الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 80 - 82 ] قال ( والوكيل بالشراء يجوز عقده بمثل القيمة وزيادة يتغابن الناس في مثلها ، ولا يجوز بما لا يتغابن الناس في مثله ) [ ص: 83 ] لأن التهمة فيه متحققة فلعله اشتراه لنفسه ، فإذا لم يوافقه ألحقه بغيره على ما مر ، حتى لو كان وكيلا بشراء شيء بعينه قالوا ينفذ على الآمر ; لأنه لا يملك شراءه لنفسه ، وكذا الوكيل بالنكاح إذا زوجه امرأة بأكثر من مهر مثلها جاز عنده ; لأنه لا بد من الإضافة إلى الموكل في العقد فلا تتمكن هذه التهمة ، ولا كذلك الوكيل بالشراء ; لأنه يطلق العقد . [ ص: 84 ] قال ( والذي لا يتغابن الناس فيه ما لا يدخل تحت تقويم المقومين ، وقيل في العروض " ده نيم " وفي الحيوانات " ده يازده " وفي العقارات " ده دوازده " ) [ ص: 85 ] لأن التصرف يكثر وجوده في الأول ويقل في الأخير ويتوسط في الأوسط وكثرة الغبن لقلة التصرف .

التالي السابق


( قال ) أي القدوري في مختصره ( والوكيل بالشراء يجوز عقده بمثل القيمة وزيادة يتغابن الناس في مثلها ) وهي الغبن اليسير ( ولا يجوز بما لا يتغابن الناس في مثله ) وهو الغبن الفاحش . وقال في شرح الأقطع : وعن أبي حنيفة رواية أخرى أنه يجوز بالقليل والكثير [ ص: 83 ] لعموم الأمر ، كذا في غاية البيان . علل المصنف ما في الكتاب بقوله ( لأن التهمة فيه ) أي في الشراء ( متحققة فلعله ) أي فلعل الوكيل ( اشتراه ) أي اشترى الشيء الذي وكل به ( لنفسه ) أي لأجل نفسه ( فإذا لم يوافقه ألحقه بغيره ) وهو الموكل ( على ما مر ) إشارة إلى ما ذكره في فصل الشراء بقوله ; لأنه موضع تهمة بأن اشتراه لنفسه ، فإذا رأى الصفقة خاسرة ألزمها الآمر انتهى .

والتهمة في باب الوكالة معتبرة ، ولأن الوكيل بالشراء يستوجب الثمن في ذمة نفسه ويوجب لنفسه مثله في ذمة الآمر ، والإنسان متهم في حق نفسه فلا يملك أن يلزم الآمر الثمن ما لم يدخل في ملكه بإزائه ما يعدله ، ولهذا لو قال : اشتريت وقبضت وهلك في يدي فهات الثمن لا يقبل قوله ، بخلاف الوكيل بالبيع ، فإنه لو قال : بعت وقبضت الثمن وهلك عندي كان القول قوله ، ولأن أمره بالشراء يلاقي ملك الغير ، وليس للإنسان ولاية مطلقة في ملك الغير فلا يعتبر إطلاق أمره فيه ، بخلاف البيع فإن أمره يلاقي ملك نفسه وله في ملك نفسه ولاية مطلقة ولأن اعتبار العموم أو الإطلاق في التوكيل بالشراء غير ممكن ; لأنه لو اعتبر ذلك لاشترى ذلك المتاع بجميع ما يملكه الموكل وبما لا يملكه من المال ، ونحن نعلم أنه لا يقصد ذلك فحملناه على أخص الخصوص وهو الشراء بالنقد بغبن يسير ، وفي جانب البيع اعتبار العموم ، والإطلاق ممكن ; لأنه لا يتسلط به على شيء من ماله سوى المبيع الذي رضي بزوال ملكه عنه .

وهذه فروق أربعة بين الوكيل بالبيع والوكيل بالشراء في الغبن الفاحش ذكرت في كتاب البيوع من المبسوط ( حتى لو كان وكيلا بشراء شيء بعينه قالوا ) أي المشايخ ( ينفذ على الآمر ) أي ينفذ العقد على الآمر وإن كان الغبن الفاحش لانتفاء التهمة ( لأنه ) أي الوكيل ( لا يملك شراءه ) أي شراء ذلك الشيء المعين ( لنفسه ) وأراد بقوله قالوا عامة المشايخ فإن بعضهم قال : يتحمل فيه الغبن اليسير لا الفاحش . وقال بعضهم : لا يتحمل فيه الغبن اليسير أيضا كما في الذخيرة وغيرها ( وكذا الوكيل بالنكاح إذا زوجه ) أي زوج موكله ( امرأة بأكثر من مهر مثلها جاز عنده ) أي عند أبي حنيفة ، ذكره محمد في الأصل في أول باب الوكالة في النكاح حيث قال : وإذا وكل رجل رجلا أن يزوجه امرأة بعينها فزوجها إياه فهو جائز ، فإن زادها على مهر مثلها فهو جائز في قول أبي حنيفة ، وفي قول أبي يوسف ومحمد إذا زوجها بما يتغابن الناس في مثله فهو جائز ، وإن زاد أكثر من ذلك لم يلزم الزوج النكاح إلا أن يرضاه ، وإذا وكل رجل رجلا أن يزوج امرأة بعينها فتزوجها الوكيل فهو جائز وهي امرأته ، ولا يشبه هذا الشراء لو أمره أن يشتري عبدا بعينه فاشتراه الوكيل لنفسه كان العبد للآمر ، إلى هنا لفظ الأصل .

قال المصنف في تعليل ما في الكتاب ( لأنه ) أي الوكيل بالنكاح ( لا بد من الإضافة إلى الموكل في العقد ) أي في عقد النكاح ( فلا تتمكن هذه التهمة ) أي تهمة أن يعقد أولا لنفسه ثم يلحقه بغيره ( ولا كذلك الوكيل بالشراء ; لأنه يطلق العقد ) أي لا يضيفه إلى الموكل حيث يقول اشتريت ولا يقول اشتريت لفلان ، يعني يجوز له الإطلاق ولا يجب عليه الإضافة إلى الموكل فتتمكن تلك التهمة . قال شيخ الإسلام خواهر زاده : جواز عقد الوكيل بالشراء بزيادة يتغابن الناس في مثلها فيما ليس له قيمة معلومة عند أهل البلد كالعبيد والدواب وغير ذلك ، وأما ماله قيمة معلومة عندهم كالخبز [ ص: 84 ] واللحم وغيرهما ، فإذا زاد الوكيل بالشراء على ذلك لا يلزم الآمر وإن قلت الزيادة كالفلس مثلا ( قال ) في بيوع التتمة وبه يفتي ( والذي لا يتغابن الناس فيه لا يدخل تحت تقويم المقومين ) هذا لفظ القدوري في مختصره . ويفهم منه أن مقابله مما يتغابن فيه . قال في الذخيرة : تكلموا في الحد الفاصل بين الغبن اليسير والغبن الفاحش ، والصحيح ما روي عن محمد رحمه الله في النوادر أن كل غبن يدخل تحت تقويم المقومين فهو يسير ، وما لا يدخل تحت تقويم المقومين فهو فاحش . قال : وإليه أشار في الجامع في تعليل مسألة الزكاة .

قال المصنف ( وقيل في العروض " ده نيم " وفي الحيوانات " ده يازده " وفي العقارات " ده دوازده " ) اعلم أن ظاهر سوق الكلام هاهنا يشعر بأن يكون مراده بذكر هذا القول تفسير الغبن الفاحش ; لأن صريح ما ذكره سابقا كان تفسيرا للغبن الفاحش ، فإذا قال بعده : وقيل في العروض إلخ كان المتبادر منه أن يكون هذا أيضا تفسيرا للغبن الفاحش ، وأما الذي يقتضيه التطبيق لما عين في سائر المعتبرات أن يكون مراده بذلك تفسيرا للغبن اليسير ، وعن هذا كان الشراح هاهنا فرقتين : فمنهم من تردد في تعيين مراده وجعل كلامه محتملا للمعنيين ولكن ذكر كل واحد منهما بقيل لا من عند نفسه ، ومنهم من جزم بالثاني فقال هذا بيان الغبن اليسير ولم يذكر الاحتمال الآخر .

وقال الشارح الكاكي من هذه الفرقة : وكان قوله وقيل معطوفا على ما تضمنه قوله ما لا يدخل تحت تقويم المقومين ، فإنه إذا كان الغبن الفاحش ما لا يدخل تحت تقويمهم كان ما يدخل تحت تقويمهم غبنا يسيرا . والحق عندي أن يكون تفسيرا للغبن اليسير ; لأنه هو الموافق لما ذكره جمهور الفقهاء . وعامة المشايخ في كتبهم المعتبرة ، منهم الإمام البارع علاء الدين الإسبيجابي فإنه قال في شرح الطحاوي : وروي عن نصير بن يحيى أنه قال : قدر ما يتغابن الناس في العروض " ده نيم " وفي الحيوان " ده يازده " وفي العقار " ده دوازده " انتهى . ومنهم الشيخأبو المعين النسفي ، فإنه قال في شرح الجامع الكبير : اختلف المشايخ في الحد الفاصل بين القليل والكثير : منهم من قال ما يتغابن الناس فيه قليل [ ص: 85 ] وما لا يتغابن الناس فيه كثير ، ومنهم من قال ما يدخل تحت تقويم المقومين فهو قليل وما لا يدخل فهو كثير ، ومنهم من قال ذلك مفوض إلى رأي القاضي . ومحمد قدر في هذا الكتاب : يعني في الجامع الكبير بده نيم ومشايخ بلخ فصلوا ذلك على ما قال الفقيه أبو القاسم بن شعيب . حكي عنهم أنهم قدروا اليسير في العقار بده دوازده ، وفي الحيوان بده يازده ، وفي العروض بده نيم انتهى كلامه . إلى غير ذلك من الأئمة الكبار المتفقين على جعل ذلك تفسيرا للغبن اليسير .

هذا وإنما كان التقدير في الأقسام المذكورة على الوجه المذكور ( لأن التصرف يكثر وجوده في الأول ) وهو العروض ( ويقل في الأخير ) وهو العقارات ( ويتوسط في الأوسط ) وهو الحيوان ( وكثرة الغبن لقلة التصرف ) ; لأن الغبن يزيد بقلة التجربة وينقص بكثرتها ، وقلتها وكثرتها بقلة التصرف وكثرته ، ثم إن عشرة دراهم نصاب تقطع به يد محترمة فجعلت أصلا والدرهم مال يحبس لأجله فقد لا يتسامح به في المماكسة فلم يعتبر فيما كثر وقوعه يسيرا والنصف من النصفة فكان يسيرا وضوعف بعد ذلك بحسب الوقوع ، فما كان أقل وقوعا منه اعتبر فيه ضعفه ، وما كان أقل من الأقل اعتبر فيه ضعف ضعفه




الخدمات العلمية