الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                3179 3180 ص: وقد روي عن رسول الله - عليه السلام - أيضا في إباحة الدخول في الصيام بعد دخول الفجر .

                                                حدثنا أبو بكرة وإبراهيم بن مرزوق وعلي بن شيبة ، قالوا : ثنا روح بن عبادة ، قال : ثنا شعبة ، عن طلحة بن يحيى ، عن عائشة بنت طلبة ، عن عائشة أم المؤمنين قالت : "كان نبي الله - عليه السلام - يحب طعاما ، فجاء يوما فقال : عندكم من ذلك الطعام ؟ فقلت : لا . فقال : إني صائم " .

                                                حدثنا علي ، قال : ثنا روح ، قال : أنا الثوري ، عن طلحة . . . فذكر بإسناده مثله .

                                                فذلك عندنا على خاص من الصوم أيضا ، وهو التطوع ينويه الرجل بعد ما يصبح في صدر النهار الأول .

                                                التالي السابق


                                                ش: أخرج هذا الحديث شاهدا لما قاله أهل المقالة الثانية من جواز الدخول في الصيام بعد دخول الفجر ، ولكنه محمول على خاص من الصوم وهو التطوع ينويه الرجل في أول النهار وذلك لأنه - عليه السلام - لما قالت له عائشة : ليس عندنا طعام حين سألها الطعام قال : إني صائم ، وذلك كان في أول النهار ، فدل هذا على أن النية في صوم التطوع يجوز من النهار ما لم تزل الشمس ; وذلك لأنه توجد النية وقت الركن

                                                [ ص: 281 ] وهو الإمساك وقت الغداة المتعارف ، ولهذا لا يجوز إذا نوى بعد الزوال لخلو بعض الركن عن الشرط .

                                                فإن قيل : كيف يكون هذا شاهدا لما قاله أهل المقالة الثانية والنزاع في النية المتأخرة في صوم رمضان ، وهذا في التطوع ؟ ! .

                                                قلت : صوم رمضان ها هنا كالتطوع ; لتعين الوقت فيه للصوم الفرض بخلاف النذر المطلق ، وقضاء رمضان ، وصوم الكفارات كما ذكرناه .

                                                ثم إنه أخرج هذا الحديث من طريقين صحيحين :

                                                الأول : عن أبي بكرة بكار وابن مرزوق وعلي بن شيبة ، ثلاثتهم عن روح بن عبادة ، عن شعبة ، عن طلحة بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله القرشي المدني نزيل الكوفة روى له الجماعة سوى البخاري ، عن عائشة بنت طلحة بن عبيد الله القرشية المدنية عمة طلحة بن يحيى المذكور ، روى لها الجماعة ، عن عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - .

                                                وأخرجه الدارقطني في "سننه " : ثنا عبد الله بن محمد بن زياد ، ثنا العباس بن محمد وأبو أمية ، قالا : ثنا روح بن عبادة ، ثنا شعبة . . . إلى آخره نحوه سواء .

                                                الثاني : عن علي بن شيبة ، عن روح بن عبادة ، عن سفيان الثوري ، عن طلحة . . . إلى آخره .

                                                وأخرجه الجماعة غير البخاري :

                                                فقال مسلم : ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : ثنا وكيع ، عن طلحة بن يحيى ، عن عمته عائشة بنت طلحة ، عن عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - : "دخل علي رسول الله - عليه السلام - ذات يوم فقال : هل عندكم شيء ؟ فقلنا : لا ، قال : فإني إذا صائم . ثم أتانا يوما آخر فقلنا : يا رسول الله أهدي لنا حيس . فقال : أدنيه فلقد أصبحت صائما ، فأكل " .

                                                [ ص: 282 ] وقال أبو داود : ثنا عثمان بن أبي شيبة ، قال : ثنا وكيع ، عن طلحة بن يحيى ، عن عائشة بنت طلحة ، عن عائشة قالت : "كان النبي - عليه السلام - إذا دخل علي قال : هل عندكم طعام ؟ فإذا قلنا لا قال : إني صائم " .

                                                وقال الترمذي : ثنا هناد ، قال : ثنا وكيع ، عن طلحة بن يحيى ، عن عمته عائشة بنت طلحة ، عن عائشة أم المؤمنين قالت : "دخل علي رسول الله - عليه السلام - يوما فقال : هل عندكم شيء ؟ قالت : قلت : لا ، قال : فإني صائم " .

                                                وقال النسائي : أنا إسحاق بن إبراهيم ، قال : أنا وكيع ، قال : أنا طلحة بن يحيى . . . إلى آخره نحوه .

                                                وأخرجه النسائي من وجوه كثيرة .

                                                وقال ابن ماجه : ثنا إسماعيل بن موسى ، ثنا شريك ، عن طلحة بن يحيى ، عن مجاهد ، عن عائشة قالت : "دخل علي رسول الله - عليه السلام - فقال : هل عندكم شيء ؟ فنقول : لا ، فيقول : إني صائم ، فيقيم على صومه ثم يهدى لنا شيء فيفطر . . . " الحديث .

                                                قوله : "كان يحب طعاما . . . " أي : طعاما من الأطعمة ، أراد به نوعا خاصا منها ، والظاهر أنه كان حيسا ، وهو الطعام المتخذ من التمر والأقط والسمن ، وقد يجعل عوض الأقط الدقيق .

                                                وهذا الحديث حجة على الظاهرية في منعهم ذلك إلا بنية من الليل .

                                                [ ص: 283 ] وقال ابن حزم في "المحلى " : ولا يجزئ صوم التطوع إلا بنية من الليل ، وهو قول مالك وأبي سليمان .

                                                قلت : مذهب الجمهور جواز ذلك ما لم ينتصف النهار ، وهو مذهب عائشة أم المؤمنين ، وعلي بن أبي طالب ، وعبد الله بن عمرو ، وعبد الله بن عباس ، وأنس ، وأبي طلحة ، وأبي أيوب ، ومعاذ بن جبل ، وأبي الدرداء ، وأبي هريرة ، وابن مسعود - رضي الله عنهم - .

                                                وهو قول جماعة من التابعين أيضا منهم : سعيد بن المسيب وعطاء الخراساني ، وعطاء بن أبي رباح ، ومجاهد والنخعي ، والشعبي ، والحسن البصري .

                                                وأما نية صوم التطوع بعد الزوال فغير جائزة عند أصحابنا ، وقال سفيان الثوري وأحمد بن حنبل : من أصبح وهو ينوي الفطر إلا أنه لم يأكل ولم يشرب ولم يطأ ; فله أن ينوي الصوم ما لم تغلب الشمس ويصح صومه .

                                                وروي نحو ذلك عن حذيفة أنه قال : " من بدا له في الصيام بعد أن تزول الشمس فليصم " .

                                                ويروى ذلك عن عطاء ، وسعيد بن المسيب .




                                                الخدمات العلمية