الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                3196 ص: حدثنا علي بن شيبة ، قال : ثنا يزيد بن هارون ، قال : ثنا يحيى بن سعيد ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن محمد بن جعفر بن الزبير ، عن عباد ابن عبد الله بن الزبير ، عن عائشة - رضي الله عنهما - : " أن رجلا أتى النبي - عليه السلام - فذكر له أنه احترق ، فسأله عن أمره ؟ فقال : وقعت على امرأتي في رمضان ، فأتى النبي - عليه السلام - بمكتل يدعى العرق فيه تمر فقال : أين المحترق ؟ فقام الرجل ، فقال : تصدق بهذا " .

                                                التالي السابق


                                                ش: إسناده صحيح ، ورجاله رجال الصحيح ما خلا ابن شيبة .

                                                وأخرجه البخاري : ثنا عبد الله بن منير ، سمع يزيد بن هارون ، قال : أنا يحيى -وهو ابن سعيد - أن عبد الرحمن بن القاسم أخبره ، عن محمد بن جعفر بن الزبير بن العوام بن خويلد ، عن عباد بن عبد الله بن الزبير أخبره : أنه سمع عائشة تقول : إن رجلا أتى النبي - عليه السلام - فقال : إنه احترق ، قال : ما لك ؟ قال : أصبت أهلي في رمضان ، فأتي النبي - عليه السلام - بمكتل يدعى العرق ، فقال : أين المحترق ؟ فقال : أين المحترق ؟ فقال : أنا ، قال : تصدق بهذا " .

                                                وأخرجه مسلم : ثنا محمد بن رمح بن المهاجر ، قال : أخبرنا الليث ، عن يحيى ابن سعيد ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن محمد بن جعفر بن الزبير ، عن عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن عائشة أنها قالت : " جاء رجل إلى رسول الله - عليه السلام - فقال : احترقت ، قال رسول الله - عليه السلام - : لم ؟ قال : وطئت امرأتي في رمضان نهارا ، قال : تصدق قال : ما عندي شيء ، فأمره أن يجلس ، فجاءه عرقان فيهما طعام ، فأمره أن يتصدق به " .

                                                [ ص: 302 ] وفي رواية أخرى بعد قوله : "تصدق ، فقال : والله يا نبي الله ما لي شيء وما أقدر عليه ، قال : اجلس ، فجلس ، فبينما هو على ذلك أقبل رجل يسوق حمارا عليه طعام ، فقال رسول الله - عليه السلام - : أين المحترق آنفا ؟ فقام الرجل ، فقال رسول الله - عليه السلام - : تصدق بهذا ، فقال : يا رسول الله أغيرنا ؟ فوالله إنا لجياع ما لنا شيء ، قال : فكلوه " .

                                                وأخرجه أبو داود : ثنا سليمان بن داود المهري ، قال : أخبرني ابن وهب ، قال : أخبرني عمرو بن الحارث ، أن عبد الرحمن بن القاسم حدثه ، أن محمد بن جعفر بن الزبير حدثه ، أن عباد بن عبد الله بن الزبير حدثه ، أنه سمع عائشة زوج النبي - عليه السلام - تقول : "أتى رجل إلى النبي - عليه السلام - في المسجد في رمضان ، فقال : يا رسول الله احترقت ، فقال النبي - عليه السلام - : ما شأنه ؟ فقال : أصبت أهلي ، قال : تصدق . قال : والله ما لي شيء وما أقدر عليه ، قال : اجلس ، فجلس ، فبينما هو على ذلك أقبل رجل يسوق حمارا عليه طعام ، فقال رسول الله - عليه السلام - : أين المحترق آنفا ، فقام الرجل ، فقال رسول الله - عليه السلام - : تصدق بهذا فقال : يا رسول الله أعلى غيرنا ؟ فوالله إنا لجياع ما لنا شيء ، قال : كلوه " .

                                                وله في رواية : "فأتي بعرق فيه عشرون صاعا " .

                                                قوله : "أن رجلا " قيل : هو سلمة بن صخر البياضي ، وقيل : سليمان بن صخر .

                                                قوله : "أنه احترق " أي : هلك ، والاحتراق الهلاك ، وهو من إحراق النار ، شبه ما وقع فيه من الجماع في الصوم بالهلاك .

                                                قوله : "وقعت على امرأتي " كناية عن وطئها كما في رواية البخاري : "أصبت " .

                                                قوله : "بمكتل " المكتل بكسر الميم : الزبيل الكبير ، قيل : إنه يسع خمسة عشر صاعا ، كان فيه كتلا من التمر أي قطعا مجتمعة ، ويجمع على مكاتل ، وفي "الدستور " :

                                                [ ص: 303 ] المكتل : الزنبيل الكبير . وقال القاضي : المكتل والقفة والزبيل واحد ، وسمي زبيلا ; لحمل الزبل فيه ، قال ابن دريد : والزبيل بكسر الزاي ويقال : بفتحها وكلاهما لغتان ، والعرق : بفتح العين والراء ، زبيل منسوج من نسائج الخوص ، وكل شيء مضفور فهو عرق ، وعرقة أيضا بفتح الراء فيهما ، قال القاضي : وسمي عرقا لأنه جمع عرقة وهي الضفيرة الواسعة من الخوص يخاط ويجمع حتى يصير زبيلا ، ومن سماه عرقة فلأنه منها ، ويجمع أيضا على عرقات ، وقد رواه كثير من شيوخنا وغيرهم : عرق بإسكان الراء ، والصواب رواية الجمهور بالفتح ، وقال المنذري : صحح بعضهم سكون الراء ، والفتح أشهر .

                                                ويستنبط منه أحكام :

                                                الأول : استدلت به طائفة على أن الذي جامع امرأته في نهار رمضان لا يجب عليه غير الصدقة على ما يجيء -إن شاء الله تعالى- بيانه .

                                                الثاني : استدل قوم بقوله : "بمكتل يدعى العرق " أن الصدقة مد لكل مسكين ; لأن العرق تقديره عندهم خمسة عشر صاعا ، وهو مفسر في الحديث ، فتأتي قسمته على ستين مسكينا الذي أمره النبي - عليه السلام - بإطعامهم مدا لكل مسكين .

                                                قلت : هذا قول مالك والشافعي وأحمد ، وقول أبي حنيفة والثوري : لا يجزئ أقل من نصف صاع ، ولا يتم استدلالهم بهذا ; لأنه جاء في رواية أبي داود فأتي بعرق فيه عشرون صاعا ، فلا يستقيم التقسيم حينئذ ، وجاء في رواية مسلم : "عرقان " ، وهو يدل على صحة قول أصحابنا ; لأن العرق إذا كان خمسة عشر صاعا يكون العرقان ثلاثين صاعا ، وثلاثون صاعا على ستين مسكينا يكون لكل مسكين نصف صاع .

                                                الثالث : قول المجامع امرأته : "احترقت " ، وفي قوله في الحديث الآخر : "هلكت " ، استدل به الجمهور على أن ذلك في العامد لجماعه دون الناسي ، وهو

                                                [ ص: 304 ] مشهور قول مالك وأصحابه ، وذهب أحمد بن حنبل وبعض أهل الظاهر وعبد الملك بن الماجشون وابن حبيب وأصحابنا ، وروي عن عطاء ومالك إلى إيجابها على الناسي والعامد في الجماع ، وحجتهم ترك استفسار النبي - عليه السلام - له ، وأن قوله : "وقعت على امرأتي " ظاهره عموم الوقوع في العمد والجهالة والنسيان ، إلا أن مالكا والليث والأوزاعي وعطاء يلزمونه القضاء ، وغيرهم لا يلزمه .

                                                قلت : التكفير شرع لتمحيص الذنوب ، والناسي غير مذنب ولا آثم فلا يلزمه الكفارة ، ولأن صومه لا يفسد فلا يجب شيء .

                                                الرابع : استدل به الجمهور على وجوب الكفارة على المجامع في نهار رمضان عامدا ، وإن كانوا اختلفوا في كيفية الكفارة ، وقد قال بعضهم : لا كفارة على المجامع أصلا وإن تعمد ، واغتروا في ذلك بقوله - عليه السلام - لما أمره أن يتصدق بالعرق من التمر وشكى الفاقة : "اذهب فأطعمه أهلك " فدل ذلك عندهم على سقوط الكفارة ، ويروى ذلك عن ابن سيرين والنخعي والشعبي وسعيد بن جبير .

                                                والجواب عن ذلك : أن الحديث ليس فيه ما يدل على إسقاط الكفارة جملة ، وأنه محمول على أنه أباح له تأخيرها لوقت يسره لا على أنه أسقطها عنه ، فافهم .

                                                الخامس : استدل به الشافعي وداود وأهل الظاهر على مذهبهم في أنه لا يلزم في الجماع على الرجل والمرأة إلا كفارة واحدة ; إذ لم يذكر له النبي - عليه السلام - حكم المرأة ، وهو موضع البيان ، والأوزاعي وافقهم إلا إذا كفر بالصيام فعليهما جميعا .

                                                وقال أبو حنيفة ومالك وأبو ثور : تجب الكفارة على المرأة أيضا إن طاوعته ، قال القاضي : وسوى الأوزاعي بين المكرهة والطائعة على مذهبه ، وقال مالك في مشهور مذهبه في المكرهة : يكفر عنها بغير الصوم . وقال سحنون : لا شيء عليها ولا عليه لها ، وبهذا قال أبو ثور وابن المنذر ، ولم يختلف مذهبنا في قضاء المكرهة والنائمة إلا ما ذكر ابن القصار عن القاضي إسماعيل عن مالك : أنه لا غسل على الموطوءة نائمة ولا مكرهة ولا شيء عليها إلا أن تلتذ .

                                                [ ص: 305 ] قال ابن القصار : فتبين من هذا أنها غير مفطرة ، وقال القاضي : وظاهره أنه لا قضاء على المكرهة إلا أن تلتذ ولا على النائمة ; لأنها كالمحتلمة ، وهو قول أبي ثور في النائمة والمكرهة .

                                                واختلف في وجوب الكفارة على المكره على الوطء لغيره على هذا .

                                                وحكى ابن القصار عن أبي حنيفة : أنه لا يلزم المكره عن نفسه ولا على من أكره .

                                                وقال صاحب "البدائع " : وأما على المرأة فيجب عليها أيضا الكفارة إذا كانت مطاوعة .

                                                وللشافعي قولان :

                                                في قول : لا تجب عليها أصلا .

                                                وفي قول : تجب عليها ويتحملها الزوج ، انتهى .

                                                وأما الجواب عن قولهم : إن النبي - عليه السلام - لم يذكر حكم المرأة وهو موضع البيان . أن المرأة لعلها كانت مكرهة أو ناسية لصومها ، أو من يباح لها الفطر ذلك اليوم لعذر المرض أو السفر أو الطهر من الحيض ، فافهم .




                                                الخدمات العلمية