الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 317 ] ( كتاب الإقرار ) .

التالي السابق


[ ص: 317 ] كتاب الإقرار ) ذكر كتاب الدعوى مع ذكر ما يقفوه من الكتب من الإقرار والصلح والمضاربة الوديعة ظاهر التناسب ، وذلك لأن دعوى المدعي إذا توجهت إلى المدعى عليه فأمره لا يخلو إما أن يقر أو ينكر ، وإنكاره سبب للخصومة والخصومة مستدعية للصلح ، قال الله تعالى : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما } وبعدما حصل له من المال إما بالإقرار أو بالصلح فأمر صاحب المال لا يخلو إما أن يستربح منه أو لا ، فإن استربح فلا يخلو إما أن يستربح بنفسه أو بغيره ، وقد ذكر استرباحه بنفسه في كتاب البيوع للمناسبة التي ذكرناها هناك بما قبله ، وذكر هاهنا استرباحه بغيره وهو المضاربة ، وإن لم يستربح فلا يخلو إما أن يحفظه بنفسه أو بغيره ، ولم يذكر حفظه بنفسه لأنه لم يتعلق به حكم في المعاملات فبقي حفظه بغيره وهو الوديعة ، كذا في الشروح .



ثم إن محاسن الإقرار كثيرة : منها إسقاط واجب الناس عن ذمته ، وقطع ألسنتهم عن مذمته . ومنها إيصال الحق إلى صاحبه وتبليغ المكسوب إلى كاسبه فكان فيه إنفاع صاحب الحق وإرضاء خالق الخلق . ومنها إحماد الناس المقر بصدق القول ووصفهم إياه بوفاء العهد وإنالة النول . ثم إن هاهنا احتياجا إلى بيان الإقرار لغة وشريعة ، وبيان سببه وشرطه وركنه وحكمه ودليل كونه حجة . أما الإقرار لغة فهو إفعال من قر الشيء إذا ثبت ، فالإقرار إثبات لما كان متزلزلا بين الإقرار والجحود ، كذا في النهاية ومعراج الدراية . وأما شريعة فهو إخبار عن ثبوت حق للغير على نفسه كذا في الكافي وعامة المتون والشروح . وقال في العناية الإقرار مشتق من القرار فكان في اللغة عبارة عن إثبات ما كان متزلزلا . وفي الشريعة : عبارة عن الإخبار عن ثبوت الحق انتهى .

أقول : لقد أصاب صاحب العناية في بيان معنى الإقرار لغة ولم يصب في بيان معناه شريعة . أما الأول فلأن أخذ الإقرار في تعريف معنى الإقرار لغة كما فعله صاحب النهاية ومعراج الدراية مع كونه مؤديا إلى المصادرة مما يختل به المعنى ، إذ لا معنى [ ص: 318 ] لكون إثبات ما كان متزلزلا بين الشيئين المخصوصين هو أحد ذينك الشيئين كما لا يخفى . وأيضا إن الإقرار في اللغة ليس بمخصوص بإثبات ما تزلزل بين الشيئين المخصوصين ، بل هو عام لإثبات كل ما تزلزل بين الشيئين مطلقا كما يدل عليه مأخذ اشتقاقه وهو القرار بمعنى الثبوت مطلقا .

وأما الثاني فلأن الإخبار عن ثبوت الحق يتناول الدعوة والشهادة أيضا

وإنما يمتاز الإقرار الشرعي عنهما بقيد للغير عن نفسه فإن الدعوى إخبار عن ثبوت الحق لنفسه على الغير ، والشهادة إخبار عن ثبوت الحق للغير على الغير ، فإذا زيد في تعريف الإقرار الشرعي قيد للغير على نفسه كما فعله عامة الفقهاء يخرج عنه الدعوى والشهادة .

وأما إذا أطلق وقيل هو عبارة عن الإخبار عن ثبوت الحق كما فعله صاحب العناية فيدخل فيه الدعوى والشهادة فيختل التعريف ثم أقول : في تعريف العامة أيضا شيء ، أما أولا فلأنه قد تقرر في كتب الأصول أن التصرفات إما إثباتات كالبيع والإجارة والهبة ونحوها ، وإما إسقاطات كالطلاق والعتاق والعفو عن القصاص ونحوها . ولا يخفى أن الإخبار عن ثبوت حق للغير على نفسه لا يصدق على الإقرار بقسم الإسقاطات فيلزم أن لا يكون تعريفهم المذكور جامعا . وأما ثانيا فلأن إقرار المكره لآخر بشيء من الحقوق غير صحيح شرعا على ما صرحوا به ، مع أنه يصدق عليه أنه إخبار عن ثبوت حق للغير على نفسه فيلزم أن لا يكون تعريفهم المزبور مانعا .

ويمكن أن يجاب عن الثاني بأن كون إقرار المكره غير صحيح شرعا ، إنما يقتضي أن لا يكون صحيحا شرعا لا أن لا يكون إقرارا مطلقا في الشرع ، فيجوز أن يكون مقصودهم تعريف ما يطلق عليه الإقرار في الشرع سواء كان صحيحا أو فاسدا ، وعن هذا ترى التعريفات الشرعية لكثير من العقود كالبيع والإجارة ونحوهما يتناول الصحيح منه والفاسد ، حتى إن كثيرا منهم تركوا قيد التراضي في تعريف البيع بحسب الشرع ليتناول بيع المكره كسائر البيعات الفاسدة كما صرحوا به في موضعه . وأما سبب الإقرار فإرادة إسقاط الواجب عن ذمته بإخباره وإعلامه لئلا يبقى في تبعة الواجب . وأما شرطه فسيأتي في الكتاب . وأما ركنه فالألفاظ المذكورة فيما يجب به موجب الإقرار . وأما حكمه فظهور ما أقر به لا ثبوته [ ص: 319 ] ابتداء ; ألا يرى أنه لا يصح الإقرار بالطلاق والعتاق مع الإكراه ، والإنشاء يصح مع الإكراه عندنا ، ولهذا قالوا : لو أقر لغيره بمال والمقر له يعلم أنه كاذب في إقراره لا يحل له أخذه عن كرمه منه فيما بينه وبين الله تعالى إلا أن يسلمه بطيب من نفسه فيكون تمليكا مبتدأ على سبيل الهبة ، والملك يثبت للمقر له بلا تصديق وقبول ولكن يبطل برده ، والمقر له إذا صدقه ثم رده لا يصح رده ، كذا في الكافي وغيره .

وقال صاحب النهاية ومن يحذو حذوه : وحكمه لزوم ما أقر به على المقر ، وعمله إظهار المخبر به لغيره لا التمليك به ابتداء . ويدل عليه مسائل : إحداها أن الرجل إذا أقر بعين لا يملكه يصح إقراره حتى لو ملكه المقر يوما من الدهر يؤمر بتسليمه إلى المقر له ، ولو كان الإقرار تمليكا مبتدأ لما صح ذلك لأنه لا يصح تمليك ما ليس بمملوك له . والثانية أن الإقرار بالخمر للمسلم يصح حتى يؤمر بالتسليم إليه ، ولو كان تمليكا مبتدأ لم يصح . والثالثة أن المريض الذي لا دين عليه إذا أقر بجميع ماله لأجنبي صح إقراره ولا يتوقف على إجازة الورثة ، ولو كان تمليكا مبتدأ لم ينفذ إلا بقدر الثلث عند عدم إجازتهم .

والرابعة أن العبد المأذون إذا أقر لرجل بعين في يده صح إقراره ، ولو كان الإقرار سببا للملك ابتداء كان تبرعا من العبد وهو لا يجوز في الكثير . وأما دليل كونه حجة على المقر فالكتاب والسنة وإجماع الأمة ونوع من المعقول . أما الكتاب فقوله تعالى { وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا } بيانه أن الله تعالى أمر بإملاء من عليه الحق ، فلو لم يلزمه بالإملاء شيء لما أمر به والإملاء لا يتحقق إلا بالإقرار ، وأيضا نهى عن الكتمان وهو آية على لزوم ما أقر به كما في نهي الشهود عن كتمان الشهادة .

وقوله تعالى { قال ءأقررتم وأخذتم على ذالكم إصري قالوا أقررنا } بيانه أنه طلب منهم الإقرار ، ولو لم يكن الإقرار حجة لما طلبه . وقوله تعالى { كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم } قال المفسرون : شهادة المرء على نفسه إقرار . " وقوله تعالى { بل الإنسان على نفسه بصيرة } قال ابن عباس رضي الله عنهما : أي شاهد بالحق " وأما السنة فما روي { أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم ماعزا بإقراره بالزنا والغامدية باعترافها ، } وقال في قصة العسيف : { واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها } فأثبت الحد بالاعتراف والحديثان مشهوران في كتب الحديث ، فلو لم يكن الإقرار حجة لما طلبه وأثبت الحد به وإذا كان حجة فيما يندرئ بالشبهات فلأن يكون حجة في غيره أولى وأما الإجماع فإن المسلمين أجمعوا على كون الإقرار حجة من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا من غير نكير .

وأما المعقول فلأن الخبر كان مترددا بين الصدق والكذب في الأصل ، لكن ظهر رجحان الصدق على الكذب لوجود الداعي إلى الصدق والصارف عن الكذب ، لأن عقله ودينه يحملانه على الصدق ويزجرانه عن الكذب ، ونفسه الأمارة بالسوء ربما تحمله على الكذب في حق الغير ، أما في حق نفسه فلا فصار عقله ودينه وطبعه دواعي إلى الصدق زواجر عن الكذب ، فكان الصدق ظاهرا فيما أقر به على نفسه فوجب قبوله والعمل به .




الخدمات العلمية