الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 374 ] 768 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله لأبي بردة بن نيار في أضحيته التي ذبحها : أعد أخرى مكانها ، ومن قوله له لما قال له : إن عندي جذعة خير من مسنة ، فقال له : اذبحها ولا تجزئ عن أحد بعدك .

4871 - حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال : حدثنا أبو داود الطيالسي ووهب بن جرير قالا : حدثنا شعبة ، عن زبيد الإيامي ، قال : سمعت الشعبي يحدث ، عن البراء بن عازب ، قال : خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أضحى إلى البقيع فبدأ فصلى ركعتين ، ثم أقبل علينا بوجهه ، فقال : إن أول نسكنا في يومنا هذا أن نبدأ بالصلاة ، ثم نرجع فننحر ، فمن فعل ذلك فقد وافق سنتنا ، ومن ذبح قبل ذلك ، فإنما هو لحم عجله لأهله ليس من النسك في شيء ، فقام خالي ، فقال : يا رسول الله ، إني ذبحت وعندي جذعة خير من مسنة ، فقال : اذبحها ولا تجزئ ، أو لا توفي عن أحد بعدك .

[ ص: 375 ]

4872 - وحدثنا محمد بن علي بن داود ووهبان بن عثمان البغداديان ، قالا : حدثنا عفان بن مسلم ، قال : حدثنا شعبة ، قال : حدثني زبيد ومنصور وداود وابن عون ومجالد عن الشعبي ، وهذا [ ص: 376 ] حديث زبيد ، قال : سمعت الشعبي هاهنا يحدث عن البراء عند سارية في المسجد ولو كنت قريبا منها لأخبرتكم بموضعها ، ثم ذكر مثله .

[ ص: 377 ]

4873 - وحدثنا إسماعيل بن يحيى المزني ، قال : حدثنا الشافعي ، حدثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد ، عن داود بن أبي هند ، عن عامر الشعبي ، عن البراء بن عازب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام يوم النحر خطيبا فحمد الله - عز وجل - وأثنى عليه ، ثم قال : لا يذبحن أحد حتى يصلي فقام خالي ، فقال : يا رسول الله ، هذا يوم اللحم فيه مكروه ، وإني ذبحت نسيكتي فأطعمت أهلي وجيراني ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : قد فعلت فأعد ذبحا آخر ، فقال : عندي عناق لبن هي خير من شاتي لحم ، فقال : هي خير نسيكتيك لن تجزئ جذعة عن أحد بعدك .

4874 - وحدثنا محمد بن خزيمة ، قال : حدثنا حجاج بن منهال ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا داود بن أبي هند ، عن الشعبي ، عن البراء ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثله .

4875 - وحدثنا محمد بن خزيمة ، قال : حدثنا حجاج بن منهال ، قال : حدثنا شعبة ، قال : حدثني زبيد ، قال : سمعت الشعبي ، عن البراء ، ثم ذكر مثله .

[ ص: 378 ]

4876 - وحدثنا أبو أمية ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : حدثنا زكريا بن أبي زائدة ، عن فراس ، عن عامر ، عن البراء ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله .

4877 - وحدثنا أبو أمية ، قال : حدثنا أبو غسان ، قال : حدثنا عبد السلام ، عن أبي خالد الدالاني ، عن عامر ، عن البراء ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله .

[ ص: 379 ] قال أبو جعفر : وكانت الجذعة المرادة في هذا الحديث ، هي الجذعة من المعز لا الجذعة من الضأن ، وكان أهل العلم قد اختلفوا في الأضحية ، فقال قائلون منهم : إنها واجبة على الواجدين لها ، منهم أبو حنيفة ، وذهب أكثر أهل العلم سواه : إلى أنها مأمور بها محضوض عليها غير واجبة ، فكان ما احتج به ممن ذهب إلى إيجابها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بردة : لن تجزئ جذعة عن أحد بعدك .

فقال : لا يكون إجزاء إلا عن واجب ، وكان من حجة مخالفه عليه في ذلك أن الوجوب الذي كان من أجله هذا القول أن أبا بردة لما ذبح أضحيته التي كان أوجبها قبل أوان ذبحها مستهلكا لها فيما قد كانت ، صارت له ، فوجب بذلك عليه البدل منها ، وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال له من أجل استهلاكه واجبا ، كان لله - عز وجل - عليه بإيجابه إياه .

فتأملنا ما قالوه في ذلك لنقف على الحقيقة فيه إن شاء الله .

فوجدنا الأشياء التي تجب بإيجاب الله - عز وجل - إياها إذا أوجبها العباد على أنفسهم لم يكن إيجابهم إياها إيجابا له معنى ، ألا ترى أن من أوجب على نفسه صلاة من الصلوات الخمس ، أو أوجب على نفسه صيام شهر رمضان ، أو أوجب على نفسه حجة الإسلام ، وهو ممن يستطيع السبيل إليها أنه لا يلزمه بذلك شيء ، وأنه يكون كمن لم يوجبه ، وكانت الأضحية إن كانت واجبة بإيجاب الله - عز وجل - إياها [ ص: 380 ] كان إيجاب العباد إياها على أنفسهم لا معنى له ، وإن لم تكن واجبة بإيجاب الله - عز وجل - إياها ، كان من أوجبها على نفسه وجبت عليه بإيجابه إياها ، غير أن الأضحية إن كان الله - عز وجل - أوجبها فلم يوجبها في شاة ولا بقرة ولا بدنة بعينها ، فإذا جعل الرجل الواجب عليه منها بإيجاب الله - عز وجل - عليه في شيء من ذلك بعينه ، احتمل أن يجب كما أوجبه ، فنظرنا في ذلك فرأينا ما أوجبه في شيء من ذلك بعينه لو هلك بموت أو بغيره لم يسقط ما كان الله أوجبه عليه ; لأنه لم يوجبه عليه فيما هلك من ذلك .

وإذا كان ذلك كذلك عقلنا أن الذي أوجبه إن كان الله - عز وجل - قد أوجب الأضحية هو غير الذي أوجب ، فكان هلاكه وبقاؤه بمعنى واحد ، هذا حكم الأضحية إن كان الله - عز وجل - أوجبها .

ثم نظرنا في حكمها إن كان الله لم يوجبها .

فوجدنا أهل العلم لا يختلفون أن من أوجبها وجبت عليه ، وأن من استهلكها قبل أن ينفذها فيما أوجبها فيه كان عليه ضمان قيمتها حتى يصرفها فيما يجب صرفها فيه ، مما هو بدل منها ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم لم ينظر إلى قيمة ما ذبح أبو بردة ، فلزمه إياه لله - عز وجل .

فعقلنا بذلك : أن الذي ألزمه إياه ، لما ألزمه إياه له هو لغير ما أوجب على نفسه ، ولكنه لما أوجبه الله - عز وجل - عليه ، فثبت بذلك وجوب الأضحية على واجديها ، وكان ما احتج به أبو حنيفة في ذلك من أحسن ما يحتج به في مثله ، والله - عز وجل - نسأله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية