الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                3166 3167 3168 3169 ص: فأنه حدثنا أحمد بن داود ، قال : ثنا إسماعيل بن سالم ، قال : ثنا هشيم ، قال : أنا حصين ومجالد ، عن الشعبي ، قال : أنا عدي بن حاتم قال : "لما نزلت هذه الآية وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود عمدت إلى عقالين : أحدهما أسود ، [والآخر أبيض ] فجعلت أنظر إليهما فلا يتبين لي الأبيض من الأسود ، فلما أصبحت غدوت على رسول الله - عليه السلام - فأخبرته بالذي صنعت ، فقال : إن وسادك لعريض ، إنما ذلك بياض النهار وسواد الليل " .

                                                [ ص: 263 ] حدثنا محمد بن خزيمة ، قال : ثنا حجاج بن المنهال ، قال : ثنا هشيم ، قال : ثنا حصين بن عبد الرحمن ، عن الشعبي ، عن عدي ، عن رسول الله - عليه السلام - مثله .

                                                حدثنا محمد ، قال : ثنا يوسف بن عدي ، قال : ثنا عبد الله بن إدريس الأودي ، عن حصين . . . فذكر بإسناده مثله .

                                                حدثنا ابن أبي داود ، قال : ثنا المقدمي ، قال : ثنا الفضيل بن سليمان ، عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد بن الساعدي قال : "لما نزلت وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود جعل الرجل يأخذ خيطا أبيض وخيطا أسود فيضعهما تحت وسادة ، فينظر متى يستبينهما فيترك الطعام . قال : فبين الله -عز وجل- ذلك ، ونزلت : من الفجر " .

                                                فلما كان حكم هذه الآية قد كان أشكل : على أصحاب رسول الله - عليه السلام - حتى بين الله لهم -عز وجل- من ذلك ما بين ، وحتى أنزل : من الفجر بعد ما كان قد أنزل حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود فكان الحكم أن يأكلوا ويشربوا حتى يتبين لهم حتى نسخ الله -عز وجل- بقوله : من الفجر على ما ذكرنا ما قد بينه سهل في حديثه ، واحتمل أن يكون ما روى حذيفة من ذلك عن رسول الله - عليه السلام - كان قبل نزول تلك الآية ، فلما أنزل الله -عز وجل- تلك الآية أحكم ذلك ورد الحكم إلى ما بين فيها .

                                                التالي السابق


                                                ش: الفاء للتعليل ، والضمير للشأن ، ولما ادعى أن حديث حذيفة كان يحتمل أن يكون قبل نزول قوله تعالى وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر أتى على ذلك بدليل ، وهو حديث عدي بن حاتم وحديث سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنهما - .

                                                أما حديث عدي فأخرجه من طريقين صحيحين :

                                                الأول : عن أحمد بن داود المكي ، عن إسماعيل بن سالم الصائغ أبي محمد البغدادي نزيل مكة شيخ مسلم ، عن هشيم بن بشير روى له الجماعة ، عن حصين -بضم الحاء [ ص: 264 ] وفتح الصاد المهملتين- ابن عبد الرحمن السلمي الكوفي روى له الجماعة . وعن مجالد بن سعيد الهمداني الكوفي روى له مسلم مقرونا بغيره والأربعة ، كلاهما عن عامر بن شراحيل الشعبي ، عن عدي بن حاتم الطائي الجوادي الجواد .

                                                وهذا الحديث أخرجه الجماعة .

                                                وأخرجه الترمذي بهذا الإسناد : ثنا أحمد بن منيع ، قال : نا هشيم ، قال : أنا مجالد ، عن الشعبي ، عن عدي بن حاتم قال : " لما نزل حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر قال لي النبي - عليه السلام - : إنما ذلك بياض النهار من سواد الليل " .

                                                وأخرجه البخاري : ثنا موسى بن إسماعيل ، ثنا أبو عوانة ، عن حصين ، عن الشعبي ، عن عدي قال : "أخذ عدي عقالا أبيض وعقالا أسود حتى كان بعض الليل نظر فلم يستبينا ، فلما أصبح قال : يا رسول الله جعلت تحت وسادتي . قال : إن وسادتك إذا لعريض ; إن [كان ] الخيط الأبيض والأسود تحت وسادتك " .

                                                حدثنا قتيبة بن سعيد ، ثنا جرير ، عن مطرف ، عن الشعبي ، عن عدي بن حاتم قال : "قلت : يا رسول الله ، ما الخيط الأبيض من الخيط الأسود ، أهما الخيطان ؟ قال : إنك لعريض القفا إن أبصرت الخيطين ، ثم قال : لا ، بل هو سواد الليل وبياض النهار " .

                                                الثاني : عن محمد بن خزيمة بن راشد ، عن يوسف بن عدي بن زريق -شيخ البخاري - عن عبد الله بن إدريس الأودي ، عن حصين بن عبد الرحمن ، عن الشعبي ، عن عدي .

                                                [ ص: 265 ] وأخرجه مسلم : ثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : ثنا عبد الله بن إدريس ، عن حصين ، عن الشعبي ، عن عدي بن حاتم قال : "لما نزلت حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر قال له عدي : يا رسول الله ، إنني جعلت تحت وسادتي عقالين : عقالا أبيض وعقالا أسود ، أعرف الليل من النهار . فقال رسول الله - عليه السلام - : إن وسادك لعريض ، إنما هو سواد الليل وبياض النهار " .

                                                وأخرجه أبو داود : نا مسدد ، قال : نا حصين بن نمير ، قال : ونا عثمان بن أبي شيبة ، قال : نا ابن إدريس المعنى ، عن حصين ، عن الشعبي ، عن عدي بن حاتم قال : "لما نزلت هذه الآية حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود قال : أخذت عقالا أبيض وعقالا أسود فوضعتهما تحت وسادتي ، فنظرت فلم أتبين ، فذكرت ذلك لرسول الله - عليه السلام - فضحك وقال : إن وسادك إذا لعريض طويل ، إنما هو الليل والنهار -وقال عثمان - : إنما هما سواد الليل وبياض النهار " .

                                                وأما حديث سهل بن سعد فأخرجه أيضا بإسناد صحيح .

                                                عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي ، عن محمد بن عمر بن علي بن عطاء بن مقدم المقدمي البصري شيخ الأربعة ، عن الفضيل بن سليمان النميري أبي سليمان البصري روى له الجماعة ، عن أبي حازم سلمة بن دينار الأعرج الأفزر التمار المدني القاص الزاهد الحكيم ، روى له الجماعة ، عن سهل بن سعد الساعدي الصحابي - رضي الله عنه - .

                                                وأخرجه البخاري ثنا ابن أبي مريم ، ثنا أبو غسان محمد بن مطرف ، حدثني أبو حازم ، عن سهل بن سعد قال : "وأنزلت وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر وكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط

                                                [ ص: 266 ] أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود، ولا يزال يأكل حتى تتبين له رؤيتهما ، فأنزل الله تعالى بعده من الفجر فعلموا أنما يعني الليل والنهار " .


                                                وأخرجه مسلم ثنا عبيد الله بن عمر القواريري ، قال : ثنا فضيل بن سليمان ، قال : ثنا أبو حازم ، قال : ثنا سهل بن سعد قال : "لما نزلت هذه الآية وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود قال : كان الرجل يأخذ خيطا أبيض وخيطا أسود فيأكل حتى يستبينهما حتى أنزل الله من الفجر فبين ذلك " .

                                                قوله : "عمدت " أي : قصدت ، قال الجوهري : عمدت للشيء أعمد عمدا : قصدت له ، أي : تعمدت ، وذكره في "دستور اللغة " من باب : ضرب يضرب .

                                                قوله : "إلى عقالين " العقال -بكسر العين- الحبل الذي يعقل به البعير ، وقال الجوهري : قال الأصمعي : عقلت البعير أعقله عقلا ، وهو أن تثني وظيفه مع ذراعه فتشدهما جميعا في وسط الذراع ، وذلك الحبل هو العقال ، والجمع عقل .

                                                قوله : "إن وسادك لعريض " كنى بالوساد عن النوم ; لأن النائم يتوسد ، أي : إن نومك لطويل كبير ، وقيل : كنى بالوساد عن موضع الوساد من رأسه وعنقه ، وتشهد له الرواية الثانية وهي قوله : "إنك لعريض القفا " فإن عرض القفا كناية عن السمن ، وقيل : أراد : من أكل مع الصبح في صومه أصبح عريض القفا ; لأن الصوم لا يؤثر فيه .

                                                قلت : يكنى عن الأبله بعريض القفا ، فإن عرض القفا وعظم الرأس إذا أفرطا قيل : إنه دليل الغباوة والحماقة ، كما أن استواءه دليل علو الهمة وحسن الفهم ، وهذا من قبيل الكناية الخفية ، والفرق بين الكناية والمجاز : أن الانتقال في الكناية من اللازم إلى الملزوم ، وفي المجاز من الملزوم إلى اللازم ، وهكذا فرق السماك وغيره .

                                                [ ص: 267 ] قوله : "فبين الله -عز وجل- ونزلت من الفجر " إشارة إلى أن قوله : من الفجر ناسخ لما كانوا يأكلون ويشربون إلى أن يتبين لهم الخيط الأبيض من الخيط الأسود ، فصار هذا بيانا لهم أن المراد به أن يتميز بياض النهار من سواد الليل .

                                                فإن قيل : كيف يجوز أن يكون المراد بقوله : الخيط الأبيض الفجر ، ويتأخر البيان مع الحاجة إليه ، وتأخير البيان عن وقت الحاجة مع بقاء التكليف لا يجوز ؟ .

                                                قلت : إن البيان كان موجودا فيه لكن على وجه لا يدركه جميع الناس ، وإنما كان على وجه يختص به أكثرهم أو بعضهم وليس يلزم أن يكون البيان مكشوفا في درجة يطلع عليها كل أحد ، ألا ترى أنه لم يقع فيه إلاعدي وحده ؟ وأيضا فإن النبي - عليه السلام -

                                                قال له : "إنك لعريض القفا ، وضحك " ولا يضحك إلا على جائز ، فافهم .

                                                قوله : "قد كان أشكل على أصحاب رسول الله - عليه السلام - وجه الإشكال عليهم أنهم حملوا اللفظ على حقيقته قبل نزول قوله : من الفجر وذلك لأن الخيط اسم للخيط المعروف حقيقة ، وهو مجاز واستعارة في سواد الليل وبياض النهار ، وجائز أن يكون ذلك قد كان شائعا في لغة قريش ومن خوطبوا به ممن كان بحضرة النبي - عليه السلام - عند نزول الآية ، وأن عدي بن حاتم ومن أشكل عليه ذلك لم يكونوا عرفوا هذه اللغة ; لأنه ليس كل العرب يعرف سائر لغاتها ، وجائز مع ذلك أن يكونوا عرفوا ذلك اسما للخيط حقيقة ولبياض النهار وسواد الليل مجازا ، ولكنهم حملوا اللفظ على الحقيقة ، فلما سألوا النبي - عليه السلام - أخبرهم بمراد الله تعالى منه ، وأنزل الله بعد ذلك من الفجر فزال الاحتمال ، وصار المفهوم من اللفظ سواد الليل وبياض النهار ، وقد كان ذلك اسما لسواد الليل وبياض النهار في الجاهلية قبل الإسلام مشهور ذلك عندهم . قال أبو دؤاد الإيادي :


                                                ولما أضاءت لنا (ظلمة . . . ولاح من الصبح خيط أنارا



                                                [ ص: 268 ] وقال الزمخشري : الخيط الأبيض : أول ما يبدو من الفجر المعترض في الأفق كالخيط الممدود ، والخيط الأسود: ما يمتد معه من غبش الليل شبها بخيطين أبيض وأسود .

                                                وقوله : " من الفجر " بيان للخيط الأبيض ، واكتفى به في بيان الخيط الأسود; لأن بيان أحدهما بيان للآخر . ثم إن قوله : " من الفجر " أخرج ذلك من باب الاستعارة فصار تشبيها بليغا ، كما أن قولك رأيت أسدا مجاز ، فإذا زدت : من فلان ، صار تشبيها . وإنما لم يقتصر به على الاستعارة مع كونها أبلغ من التشبيه وأدخل في الفصاحة ; لأن من شرط المستعار أن يدل عليه الحال أو الكلام ، ولو لم يذكر من الفجر أن الخيطين مستعاران ، فزيد من الفجر فكان تشبيها بليغا ، وخرج من أن يكون استعارة .




                                                الخدمات العلمية