الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
. قال ( وإذا قال المدعي لي بينة حاضرة قيل [ ص: 193 ] لخصمه أعطه كفيلا بنفسك ثلاثة أيام ) كي لا يغيب نفسه فيضيع حقه والكفالة بالنفس جائزة عندنا وقد مر من قبل ، وأخذ الكفيل بمجرد الدعوى استحسان عندنا لأن فيه نظرا للمدعي وليس فيه كثير ضرر بالمدعى عليه وهذا لأن الحضور مستحق عليه بمجرد الدعوى حتى يعدى عليه ويحال بينه وبين أشغاله فصح التكفيل بإحضاره والتقدير بثلاثة أيام مروي عن أبي حنيفة رحمه الله ، وهو الصحيح ، ولا فرق في الظاهر بين الخامل والوجيه [ ص: 194 ] والحقير من المال والخطير ، ثم لا بد من قوله لي بينة حاضرة للتكفيل ومعناه في المصر ، حتى لو قال المدعي لا بينة لي أو شهودي غيب لا يكفل لعدم الفائدة . قال ( فإن فعل وإلا أمر بملازمته ) كي لا يذهب حقه ( إلا أن يكون غريبا فيلازم مقدار مجلس القاضي ) وكذا لا يكفل إلا إلى آخر المجلس ، فالاستثناء منصرف إليهما لأن في أخذ الكفيل والملازمة زيادة على ذلك إضرارا به بمنعه عن السفر ولا ضرر في هذا المقدار ظاهرا ، وكيفية الملازمة نذكرها في كتاب الحجر إن شاء الله تعالى .

التالي السابق


( قال ) أي القدوري في مختصره ( وإذا قال المدعي لي بينة حاضرة قيل [ ص: 193 ] لخصمه أعطه كفيلا بنفسك ثلاثة أيام كي لا يغيب نفسه ) أي كي لا يغيب خصمه نفسه ( فيضيع حقه ) أي حق المدعي ، ويجب أن يكون الكفيل ثقة معروف الدار حتى تحصل فائدة التكفيل وهي الاستيثاق ، كذا في الكافي وغيره ( والكفالة بالنفس جائزة عندنا ) خلافا للشافعي ( وقد مر من قبل ) أي وقد مر جواز الكفالة بالنفس من قبل : أي في أول كتاب الكفالة ( وأخذ الكفيل بمجرد الدعوى استحسان عندنا . )

اعلم أن أخذ الكفيل مما اختلف فيه السلف . روي عن قتادة والشعبي أنه لا يجوز . وروي عن إبراهيم النخعي أنه يجوز ، وهذا هو الاستحسان أخذ به علماؤنا ، والقياس أن لا يجوز . وجه القياس أن مجرد الدعوى ليس بسبب للاستحقاق كيف وقد عارضه المدعى عليه بالإنكار فلا يجب عليه إعطاء الكفيل .

ووجه الاستحسان ما ذكره بقوله ( لأن فيه ) أي في أخذ الكفيل ( نظرا للمدعي ) إذ لا يغيب حينئذ خصمه فيتمكن من إقامة البينة عليه ( وليس فيه كثير ضرر بالمدعى عليه ، وهذا لأن الحضور مستحق عليه ) أي على المدعى عليه ( بمجرد الدعوى حتى يعدى عليه ) من الإعداء على لفظ المجهول .

يقال استعدى فلان الأمير على من ظلمه : أي استعان به فأعداه الأمير عليه : أي أعانه الأمير عليه ونصره ، ومنه قول الشاعر

: ونستعدي الأمير إذا ظلمنا ومن يعدي إذا ظلم الأمير

كذا في النهاية وغيرها ( ويحال بينه وبين أشغاله ) من الحيلولة على لفظ المجهول أيضا ( فيصح التكفيل بإحضاره ) بمجرد الدعوى ( والتقدير بثلاثة أيام مروي عن أبي حنيفة وهو الصحيح ) احترازا عما روي عن أبي يوسف أنه يؤخذ الكفيل إلى المجلس الثاني ( ولا فرق في الظاهر ) أي في ظاهر الرواية ( بين الخامل والوجيه ) يقال خمل الرجل خمولا : إذا كان ساقط [ ص: 194 ] القدر ( والحقير من المال والخطير ) أي وبين الحقير من المال والخطير : أي الشريف .

وعن محمد أنه إذا كان معروفا أو الظاهر من حاله أنه لا يخفى نفسه بذلك القدر لا يجبر على إعطاء الكفيل ، وكذا لو كان المدعي حقيرا لا يخفى المرء نفسه بذلك القدر لا يجبر على إعطاء الكفيل ( ثم لا بد من قوله لي بينة حاضرة للتكفيل ومعناه في المصر ) أي معنى قوله حاضرة : حاضرة في المصر ( حتى لو قال المدعي لا بينة لي أو شهودي غيب ) بفتحتين مخففة الياء أو بضم الغين مشددة الياء ( لا يكفل ) أي لا يكفل خصمه ( لعدم الفائدة ) لأن الفائدة هي الحضور عند حضور الشهود وذلك في الهالك محال ، والغائب كالهالك من وجه ، إذ ليس كل غائب يئوب ( قال ) أي القدوري في مختصره ( فإن فعل ) أي فإن أعطى خصمه الكفيل فيها ( وإلا ) أي وإن لم يعط ( أمر بملازمته ) أي أمر المدعي بملازمة خصمه ( كي لا يذهب حقه ) أي حق المدعي ( إلا أن يكون غريبا ) أي إلا أن يكون المدعى عليه غريبا ( على الطريق ) أي مسافرا ( فيلازم ) أي فيلازم المدعي المدعى عليه ( مقدار مجلس القاضي ، وكذا لا يكفل إلا إلى آخر المجلس ) أي وكذا لا يكفل المدعى عليه إذا كان مسافرا إلا إلى آخر مجلس القاضي ( فالاستثناء منصرف إليهما ) أي الاستثناء المذكور في مختصر القدوري بقوله إلا أن يكون غريبا منصرف إلى التكفيل والملازمة جميعا ( لأن في أخذ الكفيل والملازمة زيادة على ذلك ) أي على مقدار مجلس القاضي ( إضرارا به ) أي بالمدعى عليه ( بمنعه عن السفر ، ولا ضرر في هذا المقدار ) أي في مقدار مجلس القاضي ( ظاهرا ) أي من حيث الظاهر لأن بهذا القدر لا ينقطع عن الرفقة .

فإذا جاء أوان قيام القاضي عن مجلسه ولم يحضر المدعي بينته فإن القاضي يحلف المدعى عليه ويخلي سبيله ليذهب حيث شاء ، فإن اختلف الطالب والمطلوب فقال المطلوب أنا مسافر وقال الطالب إنه لا يريد السفر تكلموا فيه بأقوال . قال بعضهم : القول قول المدعي لأنه متمسك بالأصل فإن الأصل هو الإقامة والسفر عارض فيكون القول قول من تمسك بالأصل . وقال بعضهم : القاضي يسأله مع من يريد السفر ؟ فإن أخبره مع فلان والقاضي يبعث إلى الرفقة أمينا من أمنائه يسأل إن فلانا هل استعد للخروج معكم ، فإن من أراد السفر لا بد أن يكون مستعدا لذلك ، قال الله تعالى { ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة } فإن قالوا نعم قد استعد لذلك انضم قولهم إلى قوله فيقبل ذلك منه فيمهله إلى آخر المجلس ، فإن أحضر المدعي بينته في هذه المدة وإلا خلي سبيل المطلوب ، وإن لم يعلموا من حاله فنحن نعلم أنه يبقى ثلاثة أيام لأجل الاستعداد فقلنا بأنه يجبر على إعطاء الكفيل ثلاثة أيام ، كذا في غاية البيان .

قال المصنف ( وكيفية الملازمة نذكرها في كتاب الحجر إن شاء الله تعالى ) والذي يذكره المصنف هناك هو أنه يدور معه أينما دار ولا يجلسه في موضع لأنه حبس ، ولو دخل داره لا يتبعه بل يجلس على باب داره إلى أن يخرج ; لأن الإنسان لا بد أن يكون له موضع خلوة انتهى . وقال في الفتاوى الصغرى : وتفسير الملازمة أن يدور معه حيث دار ويبعث أمينا حتى يدور معه أينما دار ، لكن لا يجلسه في موضع لأن ذلك حبس وهو غير مستحق عليه بنفس الدعوى ولا يشغله عن التصرف بل هو يتصرف والمدعي يدور معه ، وإذا انتهى المطلوب إلى داره فإن الطالب لا يمنعه من الدخول على أهله ، بل يدخل المطلوب على أهله والطالب الملازم يجلس على باب داره .

ثم قال : رأيت في الزيادات في الباب الخامس والأربعين أن المطلوب إذا أراد أن يدخل بيته فإما أن يأذن المدعي بالدخول معه أو يجلس معه على باب الدار لأنه لو تركه حتى دخل الدار وحده فربما يهرب من جانب آخر فيفوت ما هو المقصود من الملازمة انتهى .




الخدمات العلمية