نوع لا عيب ، فمطلق العقد لا يقتضي السلامة عنها .

[ ص: 371 ] وعن أبي حنيفة في غير رواية الأصول في القرض أنه يصدق في الزيوف إذا وصل لأن القرض يوجب رد مثل المقبوض ، وقد يكون زيفا كما في الغصب . ووجه الظاهر أن التعامل بالجياد فانصرف مطلقه إليها . ( ولو قال لفلان علي ألف درهم زيوف ولم يذكر البيع والقرض قيل يصدق ) بالإجماع لأن اسم الدراهم يتناولها ( وقيل لا يصدق ) لأن مطلق الإقرار ينصرف إلى العقود لتعينها مشروعة لا إلى الاستهلاك المحرم .

[ ص: 372 ] ( ولو قال اغتصبت منه ألفا أو قال أودعني ثم قال هي زيوف أو نبهرجة صدق وصل أم فصل ) لأن الإنسان يغصب ما يجد ويودع ما يملك فلا مقتضى له في الجياد ولا تعامل فيكون بيان النوع فيصح وإن فصل ، [ ص: 373 ] ولهذا لو جاء راد المغصوب الوديعة بالمعيب كان القول قوله .

وعن أبي يوسف أنه لا يصدق فيه مفصولا اعتبارا بالقرض إذ القبض فيهما هو الموجب للضمان . ولو قال هي ستوقة أو رصاص بعدما أقر بالغصب الوديعة ووصل صدق ، وإن فصل لم يصدق لأن الستوقة ليست من جنس الدراهم لكن الاسم يتناولها مجازا فكان بيانا مغيرا فلا بد من الوصل ( وإن قال في هذا كله ألفا ثم قال إلا أنه ينقص كذا لم يصدق وإن وصل صدق ) [ ص: 374 ] لأن هذا استثناء المقدار والاستثناء يصح موصولا ، بخلاف الزيافة لأنها وصف واستثناء الأوصاف لا يصح ، واللفظ يتناول المقدار دون الوصف وهو تصرف لفظي كما بينا ، ولو كان الفصل ضرورة انقطاع الكلام فهو واصل لعدم إمكان الاحتراز عنه .

التالي السابق


( ولو قال له علي ألف ) أي ألف درهم ( من ثمن متاع أو قال أقرضني ألف درهم ثم قال هي زيوف ) جمع زيف وهو ما يقبله التجار ويرده بيت المال ( أو نبهرجة ) وهي دون الزيوف فإنها مما يرده التجار أيضا ( وقال المقر له جياد لزمه الجياد في قول أبي حنيفة . وقالا ) أي قال أبو يوسف ومحمد ( إن قالا موصولا ) أي إن ذكر قوله هي زيوف أو نبهرجة موصولا بكلامه السابق ( يصدق ، وإن قال مفصولا ) أي إن ذكر ذلك مفصولا عنه ( لا يصدق ) هذه المسألة من مسائل الجامع الصغير .

أقول : تحريرها على النمط المذكور لا يخلو عن نوع قصور ، فإن قول أبي حنيفة في هذه المسألة أن يلزمه الجياد سواء وصل قوله هي زيوف أو نبهرجة أم فصل كما صرحوا به ويقتضيه بيان الخلاف ، إلا أن كلمة ثم في قوله ثم قال : هي زيوف أو نبهرجة يدل على الفصل كما لا يخفى فتوهم اختصاص قول أبي حنيفة بصورة الفصل ولا خلاف فيها بين صاحبيه ، فالظاهر أن يذكر الواو بدل ثم كما وقع في كلام الحاكم الشهيد في الكافي حيث قال في باب القرار بالزيوف : وإذا أقر الرجل بألف درهم دين من قرض أو ثمن مبيع وادعى أنها زيوف أو نبهرجة لم يصدق في قول أبي حنيفة وصل أم فصل . وقال أبو يوسف ومحمد : وإن وصل يصدق ، وإن فصل لا يصدق .

وهكذا ذكر شمس الأئمة السرخسي وشيخ الإسلام علاء الدين الإسبيجابي في شرح الكافي ، وعلى هذا نص محمد في الأصل . قال المصنف ( وعلى هذا الخلاف إذا قال هي ) أي الألف ( ستوقة ) وهي أردأ من النبهرجة ( أو رصاص ) أي أو قال هي رصاص فلا يصدق عند أبي حنيفة وصل أم فصل ويصدق عندهما إن وصل ، ولكن هذا على إحدى الروايتين عن أبي يوسف ، وفي رواية أخرى عنه لا يصدق هاهنا وإن وصل كما قاله [ ص: 368 ] أبو حنيفة .

كذا في شرح الجامع الصغير للإمام قاضي خان والإمام التمرتاشي ( وعلى هذا ) أي على هذا الخلاف ( إذا قال إلا أنها زيوف ) بكلمة الاستثناء ( وعلى هذا الخلاف إذا قال لفلان علي ألف درهم زيوف ) بالجر ، وتجري الصفة على المجرور المعدود دون العدد كقوله تعالى { سبع بقرات سمان } كذا في معراج الدراية . أقول : فلا بد من توجيه وصف المفرد بالجمع فتأمل ( من ثمن متاع ) هذا تتمة كلام المقر ( لهما ) أي لأبي يوسف ومحمد في هذه الصورة الخلافية ( أنه ) أي ما قاله المقر آخرا ( بيان مغير ) لما قاله أولا ( فيصح موصولا ) أي بشرط الوصل ( كالشرط والاستثناء ) فإن كل واحد منهما يصح موصولا لا مفصولا لكونه بيان تغيير ( وهذا ) أي كون آخر كلام المقر فيما نحن فيه بيانا مغيرا ( لأن اسم الدراهم يحتمل الزيوف بحقيقته ) فإن الزيوف من جنس الدراهم حتى يحصل به الاستيفاء في الصرف أو السلم ولا يصير استبدالا ( والستوقة بمجازه ) أي ويحتمل الستوقة بمجازه لأنها تسمى دراهم مجازا فأمكن أن يتوقف صدر الكلام على عجزه ( إلا أن مطلقه ) أي مطلق اسم الدراهم ( ينصرف إلى الجياد ) لأن بياعات الناس تكون بالجياد عادة ( فكان ) أي فكان ذكر الزيوف أو الستوقة في آخر الكلام ( بيانا مغيرا ) لما اقتضاه أول الكلام ( من هذا الوجه ) أي من الوجه المذكور فإنه كان بيانا من جهة الاحتمال ومغيرا من جهة مخالفة العادة فصح موصولا ( وصار ) أي صار حكم هذا ( كما إذا قال إلا أنها وزن خمسة ) أو ستة ونقد بلدهم وزن سبعة صدق إن كان موصولا ولم يصدق إن كان مفصولا .

أقول : لو تعرض المصنف في أثناء التعليل لذكر النبهرجة أيضا لكان أوجه لأنها مذكورة أيضا في أصل المسألة .

فإن قلت : النبهرجة كالزيوف في كونها من جنس الأثمان كما صرح به في مسائل شتى من كتاب القضاء فيجوز أن يكتفى في التعليل بذكر حال الزيوف . قلت : رداءة النبهرجة دون رداءة الزيوف كما نبه عليه هناك أيضا ، فكان الأولى الاكتفاء بذكر حال الأدنى ليعلم به حال ما فوقه بالأولوية .

ثم أقول : إن قوله لأن اسم الدراهم يحتمل الزيوف بحقيقته والستوقة بمجازه لا يساعده ما ذكر في معتبرات كتب اللغة كالصحاح والقاموس وغيرهما فإن المذكور فيها درهم ستوق وتستوق : أي زيف نبهرج فكيف يكون اسم الدراهم حقيقة في المفسر مجازا في المفسر فتأمل ( ولأبي حنيفة أن هذا ) أي ما قاله المقر آخر ( رجوع ) عما أقر به أولا ودعوى أمر عارض فلا يقبل وإن وصل وذلك ( لأن مطلق العقد يقتضي وصف السلامة عن العيب ) لأن موجبه سلامة البدل المستحق به عن العيب ( والزيافة عيب ) في الدراهم ( ودعوى العيب رجوع عن بعض موجبه ) أي عن بعض موجب العقد ، فإذا ادعى أنها زيوف فقد أراد إبطال ما هو المستحق بالعقد فلا يصدق ، وإن وصل ( وصار ) حكم هذا ( كما إذا قال ) البائع ( بعتكه معيبا وقال المشتري بعتنيه سليما فالقول ) هناك ( للمشتري لما بينا ) أن مطلق العقد يقتضي السلامة عن العيب ، فكذا هاهنا ، فحاصل اختلافهم راجع إلى أن الدراهم الزيوف [ ص: 369 ] هل هي داخلة في مطلق اسم الدراهم أم لا .

فأبو حنيفة رجح جانب العيب فيها فلم يدخلها تحت مطلق اسم الدراهم حتى كان دعوى الزيافة رجوعا عما أقر أولا بمطلق الدراهم ، وهما أدخلاها تحت مطلق اسم الدراهم على سبيل التوقف ، حتى كان دعوى الزيافة بعد ذكر اسم الدراهم بيان تغيير كما في الشرط والاستثناء ، كذا في الأسرار وغيره ( والستوقة ليست من الأثمان ) أي ليست من جنس الأثمان ( والبيع يرد على الثمن ) فلم تكن الستوقة من محتملات العقد ( فكان ) أي فكان قوله الآخر ( رجوعا ) عما أقر به أولا : أي فكان دعوى الستوقة بتأويل الادعاء رجوعا من ذلك فلم يصح مفصولا ولا موصولا ( وقوله إلا أنها وزن خمسة يصح استثناء ) هذا جواب عما استشهدا به .

تقريره أن ذلك مما نحن فيه لأنه يصح أن يكون استثناء ( لأنه مقدار ) واستثناء بعض المقدار صحيح لأن أول الكلام يتناول القدر فكان استثناء الملفوظ وهو صحيح بلا ريب ( بخلاف الجودة ) أي بخلاف ما إذا قال إلا أنها زيوف ، فإن في قوله إلا أنها زيوف استثناء للدراهم الجيدة عن الوجوب في الذمة والجودة وصف فلا يصح استثناؤها ( لأن استثناء الوصف لا يجوز ) لعدم تناول صدر الكلام إياه قصدا بل تبعا ( كاستثناء البناء في الدار ) على ما مر بيانه . قال في النهاية ومعراج الدراية : فإن قيل : استثناء الوصف لا يصح بالإجماع فكيف صحح أبو يوسف ومحمد استثناء الزيافة من الدراهم ؟ قلنا : صححا ذلك من حيث المعنى ، والزيافة من حيث المعنى عين لا وصف ، فإن قوله لفلان علي ألف من ثمن متاع إلا أنها زيوف صار بمنزلة قوله إلا أنها نقد بلد كذا ونقد ذلك البلد زيوف ، وهناك صح هذا البيان موصولا بالإجماع ، وهذا في معناه فينبغي أن يصح فصار ذلك نوعا للدراهم لا وصفا بمنزلة قوله في الحنطة إلا أنها رديئة ، إلى هذا أشار في الأسرار والفوائد الظهيرية انتهى .

قال بعض الفضلاء بعد نقل ذلك عن النهاية ومعراج الدراية : وهاهنا بحث ، إذ حينئذ ينبغي أن يقبل [ ص: 370 ] إذا فصل فتأمل . أقول : بحثه ليس بشيء ، لأن هذا البيان وإن كان عندهما بيان نوع الدراهم إلا أنه بيان تغيير بناء على أن مطلق العقد يقتضي السلامة والجودة عرفا ، فكان استثناء نوع الزيوف من الدراهم تغييرا لمقتضى العقد فكان بيان تغيير من هذا الوجه كما مر ، وبيان التغيير لا يصح إلا موصولا ، وإنما وقع ذلك الفاضل في الغلط من قول صاحبي النهاية ومعراج الدراية : فصار ذلك نوعا للدراهم لا وصفا بمنزلة قوله في الحنطة إلا أنها رديئة ، فإن قوله إلا أنها رديئة يقبل ، وإن فصل كما صرحوا به إلا أن مرادهما أن ذلك بمنزلة قوله في الحنطة إلا أنها رديئة في مجرد كونه نوعا لا وصفا لا في الاتحاد في جهة البيان ، كيف وقد صرحوا بأن هذا بيان تغيير وذاك بيان التفسير .

قال المصنف رحمه الله ( بخلاف ما إذا قال : علي كر حنطة من ثمن عبد إلا أنها رديئة ; لأن الرداءة نوع ) أي منوعة ( لا عيب ) لأن العيب ما يخلو عنه أصل الفطرة والحنطة قد تكون رديئة في أصل الخلقة فكانت الرديئة نوعا منها ولهذا قالوا : لو اشترى حنطة مشارا إليها فوجدها رديئة لم يكن له خيار الرد بالعيب ( فمطلق العقد لا يقتضي السلامة عنها ) أي عن الرداءة ، إذ ليس لمطلق العقد مقتضى في نوع دون نوع ولهذا لا يصح الشراء بالحنطة ما لم يبين أنها جيدة أو وسط أو رديئة فليس في بيانه تغيير موجب أول كلامه فصح موصولا ومفصولا ، كذا في المبسوط وغيره . وقال صاحب العناية في شرح هذا المقام : فإن قيل : قد يستثنى الوصف كما إذا قال له علي كر حنطة من ثمن عبد إلا أنها رديئة ; لأن الرداءة ضد الجودة فهما صفتان يتعاقبان على موضوع واحد . أجاب بقوله : لأن الرداءة نوع لا عيب . فإن قيل : فالجودة كذلك لما مر أنهما ضدان دفعا للتحكم .

أجيب بأن الرداءة في الحنطة منوعة لا عيب وفي الدراهم عيب انتهى . أقول : فيه نظر ; لأن مفاد الجواب الثاني أن الرداءة في الدراهم عيب وفي الحنطة ليست بعيب لا أنها في الدراهم وصف وفي الحنطة ليست بوصف ، فلا يندفع به أصل السؤال لأن حاصله نقض القول بأن استثناء الوصف لا يجوز بجواز استثناء وصف الرداءة في الحنطة . على أنه لا يندفع به السؤال الثاني أيضا لأن حاصله طلب الفرق بين رداءة الحنطة وجودة الدراهم . ومفاد الجواب عنه بيان الفرق بين رداءة الحنطة ورداءة الدراهم .

ثم أقول : الباعث على شرحه المقام بالوجه المزبور هو أنه حسب أن قول المصنف رحمه الله : بخلاف ما إذا قال علي كر حنطة إلخ متعلق بما ذكره في قبيله وهو قوله لأن استثناء الوصف لا يجوز كاستثناء البناء في الدار فوقع فيما وقع ، ولكن لا يذهب على ذي فطرة سليمة أن قوله المذكور متعلق بما ذكره في أوائل دليل أبي حنيفة رحمه الله وهو قوله لأن مطلق العقد يقتضي السلامة عن العيب ، والزيافة عيب يرشد إليه قطعا قوله هاهنا فمطلق العقد لا يقتضي السلامة عنها بعد قوله لأن الرداءة نوع لا عيب . ثم أقول : وأما السؤال الذي ذكره الشارح المذكور بقوله : فإن قيل يستثنى الوصف كما إذا قال : له علي كر حنطة من ثمن عبد إلا أنها رديئة .

فجوابه أن يقال : ليس هناك استثناء حقيقة ، وإنما قوله إلا أنها رديئة بيان وتفسير للحنطة في قوله علي كر حنطة في صورة الاستثناء ، يرشد إليه أن صاحب الكافي قال في تقرير هذه المسألة بخلاف ما لو قال له علي كر بر من ثمن مبيع أو قرض ، ثم قال هو رديء فالقول قوله في ذلك وصل أم فصل ، لأن الرداءة ليست بعيب في البر انتهى حيث بدل قوله إلا أنها رديئة بقوله هو رديء تنبيها على أنه ليس مطمح النظر في هذه المسألة صيغة الاستثناء بل إن الرداءة في مثل البر ليست بعيب ، فظهر أن جعل قول المصنف لأن الرداءة نوع لا عيب جوابا عن السؤال المزبور من ضيق العطن .

فإن قلت : للسؤال المزبور جواب آخر أظهر مما ذكرته ، وهو أن قوله : إلا أنها رديئة ليس لاستثناء الوصف وهو الرداءة بل لاستثناء العين وهو الحنطة الرديئة ، فالمراد استثناء نوع من الحنطة وهو صحيح بلا ريب فلم تركت هذا الجواب ؟ قلت : لأنه ينتقض على أصل أبي حنيفة بما إذا قال إلا أنها زيوف فإنه لا يقبل عنده مع [ ص: 371 ] جريان أن يقال إنه ليس لاستثناء الوصف وهو الزيافة بل لاستثناء العين وهو الدراهم الزيوف ، ونحن الآن بصدد تتميم قول أبي حنيفة فلا مجال للتشبث بذلك الجواب هاهنا فتدبر ( وعن أبي حنيفة في غير رواية الأصول ) المراد بالأصول الجامعان والزيادات والمبسوط ، ويعبر عنها بظاهر الرواية . وعن الأمالي والنوادر والرقيات والهارونيات والكيسانيات بغير ظاهر الرواية ( أنه يصدق في الزيوف إذا وصل ) يعني في القرض ، كذا وقع في النهاية .

وقد وقع التصريح بهذا القيد في بعض النسخ بأن قال : وعن أبي حنيفة في غير رواية الأصول في القرض أنه يصدق في الزيوف إذا وصل يعني إذا قال لفلان علي ألف درهم قرض هي زيوف يصدق عنده في غير رواية الأصول إذا وصل قوله هي زيوف بقوله ألف درهم قرض ، أما إذا قطع كلامه ثم قال بعد زمان هي زيوف لا يصدق باتفاق الروايات ( لأن القرض يوجب مثل المقبوض ) يعني أن المستقرض إنما يصير مضمونا على المستقرض بالقبض فالقرض يوجب مثل المقبوض ( وقد يكون ) المقبوض في القرض ( زيفا كما في الغصب ) فالواجب حينئذ الزيف لأن القرض يقضى بالمثل كالغصب فيصدق فيه كما يصدق في الغصب .

أقول : لقائل أن يقول : هذا التعليل يقتضي أن يصدق في الزيوف في القرض وصل أم فصل كما في الغصب على ما سيأتي مع أنه لا يصدق في صورة القرض إذا فصل باتفاق الروايات كما صرحوا به ( ووجه الظاهر ) أي وجه ظاهر الرواية ( أن التعامل بالجياد ) يعني أن المتعارف في التعامل هو الجياد والمطلق ينصرف إلى المتعارف ( فانصرف مطلقه ) أي مطلق القرض ( إليها ) أي إلى الجياد فيجب عليه الجياد وبعد ذلك لا تقبل دعوى الزيافة لأنها رجوع عما أقر به .



( ولو قال لفلان علي ألف درهم زيوف ولم يذكر البيع والقرض ) أي ولو أرسل ولم يبين الجهة وادعى أنها زيوف ( قيل يصدق بالإجماع ) يعني إذا وصل ( لأن اسم الدراهم يتناولها ) أي يتناول الزيوف ولم يذكر ما يصرفها إلى الجياد ( وقيل لا يصدق ) قائل هذا هو الكرخي كما صرح به الإمام قاضي خان في شرح الجامع الصغير : أي لا يصدق عند أبي حنيفة وصل أم فصل ، وأما عندهما فيصدق إذا وصل ولا يصدق إذا فصل ، فحصل المعنى : وقيل هو على الاختلاف السابق أيضا كما صرحوا به ( لأن مطلق الإقرار ) بالدين ( ينصرف إلى العقود ) أي إلى الإلزام بسبب العقود ( لتعينها مشروعة ) أي لكونها هي المشروعة ( لا إلى الاستهلاك المحرم ) أي لا ينصرف إلى الإلزام بسبب الاستهلاك المحرم ، إذ لا يجوز حمل أمر المسلم على الحرام ما أمكن ، فصار هذا وما بين سبب التجارة سواء .

قال في الفتاوى الصغرى : ولو أرسل ولم يبين الجهة ثم قال هي زيوف قال الفقيه أبو جعفر : لم يذكر هذا في الأصول . فمن المشايخ من قال هو هذا الاختلاف ، [ ص: 372 ] ومنهم من قال هاهنا يصدق إجماعا لأن الجودة تجب على بعض الوجوه دون البعض فلا تجب مع الاحتمال انتهى .

( ولو قال اغتصبت منه ألفا أو قال أودعني ) أي أودعني ألفا ( ثم قال هي زيوف أو نبهرجة صدق وصل أم فصل ) هذه من مسائل الجامع الصغير ، قال المصنف في تعليلها ( لأن الإنسان يغصب ما يجد ويودع ما يملك فلا مقتضى له ) أي لواحد من الغصب والإيداع ( ولا تعامل ) بخلاف البيع فإن عقد البيع يقتضيها في الجياد : أي ولا تعامل في غصب الجياد ولا في إيداعها ، بخلاف القرض فإن التعامل فيه بالجياد فلا يكون قوله هي زيوف بعد الإقرار بغصب الألف أو إيداعها تغييرا لأول كلامه ( فيكون بيان النوع فيصح وإن فصل ) قال صاحب العناية : وفيه نظر . لأنه قد تقدم في قول أبي حنيفة أن الزيافة في الدراهم عيب فيكون ذكر الزيف رجوعا فلا يقبل أصلا ، فلا أقل من أن يكون بيانا مغيرا فلا يقبل مفصولا انتهى .

أقول : هذا النظر في غاية السقوط ; لأنه إنما يلزم من كون الزيافة عيبا في الدراهم كون ذكر الزيوف رجوعا أو بيانا مغيرا إن لم يتناول أول كلام المقر المعيوب وغير المعيوب على السواء ، بل كان مخصوصا بغير المعيوب وهو الجياد ، أما من جهة تحقق المقتضى كما في البيع أو التعامل كما في القرض . وإذ قد تبين في التعليل المذكور عدم تحقق مقتضى الجياد ولا التعامل بها في الغصب والإيداع تعين تناول أول كلام المقر الجياد والزيوف على السواء فلم يكن ذكر الزيوف في آخر كلامه رجوعا عما أقر به أصلا ولا بيانا مغيرا في شيء بل كان بيان النوع قطعا ، وقال صاحب العناية : ويمكن أن يجاب عنه بأنا قد ذكرنا أنها صفة والموصوف بها قد يكون متصفا بها من حيث الخلقة فيكون منوعا ليس إلا كما في الحنطة وقد لا يكون ، وحينئذ يجوز أن يكون منوعا وعيبا . والضابط في ذلك أن ينظر في الجهة الموجبة لها ، فإن اقتضت السلامة كانت الزيافة عيبا وإلا كانت نوعا ، وذلك لأنها لما اقتضتها تقيدت بها فلا يمكن أن تكون الزيافة نوعا منها لتباينها لكنها تنافيها تنافي التضاد فكانت عيبا ، لأن ضد السلامة عيب .

وإذا لم تقتضها كانتا نوعين لمطلق الدراهم لاحتماله إياهما لاحتمال الجنس الأنواع هذا ، انتهى كلامه . أقول : هذا كلام خال عن التحصيل ، أما أولا فلأن الزيافة في الدراهم مما لا يكون الموصوف بها متصفا بها من حيث الخلقة أصلا إذ هي أمر عارض للدراهم تخلو عنها الدراهم في أصل خلقتها ، وإنما التي قد يكون الموصوف بها متصفا بها من حيث الخلقة هي الرداءة في الحنطة كما مر وهي بمعزل عما نحن فيه ولا معنى لخلط ذلك هاهنا .

وأما ثانيا فلأن ما ذكره في الضابط من أن الجهة الموجبة للدراهم إن اقتضت السلامة كانت الزيافة عيبا ، وإلا كانت نوعا بمعقول المعنى ; لأن كون الزيافة في الدراهم عيبا أمر مقرر غير [ ص: 373 ] تابع لاقتضاء الجهة الموجبة لها السلامة ، وإنما تأثير اقتضائها السلامة عند أبي حنيفة في إخراج الدراهم الموصوفة بذلك العيب عن مطلق اسم الدراهم المذكورة في تلك الجهة لا في جعلها معيوبة ، وكذلك في كون الزيافة نوعا : أي منوعة ليس بتابع لعدم اقتضاء الجهة السلامة ، بل الزيافة كالجودة منوعة على كل حال ، فإن الجياد والزيوف نوعان من مطلق الدراهم قطعا سواء اقتضت الجهة السلامة أم لا ، وأما ثالثا فلأنه إن أراد بقوله : وإذا لم تقتضها كانتا نوعين لمطلق الدراهم أنهما حينئذ كانتا نوعين لمطلق الدراهم ولم تكن الزيافة عيبا فهو ممنوع ، بل الزيافة عيب على كل حال ، وكونها نوعا لا ينافي كونها عيبا ، فإن كون بعض الأنواع معيوبا بالنسبة إلى بعض الآخر ليس بعزيز ، وإنما لا تكون عيبا لو كانت في أصل خلقة الدراهم وليست كذلك ، وإن أراد بذلك أنهما حينئذ كانتا نوعين لمطلق الدراهم ، وإن كانت الزيافة عيبا أيضا فلا يحصل الجواب عن النظر المذكور بما ذكره أصلا كما لا يخفى على الفطن .

قال المصنف ( ولهذا ) أي ولأجل أن لا مقتضى له في الجياد ولا تعامل ( لو جاء راد المغصوب ) وهو الغاصب ( الوديعة ) أي وراد الوديعة وهو المودع ( بالمعيب ) متعلق بجاء : أي لو جاء رادهما بالمعيب ( كان القول له ) أي للراد فإن الاختلاف متى وقع في صفة المقبوض كان القول للقابض ضمينا كان أو أمينا ( وعن أبي يوسف أنه لا يصدق فيه ) أي في الغصب لا في الوديعة كما صرحوا به ( مفصولا ) أي إذا ادعى الزيافة مفصولا ( اعتبارا بالقرض ) أي قياسا عليه ( إذ القبض فيهما ) أي في الغصب والقرض ( هو الموجب للضمان ) يعني أن الجامع بينهما كون الموجب للضمان هو القبض ، وجوابه يفهم مما تقرر تدبر ( ولو قال : هي ستوقة أو رصاص بعدما أقر بالغصب الوديعة ووصل صدق وإن فصل لم يصدق ) هذه المسألة مما ذكروه في شروح الجامع الصغير تفريعا على المسألة المارة .

قال الإمام علاء الدين الإسبيجابي في شرح الكافي للحاكم الشهيد : وإن قال هي ستوقة أو رصاص صدق إن وصل ولم يصدق إذا فصل : يعني في الغصب الوديعة وذلك لأنها ليست من جنس الدراهم حقيقة وإن كانت من جنسها صورة ، فصار إرادتها باسم الدراهم كإرادة المجاز باسم الحقيقة ، وإذا بين أنه أراد باللفظ المجاز موصولا قبل وإلا فلا انتهى .

وعلل المصنف هذه المسألة بما علل به الإمام الإسبيجابي فقال ( لأن الستوقة ليست من جنس الدراهم ) أي ليست من جنسها حقيقة ولهذا لا يجوز التجوز بها في باب الصرف والسلم ( لكن الاسم ) أي اسم الدراهم ( يتناولها ) أي يتناول الستوقة ( مجازا ) للمشابهة بين الستوقة والدراهم من حيث الصورة ( فكان بيانا مغيرا ) لما اقتضاه أول كلامه ; لأن أول كلامه يتناول الدراهم صورة وحقيقة ، وبآخر كلامه بين أن مراده الدراهم صورة لا حقيقة ( فلا بد من الوصل ) لأن بيان التغيير يصح موصولا لا مفصولا ، بخلاف ما سبق لأن الزيوف والنبهرجة دراهم صورة وحقيقة فليس في بيانه تغيير لأول كلامه فصح موصولا ومفصولا ( وإن قال في هذا كله ) أي فيما ذكر من البيع والقرض والغصب والإيداع ( ألفا ثم قال : إلا أنه ينقص كذا لم يصدق ، وإن وصل صدق ) هذه من مسائل الجامع الصغير .

قال المصنف [ ص: 374 ] في تعليلها ( لأن هذا استثناء المقدار ) أي استثناء لبعض ما أقر به من المقدار ( والاستثناء يصح موصولا ) لا مفصولا فيصير الكلام عبارة عما وراء المستثنى ( بخلاف الزيافة لأنه وصف ) أي لأن الزيافة وصف ذكر الضمير باعتبار الوصف ( واللفظ يتناول المقدار دون الوصف ، وهو ) أي الاستثناء ( تصرف لفظي كما بينا ) فيما مر فيصح في متناول اللفظ دون غيره ( ولو كان الفصل ضرورة انقطاع الكلام ) أي لضرورة انقطاع الكلام بسبب انقطاع النفس أو أخذ السعال أو ما أشبه ذلك ( فهو واصل ) أي هو في حكم الواصل حتى يصح استثناؤه ( لعدم إمكان الاحتراز عنه ) لأن الإنسان قد يحتاج إلى أن يتكلم بكلام كثير ويذكر الاستثناء في آخره ، ولا يمكنه أن يتكلم بجميع ذلك بنفس واحد فكان عفوا .

قال فخر الدين قاضي خان في شرح الجامع الصغير : ولو فصل بينهما يفصل بطريق الضرورة بأن انقطع عنه الكلام ثم وصل ، فعن أبي يوسف أنه يصح استثناؤه وعليه الفتوى ; لأن الإنسان يحتاج إلى أن يتكلم بكلام كثير مع الاستثناء ولا يقدر أن يتكلم به بنفس واحد فجعل ذلك عفوا ، انتهى كلامه .

وقال الكاكي في معراج الدراية : وبه قال الأئمة الثلاثة ; يعني مالكا والشافعي وأحمد رحمهم الله تعالى .




الخدمات العلمية