الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( فإن قال : لفلان علي شيء لزمه أن يبين ما له قيمة لأنه أخبر عن الوجوب في ذمته ، وما لا قيمة له لا يجب فيها ) ، فإذا بين غير ذلك يكون رجوعا . قال ( والقول قوله مع يمينه إن ادعى المقر له أكثر من ذلك ) [ ص: 326 ] لأنه هو المنكر فيه ( وكذا إذا قال لفلان علي حق ) لما بينا ، وكذا لو قال : غصبت منه شيئا ويجب أن يبين ما هو مال يجري فيه التمانع تعويلا على العادة .

التالي السابق


( فإن قال : لفلان علي شيء لزمه أن يبين ما له قيمة ) هذا لفظ القدوري في مختصره . قال المصنف في تعليله ( لأنه أخبر عن الوجوب في ذمته ) كما يدل عليه لفظة علي لأنها للإيجاب والإلزام ( وما لا قيمة له لا يجب فيها ) أي في الذمة ( فإذا بين غير ذلك ) أي غير ما له قيمة ( يكون رجوعا ) عن الإقرار فلا يقبل ( قال ) أي القدوري في مختصره : ( والقول قوله ) أي قول المقر ( مع يمينه إن ادعى المقر له أكثر من ذلك ) أي مما بينه ، يعني إذا بين المقر ما له قيمة مما يثبت في الذمة [ ص: 326 ] مكيلا كان أو موزونا أو عدديا نحو كر حنطة أو فلس أو جوزة ، فإما أن يساعده المقر له أو لا ، فإن ساعده أخذه ، وإن لم يساعده بل ادعى عليه الزيادة فالقول قول المقر مع يمينه ( لأنه ) أي لأن المقر ( هو المنكر فيه ) أي فيما يدعي عليه المقر له من الزيادة ، والقول قول المنكر مع يمينه .

قال المصنف ( وكذا إذا قال لفلان علي حق ) أي لزمه هنا أيضا أن يبين ما له قيمة ( لما بينا ) أنه أخبر عن الوجوب في ذمته وما لا قيمة له لا يجب فيها . وذكر في المحيط والمستزاد : ولو قال الرجل لفلان علي حق ثم قال مفصولا عنيت به حق الإسلام لا يصدق ، وإن قال موصولا يصدق لأنه بيان يعتبر باعتبار العرف لأنه لا يراد به في العرف حق الإسلام وإنما يراد به حقوق مالية ، كذا في الكافي ( وكذا لو قال : غصبت منه شيئا ) هذه من مسائل المبسوط ذكرها المصنف تفريعا على مسألة القدوري يعني لو قال : غصبت من فلان شيئا صح إقراره ولزمه البيان أيضا . والحاصل أن كل تصرف لا يشترط لصحته وتحققه إعلام ما صادفه ذلك التصرف فالإقرار به مع الجهالة صحيح ، وذلك كالغصب الوديعة فإن الجهالة لا تمنع تحقق الغصب الوديعة ، فإن من غصب من رجل مالا مجهولا في كيس أو أودعه مالا مجهولا في كيس فإنه يصح الغصب الوديعة ويثبت حكمهما ، وكل تصرف يشترط لصحته وتحققه إعلام ما صادفه ذلك التصرف فالإقرار به مع الجهالة لا يصح وذلك كالبيع والإجارة ، فإن من أقر أنه باع من فلان شيئا أو أجر من فلان شيئا أو اشترى من فلان كذا بشيء لا يصح ولا يجبر المقر على تسليم شيء ، وهذا لأن الثابت بالإقرار كالثابت معاينة .

ولو عاينا أنه باع منه شيئا مجهولا لا يجب تسليم شيء بحكم هذا البيع لكونه فاسدا فكذا إذا ثبت بالإقرار ، ولو عاينا أنه غصب شيئا مجهولا في كيس يجبر على الرد فكذا إذا ثبت بالإقرار ، وإذا صح الإقرار بالغصب مع الجهالة يجبر المقر على البيان حقا للمقر له ، كذا في الكافي والمحيط البرهاني ( ويجب أن يبين ما هو مال يجري فيه التمانع تعويلا على العادة ) أي اعتمادا عليها . واعلم أنه ذكر في المبسوط : رجل قال : غصبت من فلان شيئا فالإقرار صحيح ويلزمه ما يبينه ، ولا بد أن يبين شيئا هو مال لأن الشيء حقيقة اسم لما هو موجود مالا ، كان أو غير مال ، إلا أن لفظ الغصب دليل على المالية فيه ، فإن الغصب لا يرد إلا على ما هو مال ، وما ثبت بدلالة اللفظ فهو كالملفوظ كقوله : اشتريت من فلان شيئا يكون إقرارا بشراء ما هو مال لأن الشراء لا يتحقق إلا فيه ، ولا بد أن يبين ما لا يجري فيه التمانع بين الناس ، حتى لو فسره بحبة حنطة لا يقبل ذلك منه لأن إقراره بالغصب دليل على أنه كان ممنوعا من جهة صاحبه حتى غلب عليه فغصبه وهذا مما يجري فيه التمانع ، فإذا بين شيئا بهذه الصفة قبل بيانه لأن هذا بيان مقرر لأصل كلامه وبيان التقرير يصح موصولا كان أو مفصولا ، ويستوي أن يبين شيئا يضمن بالغصب أو لا يضمن بعد أن يكون بحيث يجري فيه التمانع حتى إذا بين أن المغصوب خمر فالقول قوله وكذلك إن بين أن المغصوب دار فالقول قوله ، وإن كانت لا تضمن بالغصب عند أبي حنيفة .

واختلف المشايخ فيما إذا بين أن المغصوب زوجته أو ولده فمنهم من يقول : بيانه مقبول لأنه موافق لمبهم كلامه فإن لفظ الغصب يطلق على الزوج والولد عادة ، والتمانع [ ص: 327 ] فيه يجري بين الناس أكثر مما يجري في الأموال . وأكثرهم على أنه لا يقبل بيانه بهذا لأن حكم الغصب لا يتحقق إلا فيما هو مال فبيانه بما ليس بمال يكون إنكارا لحكم الغصب بعد إقراره بسببه وذلك غير صحيح منه ، إلى هنا لفظ المبسوط .

وصرح في الإيضاح وغيره بأن الأول وهو قبول بيانه بأن المغصوب زوجته أو ولده اختيار مشايخ العراق .

والثاني وهو عدم قبول بيانه بذلك اختيار مشايخ ما وراء النهر . وإذا قد عرفت ذلك تبين لك أن المصنف اختار هاهنا قول مشايخ ما وراء النهر حيث قال : ويجب أن يبين ما هو مال يجري فيه التمانع تعويلا على العادة : يعني أن مطلق اسم الغصب ينطلق على أخذ مال متقوم في العرف . هذا وقال صاحب العناية في شرح هذا المقام : وكذا لو قال غصبت منه شيئا وجب عليه أن يبين ما هو مال ، حتى لو بين أن المغصوب زوجته أو ولده لا يصح وهو اختيار مشايخ ما وراء النهر . وقيل يصح وهو اختيار مشايخ العراق . والأول أصح لأن الغصب أخذ مال فحكمه لا يجري فيما ليس بمال ، ولا بد أن يبين ما يجري فيه التمانع حتى لو بين في حبة حنطة أو في قطرة ماء لا يصح ; لأن العادة لم تجر بغصب ذلك فكانت مكذبة له في بيانه ، ولو بين في العقار أو في خمر المسلم يصح لأنه مال يجري فيه التمانع .

فإن قيل : الغصب أخذ مال متقوم محترم بغير إذن المالك على وجه يزيل يده وهو لا يصدق على العقار وخمر المسلم فلزم نقض التعريف أو عدم قبول البيان فيهما . فالجواب أن ذلك حقيقته ، وقد تترك الحقيقة بدلالة العادة كما عرف في موضعه ، وقد أشار إليه بقوله تعويلا على العادة ، إلى هنا كلامه .

أقول : فيه نظر ، أما أولا فلأن صحة ما ذكره في هذا الجواب من أن حقيقة الغصب تترك بدلالة : العادة تنافي صحة ما ذكره في تعليل أصحية مشايخ ما وراء النهر فيما لو بين أن المغصوب زوجته أو ولده من أن الغصب أخذ مال فحكمه لا يجري فيما ليس بمال ; لأن مشايخ العراق يقولون : إن لفظ الغصب يطلق على الزوج والولد عادة ، والتمانع فيه يجري بين الناس أكثر مما يجري في الأموال كما صرح به في المبسوط وغيره ، وليس معنى هذا القول منهم إلا أن حقيقة الغصب تترك في ذلك بدلالة العادة ، فكيف يصح تعليل أصحية اختيار مشايخ ما وراء النهر فيه بأن الغصب أخذ مال فحكمه لا يجري فيما ليس بمال . وأما ثانيا فلأن قوله وقد أشار إليه بقوله تعويلا على العادة لا يكاد يصح لأن قول المصنف : تعويلا على العادة علة لوجوب أن يبين ما هو مال يجري فيه التمانع ومعناه أن حقيقة الغصب وإن تناولت ما يجري فيه التمانع من الأموال وما لا يجري فيه التمانع منها ، إلا أن العادة خصصته بالأول فلا بد أن يبين ذلك ، ومقصوده الاحتراز عما لو بين حبة حنطة أو قطرة ماء فإنه لا يصح قطعا . وأما أن حقيقة الغصب تترك بدلالة العادة إلى ما هو أعم منها فلا إشارة إليه في كلامه أصلا ، كيف ولو صح ذلك عنده وكان في كلامه إشارة إليه لما صح القول منه بوجوب أن يبين مالا ، إذ العادة جارية قطعا على إطلاق لفظ الغصب على ما ليس بمال كالزوجة والولد إطلاقا جاريا على اللغة لا على حقيقته الشرعية .

وبالجملة إن كلام المصنف هاهنا مسوق على ما هو مختار مشايخ ما وراء النهر دون مختار مشايخ العراق ، وفيما ذكره صاحب العناية خلط للمذهبين .




الخدمات العلمية