الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                3395 ص: فإن قال قائل : كان ذلك مما خص به رسول الله - عليه السلام - ، ألا ترى إلى قول عائشة - رضي الله عنها - : "وأيكم كان أملك لإربه من رسول الله - عليه السلام - " .

                                                قيل له : إن قول عائشة - رضي الله عنها - هذا إنما هو على أنها لا تأمن عليهم ولا يأمنون على أنفسهم ما كان رسول الله - عليه السلام - يأمنه على نفسه ; لأنه كان محفوظا .

                                                والدليل على أن القبلة عندها لا تفطر الصائم ما قد روينا عنها أنها قالت : "فأما أنتم فلا بأس به للشيخ الكبير الضعيف " ، أرادت بذلك أنه لا يخاف من إربه ، فدل

                                                [ ص: 512 ] ذلك على أن من لم يخف من القبلة وهو صائم شيئا آخر وأمن على نفسه ; أنها له مباحة ، وقد ذكرنا عنها في بعض هذه الآثار أنها سئلت عن القبلة للصائم فقالت جوابا لذلك السائل : "كان رسول الله - عليه السلام - يقبل وهو صائم " ، فلو كان حكم رسول الله - عليه السلام - في ذلك عندها خلاف حكم غيره من الناس إذا لما كان ما علمته من فعل النبي - عليه السلام - جوابا لما سئلت عنه من فعل غيره ، وقد سألها عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - لما جمع له أبوه أهله في شهر رمضان عن مثل ذلك فقالت : "كان رسول الله - عليه السلام - يفعل ذلك " ، وهذا عندنا لأنها كانت تأمن عليه ، فدل ما ذكرنا على استواء حكم رسول الله - عليه السلام - وسائر الناس عندها في حكم القبلة إذا لم يكن معها الخوف على ما بعدها مما تدعو إليه ، وهو أيضا في النظر كذلك ; لأنا قد رأينا الجماع والطعام والشراب قد كان ذلك كله حراما على رسول الله - عليه السلام - في صيامه كما هو حرام على سائر أمته في صيامهم ، ثم هذه القبلة قد كانت لرسول الله - عليه السلام - حلالا في صيامه ; فالنظر على ما ذكرنا أن تكون أيضا حلالا لسائر أمته في صيامهم أيضا ، ويستوي حكمه وحكمهم فيها كما يستوي في سائر ما ذكرنا .

                                                التالي السابق


                                                ش: تقرير السؤال أن يقال : إن القبلة في الصيام كانت مخصوصة للنبي - عليه السلام - ، والدليل عليه قول عائشة : "وأيكم كان أملك لإربه من رسول الله - عليه السلام - " فلا تجوز لغيره حتى لو قبل وهو صائم ينقض صومه .

                                                وتقرير الجواب أن يقال : لا نسلم دعوى الخصوصية ، وقول عائشة ذلك لا يدل عليها ، بل إنما قالت ذلك لأنها ما كانت تأمن عليهم لكونهم غير محفوظين ، فلا يأمنون على أنفسهم ، بخلاف رسول الله - عليه السلام - فإنه كان محفوظا .

                                                والدليل على أن القبلة لا تفطر الصائم عندنا قولها : "أما أنتم فلا بأس به للشيخ الكبير الضعيف " .

                                                أرادت بهذا القيد أنه لا يخاف من إربه لضعف شهوته ، فدل ذلك على أن كل من لم يخف من القبلة والحال أنه صائم شيئا آخر مما يفسد صومه أنها له مباحة حتى إذا خاف شيئا آخر من ذلك يكره له ذلك .

                                                [ ص: 513 ] وقال ابن حزم : وقال قوم : هي خصوص للنبي - عليه السلام - ، فمن ادعى أنه خصوص له - عليه السلام - فقد قال الباطل ، ثم روى حديث زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار الآتي ذكره عن قريب ، وفيه : " إني لأتقاكم لله -عز وجل- وأعلمكم بحدوده " .

                                                قال فهذا الخبر يكذب قول من ادعى في ذلك الخصوص له - عليه السلام - لأنه أفتى بذلك - عليه السلام - من استفتاه .

                                                وقال أبو عمر : هذا دليل على أن الخصوص لا يجوز ادعاؤه عليه بوجه من الوجوه إلا بدليل مجتمع عليه ، وقال - عليه السلام - : " إنما بعثت معلما مبشرا ، وبعثت رحمة مهداة " - عليه السلام - .

                                                قوله : "وقد ذكرنا عنها " أي : عن عائشة - رضي الله عنها - . . . إلى آخره ، وهو ظاهر .

                                                وذكر هذا أيضا لإبطال دعوى الخصوص ، ولاستواء حكم رسول الله - عليه السلام - وحكم سائر الناس عند عائشة في حكم القبلة إذا لم يكن ثمة خوف مما يفسد الصوم .

                                                قوله : "وهو أيضا في النظر كذلك " أي الاستواء المذكور أيضا كذلك في القياس والنظر ، وهو ظاهر أيضا .




                                                الخدمات العلمية