الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وإن قال : له علي مائة ودرهم لزمه كلها دراهم . [ ص: 339 ] ولو قال : مائة وثوب لزمه ثوب واحد ، والمرجع في تفسير المائة إليه ) وهو القياس في الأول ، وبه قال الشافعي لأن المائة مبهمة والدرهم معطوف عليها بالواو العاطفة لا تفسيرا لها فبقيت المائة على إبهامها كما في الفصل الثاني . وجه الاستحسان وهو الفرق أنهم استثقلوا تكرار الدرهم في كل عدد واكتفوا بذكره عقيب العددين .

وهذا فيما يكثر استعماله وذلك عند كثرة الوجوب بكثرة أسبابه وذلك في الدراهم والدنانير والمكيل والموزون ، أما الثياب وما لا يكال ولا يوزن فلا يكثر وجوبها فبقي على الحقيقة . [ ص: 340 ] ( وكذا إذا قال : مائة وثوبان ) لما بينا ( بخلاف ما إذا قال : مائة وثلاثة أثواب ) لأنه ذكر عددين مبهمين وأعقبها تفسيرا إذ الأثواب لم تذكر بحرف العطف فانصرف إليهما لاستوائهما في الحاجة إلى التفسير فكانت كلها ثيابا .

التالي السابق


( وإن قال له علي مائة ودرهم لزمه كلها دراهم ) وكذا لو قال مائة ودرهمان أو مائة وثلاثة [ ص: 339 ] دراهم ذكره الإمام قاضي خان حيث قال في فتاواه : ولو قال له علي ألف درهم أو علي ألف ودرهمان أو ألف وثلاثة دراهم كان الكل دراهم انتهى ( ولو قال مائة وثوب ) أي ولو قال له علي مائة وثوب ( لزمه ثوب واحد ، والمرجع في تفسير المائة إليه ) أي إلى المقر .

قال المصنف ( وهو القياس في الأول ) يعني أن لزوم درهم واحد والرجوع في تفسير المائة إلى المقر هو القياس في الفصل الأول أيضا وهو قوله : له علي مائة ودرهم ونظائره ( وبه قال الشافعي ) أي وبالقياس أخذ الشافعي في هذا الفصل أيضا ( لأن المائة مبهمة والدرهم معطوف عليها ) أي على المائة ( بالواو العاطفة لا تفسير لها ) لأن العطف لم يوضع للبيان بل هو يقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه ( فبقيت المائة على إبهامها كما في الفصل الثاني ) وهو قوله له علي مائة وثوب ونحو ذلك فلا بد من المصير إلى البيان ، ولكن ، علماؤنا رحمهم الله تعالى فرقوا بين الفصلين وأخذوا بالاستحسان في الدراهم والدنانير والمكيل والموزون فجعلوا المعطوف عليه من جنس المعطوف فيما إذا قال له علي مائة ودرهم أو مائة ودينار وقفيز حنطة أو مائة ومن زعفران .

قال المصنف ( وجه الاستحسان وهو الفرق ) بين الفصلين ( أنهم ) أي أن الناس ( استثقلوا تكرار الدرهم في كل عدد واكتفوا بذكره ) أي بذكر الدرهم مرة ( عقيب العددين ) ألا يرى أنهم يقولون أحد وعشرون درهما فيكتفون بذكر الدرهم مرة ويجعلون ذلك تفسيرا للكل ( وهذا ) أي استثقالهم ( فيما يكثر استعماله وذلك ) أي كثرة الاستعمال ( عند كثرة الوجوب بكثرة أسبابه وذلك ) أي كثرة الوجوب بكثرة الأسباب ( في الدراهم والدنانير والمكيل والموزون ) يعني فيما يثبت في الذمة كالدراهم والدنانير والمكيل والموزون لثبوتها في الذمة في جميع المعاملات حالة ومؤجلة ، ويجوز الاستقراض بها لعموم البلوى ( أما الثياب وما لا يكال ولا يوزن لا يكثر وجوبها ) فإن الثياب لا تثبت في الذمة دينا إلا في السلم ، والشاة ونحوها لا يثبت دينا في الذمة أصلا ( فبقي ) أي بقي هذا القسم ( على الحقيقة ) أي على الأصل وهو أن يكون بيان المجمل إلى المجمل لا إلى المعطوف لعدم صلاحية العطف للتفسير إلا عند الضرورة وقد انعدمت هاهنا .

أقول : في تقرير وجه الاستحسان على ما ذكره المصنف نظر ، أما أولا فلأن اكتفاءهم بذكر الدرهم مرة عقيب العددين لا يجدي فيما نحن فيه إذ لم يذكر الدرهم فيه عقيب أحد العددين ، بل إنما ذكره عقيب عدد واحد وهو المائة ، وأما ثانيا فلأنهم اكتفوا بذكر مثل الثوب أيضا عقيب العددين ; ألا يرى إلى ما سيأتي أنه إذا قال مائة وثلاثة أثواب يكون الكل أثوابا لانصراف التفسير إلى مجموع العددين المبهمين المذكورين قبله ، ويمكن أن يتمحل في الجواب بأن يقال : مرادالمصنف أنهم استثقلوا تكرار المميز [ ص: 340 ] في كل عدد بل اكتفوا بذكره مرة في بعض الأعداد روما للاختصار ، ألا يرى أنهم اكتفوا بذلك عقيب العددين على الإطلاق والاطراد ، وكذلك اكتفوا به في عدد واحد أيضا فيما يكثر استعماله ودورانه في الكلام كما نحن فيه .

نعم الأولى هاهنا أن يطرح من البين حديث الذكر عقيب العددين ، ويقرر وجه الاستحسان على طرز ما ذكر في الكافي وغيره وهو أن قوله : ودرهم بيان للمائة عادة لأن الناس استثقلوا تكرار الدرهم ونحوه واكتفوا بذكره مرة ، وهذا فيما يكثر استعماله ، وذا عند كثرة الوجوب بكثرة أسبابه ودورانه في الكلام ، وذا فيما يثبت في الذمة كالأثمان والمكيل والموزون ، بخلاف الثياب وما لا يكال ولا يوزن فإنه لا يكثر وجوبها وثبوتها في الذمة فبقيت على الأصل . قال في النهاية : وروى ابن سماعة عن أبي يوسف رحمه الله في قوله مائة وثوب أن الكل من الثياب وكذلك في قوله : مائة وشاة ، ووجهه أن الثياب والغنم تقسم قسمة واحدة ، بخلاف العبيد فإنها لا تقسم قسمة واحدة ، وما يقسم قسمة واحدة يتحقق في أعدادها المجانسة فيمكن أن يجعل المفسر منه تفسيرا للمبهم انتهى .

ويوافقه ما ذكره الإمام قاضي خان في فتاواه حيث قال : رجل قال : لفلان علي ألف وعبد عن أبي يوسف رحمه الله أنه قال : يقر في الأول بما يشاء ، ولو قال : ألف وبعير أو ألف وثوب أو ألف وفرس فهي ثياب وأغنام وأبعرة ، ولا يشبه هذا بني آدم لأن بني آدم لا يقسم ، إلى هنا كلامه . وقال الإمام الزيلعي في التبيين بعد نقل ذلك عن النهاية : وهذا ليس بظاهر ، فإن عندهما يقسم العبيد كالغنم ، وإنما لا يقسمون عند أبي حنيفة رحمه الله انتهى ، فتأمل .

قال المصنف ( وكذا إذا قال مائة وثوبان ) أي يرجع في بيانه المائة إلى المقر ( لما بينا ) من أن الثياب وما لا يكال ولا يوزن لا يكثر وجوبها ( بخلاف ما إذا قال مائة وثلاثة أثواب ) حيث يكون الكل ثيابا بالاتفاق ( لأنه ذكر عددين مبهمين وأعقبهما تفسيرا إذ الأثواب لم تذكر بحرف العطف ) حتى يدل على المغايرة ( فانصرف إليهما ) أي فانصرف التفسير المذكور إلى العددين جميعا ( لاستوائهما في الحاجة إلى التفسير فكان كلها ) أي كل الآحاد المندرجة تحت ذينك العددين ( ثيابا ) لا يقال : الأثواب جمع ثوب لا يصلح مميزا للمائة لأنها لما اقترنت بالثلاثة صارا كعدد واحد ، كذا في الكافي والشروح .




الخدمات العلمية