الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 149 ] 742 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحكام الضوال

4719 - حدثنا علي بن معبد ، حدثنا يعلى بن عبيد الطنافسي ، حدثنا أبو حيان التيمي ، عن الضحاك بن منذر ، عن منذر ، وهو ابن جرير ، قال : كنا في البوازيج فراحت البقر ، فرأى جرير فيها بقرة أنكرها ، فقال للراعي : ما هذه البقرة ؟ فقال : بقرة لحقت بالبقر لا أدري لمن هي ، فأمر بها جرير ، فطردت حتى توارت ، ثم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا يأوي الضالة إلا ضال .

[ ص: 150 ] قال أبو جعفر : فكان في هذا الحديث ، إعلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس أنه لا يأوي الضال إلا ضال ، واستعمل ما قاله عليه السلام جرير بعده في البقرة التي لحقت ببقره .

ووجدنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوعيد في الضوال وإخباره الناس أنها حرق النار .

[ ص: 151 ]

4720 - ما قد حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن أبي العلاء يزيد بن عبد الله بن الشخير ، عن أبي مسلم الجذمي ، عن الجارود ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ضالة المسلم حرق النار .

4721 - وما قد حدثنا محمد بن علي بن داود ، حدثنا عفان بن مسلم ، حدثنا همام ، حدثنا قتادة ، عن يزيد أخي مطرف ، عن أبي [ ص: 152 ] مسلم الجذمي ، عن الجارود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم ذكر مثله .

4722 - وما قد حدثنا محمد بن علي ، حدثنا عفان بن مسلم ، حدثنا يحيى بن سعيد ، يعني : القطان ، حدثني حميد ، حدثنا الحسن ، عن مطرف بن الشخير ، عن أبيه ، قال : قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من بني عامر [ ص: 153 ] فقال : ألا أحملكم ؟ قلنا : نجد في الطريق هوامي الإبل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ضالة المسلم حرق النار .

4723 - وما قد حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، حدثنا سعيد بن عامر ، حدثنا شعبة ، عن خالد الحذاء ، عن يزيد بن عبد الله بن الشخير ، عن أبي مسلم ، عن الجارود ، قال : أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن على إبل عجاف ، فقلنا : يا رسول الله ، إنا نمر بالجرف فنجد إبلا فنركبها ، فقال رسول [ ص: 154 ] الله صلى الله عليه وسلم : ضالة المسلم حرق النار .

4724 - وما قد حدثنا أحمد بن شعيب ، أخبرنا موسى بن عبد الرحمن ، أخبرنا أبو أسامة ، عن سفيان ، عن خالد الحذاء ، عن يزيد بن عبد الله ، عن مطرف ، عن الجارود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ضالة المسلم حرق النار ، فلا تقربنها .

[ ص: 155 ]

4725 - وما قد حدثنا أحمد ، أخبرنا محمد بن عبد الله بن بزيع ، عن يزيد ، يعني : ابن زريع ، عن الجريري ، عن أبي العلاء ، عن مطرف ، عن أبي مسلم الجذمي ، هكذا قال : عن الجارود ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ضالة المسلم حريق النار ، فلا تقربنها ثلاثا .

قال أبو جعفر : ثم نظرنا هل يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدل [ ص: 156 ] على أن ذلك القول مستعمل في كل الأحوال ، أو في خاص منها .

4726 - فوجدنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب قد حدثنا ، قال : حدثنا عمي عبد الله بن وهب ، حدثني عمرو بن الحارث أن بكر بن سوادة أخبره ، عن أبي سالم الجيشاني ، عن زيد بن خالد الجهني ، قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : من آوى ضالة فهو ضال ، ما لم يعرفها .

4727 - ووجدنا فهدا قد حدثنا ، قال : حدثنا سعيد بن أبي مريم ، أخبرنا يحيى بن أيوب ، أخبرني عمرو بن الحارث أن بكر بن سوادة أخبره ، عن أبي سالم الجيشاني ، عن زيد بن خالد الجهني ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم ذكره مثله .

فعقلنا بذلك : أن الإيواء الذي أراده رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الأول الذي ذكرناه في أول هذا الباب ، وفي الأحاديث الثانية التي [ ص: 157 ] ذكرناها بعده : إنما هو الإيواء الذي ليس معه التعريف ، وعقلنا بهذا الحديث : أن الإيواء الذي معه التعريف محمود من صاحبه ، وأنه في ذلك بخلاف الضال الذي جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم بإيواء الضالة ضالا ، فنظرنا : هل نجده روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير هذه الآثار ؟

4728 - فوجدنا يونس قد حدثنا ، قال : حدثنا ابن وهب ، أخبرني عمرو بن الحارث ، ومالك بن أنس ، وسفيان الثوري أن ربيعة بن أبي عبد الرحمن حدثهم ، عن يزيد مولى المنبعث ، عن زيد بن خالد الجهني أنه قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا معه ، فسأله عن اللقطة ، فقال : اعرف عفاصها ووكاءها ، ثم عرفها سنة ، فإن جاء صاحبها ، وإلا فشأنك بها ، قال : فضالة الغنم ، قال : لك أو لأخيك أو للذئب ، قال : فضالة الإبل ، قال : معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها .

[ ص: 158 ]

4729 - ووجدنا فهد بن سليمان وعلي بن عبد الرحمن قد حدثانا ، قالا : حدثنا سعيد بن أبي مريم ، حدثنا يحيى بن أيوب ، حدثني محمد بن عجلان ، حدثني القعقاع بن حكيم ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن ضالة الغنم ، قال : لك أو لأخيك أو للذئب ، وسئل عن ضالة الإبل ، فقال : ما لك ولها معها سقاؤها وحذاؤها ، دعها حتى يجدها ربها .

[ ص: 159 ]

4730 - ووجدنا يونس قد حدثنا ، قال : حدثنا ابن وهب ، أخبرني عمرو بن الحارث وهشام بن سعد ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، أن رجلا من مزينة أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله : كيف ترى في ضالة الغنم ، قال : طعام مأكول لك ، أو لأخيك ، أو للذئب ، احبس على أخيك ضالته ، قال : يا رسول الله ، فكيف ترى في ضالة الإبل ، قال : ما لك ولها معها سقاؤها وحذاؤها ، وليس يخاف عليها الذئب ، تأكل الكلأ ، وترد الماء حتى يأتي طالبها .

[ ص: 160 ] قال أبو جعفر : فكان فيما روينا من حديثي عبد الله بن عمرو وزيد بن خالد الجهني ، ما قد دل على إباحة رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ ما أباح أخذه من الضوال الموجودة ، وكان ذلك الأخذ على تصحيح حديث أبي سالم ، عن زيد بن خالد هو الأخذ الذي معه التعريف لا ما سواه ، وكان فيه في ضالة الإبل ما ظاهره خلاف ذلك ، لأن فيه ما لك ولها معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها ، فاحتمل أن يكون ذلك إنما أمر به في ضالة الإبل لما أنه لا يخاف عليها ، فاتسع بذلك لمن وجدها تركها ، إذ لا خوف عليها فيتسع له أخذها من أجله .

ثم وجدنا ما قد يكون مخوفا عليها من غير الذئب مما يخاف عليها من الأيدي المذمومة التي لا يؤمن عليها ، ولا يعرف بها إن وقعت فيها ، وتكون الأيدي التي لا يخافها المأمونة عليها والمعروفة بها بعد أخذها ، بخلاف ذلك ، ويكون ما في حديث أبي سالم ، عن زيد بن خالد مبيحا أخذها لتعريفها ولردها على صاحبها متى قدر عليه ، لأن حديث زيد بن خالد هذا لا يفرق بين ضوال الإبل وضوال ما سواها .

وقد روي عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قد دل على هذا المعنى .

كما حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، أخبرني أنس بن عياض الليثي ، عن يحيى بن سعيد ، قال : سمعت سليمان بن يسار يحدث أن ثابت بن الضحاك حدثه [ ص: 161 ] أنه وجد بعيرا ، فذكره لعمر بن الخطاب ، فأمره أن يعرفه ، فقال : قد عرفته ، فشغل علي غلامي ، فذكر أنه قال له : أرسله حيث أخذته .

وكما قد حدثنا يونس ، أخبرنا ابن وهب أن مالكا حدثه ، عن يحيى بن سعيد ، ثم ذكر بإسناده مثله ، غير أنه لم يذكر غلامه فيه .

وكما قد حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، حدثنا القعنبي ، حدثنا مالك ، فذكر بإسناده مثله .

[ ص: 162 ] قال أبو جعفر : وثابت بن الضحاك هو رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد أخذ البعير الضال ليعرفه ، ووقف عمر على ذلك منه ، فلم ينكره عليه ، ولم يعنفه في أخذه إياه ، فدل ذلك في أمر الضوال من الإبل على ما ذكرنا .

وأحكام الضوال عندنا كأحكام اللقطة سواء ، وقد خالفنا في ذلك مخالف ، فزعم أن اللقطة خلاف الضوال ، وأن الضوال ما ضل بنفسه ، وأن اللقطة بخلاف ذلك ، فجعل أحكام اللقطة ما في حديث زيد بن خالد ، وجعل أحكام الضوال على ما في الأحاديث الأخر ، فأباح أخذ اللقطة ، ومنع من أخذ الضوال .

فتأملنا ما قال من ذلك ، فوجدنا كتاب الله عز وجل قد دفعه ، وهو قوله عز وجل : ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون من دون الله قالوا ضلوا عنا ، فجعل عز وجل فقدهم إياهم ضلالا لهم بهم عنهم .

ومثل ذلك ما قد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث فقد عائشة قلادتها : إن أمكم أضلت قلادتها فابتغوها ، فدل ذلك على أن الفقد لما له روح ، ولما لا روح له ، قد يطلق عليه أنه ضال ، وفيما ذكرنا ما قد دل على أن أحكام الضوال وأحكام اللقطة في جميع ما ذكرنا سواء .

[ ص: 163 ] وهكذا كان أبو حنيفة وأصحابه يقولون في هذا ، وقد ذكرنا اختلافهم في يد الملتقط ، وأن بعضهم جعلها ضامنة إذا لم يشهد ملتقطها على أنه إنما التقط ما التقطه للتعريف والحفظ على صاحبها .

وأن بعضهم جعلها يد أمانة لا ضمان معها ، أشهد ملتقطها عندما التقطها ، أو لم يشهد .

ثم وجدنا حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدل على حكمها ، وأنها يد أمانة غير ضامنة ، وهو ما قد .

4731 - حدثنا علي بن عبد الرحمن بن المغيرة ، حدثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب .

4732 - وما قد حدثنا روح بن الفرج ، حدثنا عبد الله بن محمد الفهمي قالا : أخبرنا سليمان بن بلال ، قال علي بن عبد الرحمن في حديثه ، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، ويحيى بن سعيد ، عن يزيد مولى المنبعث ، أنه سمع زيد بن خالد ، وقال روح في حديثه ، قال : حدثني يحيى بن سعيد وربيعة ، عن يزيد مولى المنبعث ، عن زيد بن خالد الجهني ، ثم اجتمعا فقالا : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اللقطة الذهب والورق ، فقال : اعرف وكاءها وعفاصها ، ثم عرفها سنة ، فإن لم يعرفها أحد فاستمتع بها ، ولتكن وديعة عندك ، فإن جاء لها طالب يوما من الدهر ، فأدها إليه ، ثم ذكر بقية حديث [ ص: 164 ] عمرو بن الحارث ، ومالك بن أنس ، وسفيان الثوري ، عن ربيعة ، عن يزيد مولى المنبعث ، الذي قد ذكرناه فيما تقدم منا في هذا الباب .

[ ص: 165 ] فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث ، أن اللقطة تكون وديعة عند الملتقط لها حتى يلقى ربها بغير إشهاد ذكره في التقاطه إياها ، كالوديعة فالذي هي في يده أمين عليها غير ضامن لها .

ففي ذلك ما قد دل على أن كونها في يد الملتقط لها إذا كان يريد بها ما أمره النبي صلى الله عليه وسلم ، فيده فيها يد أمانة عليها ، لا يد ضمان لها . ووجدنا أيضا في حديث عبد الله بن عمرو الذي ذكرناه في هذا الباب من حديث عمرو بن شعيب قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لسائله عن ضالة الغنم : احبس على أخيك ضالته ، ما قد دل على أن أخذه إياها لحبسها على أخيه أخذ مأمور به ، ولا يكون مع الأخذ المأمور به ضمان على من أمر به ، وقد يحتمل قوله : احبس على أخيك ضالته ، أن لا يكون مقصودا به إلى ضالة دون ضالة ، وأن يكون على كل الضوال ، والله أعلم بمراد رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ، والله الموفق .

التالي السابق


الخدمات العلمية