الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 209 ] 568 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في القضاة من منهم في النار ، ومن منهم في الجنة ؟

قال أبو جعفر : قد ذكرنا فيما تقدم منا في كتابنا هذا في بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله لأبي ذر : لا تقضين بين اثنين - أسانيد هذه الآثار ، فغنينا بذلك عن إعادتها في هذا الباب ، فأما متونها ، فهي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : القضاة ثلاثة : قاضيان في النار ، وقاض في الجنة ، فأما الذي في الجنة ، فرجل عرف الحق ، فقضى به ، فهو في الجنة ، ورجل عرف الحق فلم يقض به ، وجار في الحكم ، فهو في النار ، ورجل لم يعرف الحق ، فقضى للناس على جهل ، فهو في النار .

فتأملنا هذا الحديث ، فوجدنا فيه أن القاضي الذي في الجنة هو القاضي بالحق ، فقال قائل : القاضي بالحق هو الذي قد وقف على الحكم عند الله فيما قضى به ، وفي ذلك ما ينفي استعمال الاجتهاد الذي قد يكون معه إصابة ذلك ، وقد يكون معه التقصير عنه .

[ ص: 210 ] فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله عز وجل وعونه : أن الأمر في ذلك بخلاف ما ذكر ; لأن الله عز وجل لم يكلفنا ما لا نطيق ، وقد أنبأنا على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في حديثي عمرو بن العاص وأبي هريرة اللذين ذكرناهما في ذلك الباب ما للقاضي من الأجر إذا أصاب الحق باجتهاده ، وما له من الأجر إذا أخطأه بعد اجتهاده ، فكان في ذلك ما قد دل على أنه يجتهد فيما لم يجده في كتاب الله منصوصا ، ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مأثورا ، ولا في إجماع الأمة عليه موقوفا ، ولما كان له أن يقضي باجتهاده الذي قد يكون معه فيه إصابة الحق عند الله عز وجل ، وقد يكون معه التقصير عن ذلك ، وكان ما يقضي به بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه بالقضاء به حقا ، عقلنا بذلك أن الحق الذي القاضي به في الجنة هو ذلك الحق حتى تصح هذه الآثار ولا تتضاد ، وقد وجدنا مثل ذلك قد كان من نبيين من أنبياء الله صلى الله عليهما وسلم ، وهما داود وسليمان ، فحكما في الحرث ، فاختلفا ، فقال الله فيهما : ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما . وكان في ذلك ما قد دل أنهما قد حكما باجتهاد آرائهما من غير أن ينزل الله عليهما ما يحكمان به ، فدل ذلك أن كذلك الحكام سواهما .

وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن سليمان سأل ربه أن يؤتيه حكما يصادف حكمه ، فأعطاه إياه ، وقد علمنا أنه كان قبل سؤاله إياه ذلك إليه الحكم بحق النبوة ، فدل ذلك أنه قد كان يجوز أن يحكم حكما [ ص: 211 ] يخالف حكمه ، ولولا أن ذلك كان كذلك ، لما كان لسؤاله الله ذلك معنى ; إذ كان قد آتاه إياه قبل ذلك .

3580 - حدثنا بذلك الربيع المرادي ، قال : حدثنا بشر بن بكر ، قال : حدثنا الأوزاعي ، قال : حدثني ربيعة بن يزيد ، عن عبد الله بن الديلمي ، قال :

دخلت على عبد الله بن عمرو بالطائف فسمعته يقول : سمعنا - يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقول : إن سليمان عليه السلام سأل ربه أن يعطيه حكما يصادف حكمه ، فأعطاه إياه .

[ ص: 212 ]

3581 - حدثنا ابن أبي داود ، قال : حدثنا أبو مسهر ، قال : سمعت سعيد بن عبد العزيز يحدث عن ربيعة بن يزيد ، عن أبي إدريس الخولاني ، عن ابن الديلمي ، عن عبد الله بن عمرو ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر مثله ، إلا أنه قال مكان فأعطاه : فآتاه .

وقد كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم حمده لمعاذ بن جبل لما سأله عما يقضي به ، حين بعثه قاضيا إلى اليمن على هذا المعنى .

3582 - كما حدثنا الربيع بن سليمان المرادي ، قال : حدثنا أسد بن موسى .

3583 - وكما حدثنا محمد بن جعفر بن أعين ، قال : حدثنا عاصم بن علي بن عاصم ، قالا : حدثنا شعبة بن الحجاج ، عن أبي عون الثقفي ، عن الحارث بن عمرو ابن أخي المغيرة بن شعبة ، عن رجال من أهل حمص من أصحاب معاذ ، عن معاذ ، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى اليمن قال : كيف تقضي إذا عرض لك قضاء ؟ قال : أقضي بما في كتاب الله عز وجل . قال : [ ص: 213 ] فإن لم يكن في كتاب الله عز وجل ؟ قلت : بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : فإن لم يكن في سنة رسول الله ؟ قال : أجتهد رأيي ولا آلو . قال : فضرب صدري بيده ، وقال : الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله .

[ ص: 214 ] قال : ثم كذلك كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعده في هذا المعنى .

كما حدثنا روح بن الفرج ، قال : حدثنا يوسف بن عدي ، قال : حدثنا شريك ، عن الشيباني أبي إسحاق ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب بقضية إلى عامل له فكتب الكاتب : هذا ما أرى الله عمر ، فقال : امحه ، واكتب : هذا ما رأى عمر ، فإن يكن صوابا فمن الله عز وجل ، وإن يكن خطأ فمن عمر .

[ ص: 215 ] ومثل ذلك ما كان من عبد الله بن مسعود ، لما سئل عن الرجل الذي تزوج امرأة ، فلم يدخل بها ، ولم يسم لها صداقا حتى توفي : أقول فيها برأيي ، فإن يكن خطأ فمن قبلي ، وإن يكن صوابا فمن الله عز وجل . وسنذكر ذلك بأسانيده في موضعه فيما بعد من كتابنا هذا إن شاء الله .

وفي ذلك ما قد دل على أن مذهبهما رضوان الله عليهما كان في هذا المعنى ، كما صححنا عليه هذه الآثار في هذا الباب ، والله نسأله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية